التدبير التربوي للإبداع يتعلق النظر إلى الأمور والاعتبار بعواقبها، ورهانه حماية الفرد من المكروه، وبعبارة عصرنا تحريره من جحيم الحاجة والتبعية الحضارية للغير، ثقافيًا واجتماعيًا وعلميًا، وهكذا فإن معنى ما يشير إليه الباحث بعبارة التدبير التربوي هو وضع برامج تربوية تستند إلى دراسات علمية دقيقة، يكون من بين أهدافها الرئيسة تنمية وحفز الموهبة وقدرات التفكير الإبداعي لدى الطفل.
وفى دراسة بعنوان: «نحو تدبير تربوي للموهبة والإبداع»، للباحث: لطفي حجلاوي، المعهد العالي لإطارات الطفولة، جامعة قرطاج، يرصد الحاجة إلى صرف الجهود والأموال لوضع برامج خاصة بتنمية المهارات الإبداعية لدى أطفالنا؟ وما منزلة ذلك في سلم الأولويات الاجتماعية في عمليات التنمية البشرية والاقتصادية اليوم؟
لماذا العناية بالتفكير الإبداعي وتربية الموهبة
نقرأ الإجابة الأولى عند أبرز جماعة علمية ناشطة في مجال الإبداع، وهي جماعة كامبردج، التي أصدرت كتابها (الدليل في الإبداع (سنة 2010، في أكثر من خمسمائة صفحة، معتبرة أن ما يبرر اهتمامنا بمجال الإبداع كثير، ولكن أهم هذا الكثير أننا نعيش في مجتمع حيث يوشك معظم الذين لا يمتلكون روح التجديد الإبداعي أن يفشلوا في جميع مجالات الحياة المختلفة، مما يعنى أننا نعيش عصر: أنا أبدع أنا موجود، أنا لا أبدع أنا أجازف بفقد وجودي.
بينما يرد أحد المفكرين العرب المعاصرين على هذه الأسئلة بأن ما يبرر ضرورة عنايتنا بالتفكير الإبداعي وتربية الموهبة، هو مواجهة (التآكل في المجموعة) ويقصد هنا التآكل الثقافي للحضارة. بينما يفسر أوسفالد سبنغلر بعبارة أدبية رائعة ظاهرة التآكل الثقافي، ضمن كتابه انحدار الغرب بالقول: «تتحجر الثقافة فجأة وتموت ويسيل دمها وتخور قواها فتصير حضارة».
وهذا المصير المأساوي حسب سبنغلر حتمي لجميع الثقافات بما فيها الثقافة الغربية المعاصرة التي باتت في رأيه تسرع الخطى نحو هذه النهاية. بينما لا تحدث هذه النهاية المأسوية- موت ثقافة حية ما- إلا في حال استوفت فيه تلك الثقافة جميع إمكانياتها وقدراتها على الإنجاب والخصوبة، وصارت عاجزة عن إبداع عناصر قوة جديدة.
على هذا النحو يمثل الإبداع بالنسبة للفرد المعاصر لازمة جديدة يتحدد بها اجتماعيًا واقتصاديًا، وللثقافة ضمانة بقائها وشرط ديمومتها. وإذا سايرنا أوسوفلد سبنغلر في مماثلته بين الثقافة والكائن الحي في كتابه انحدار الغرب، سوف نقر بأن الإبداع هو الدماء الجديدة في جسد الثقافة وهو طاقتها ومنشطاتها، التي تجعلها تتقدم دائًما، ويمنعانها من الانحناء والسقوط.
وتدفق النشاط الإبداعي الحي بانتظام يؤدي إلى استقرار الوضع الصحي للثقافة، بينما يؤدى وفق هذا المنطق، اضطراب دورة الإبداع أو توقفه، إلى تحجر الثقافة وانحدارها. وقد لا نخطأ جميعنا في تقدير منزلة الحضارة العربية اليوم من هذا المقياس، مقياس حاجتها الماسة إلى تدفق القدرات الإبداعية وعودتها إلى الفعل.
ومن هنا نفهم لماذا يعتبر الكتاب العرب المعاصرون والمهتمون بمسألة الإبداع، أنه حتمية ثقافية وأن تربيته لدى أطفالنا، مسألة حيوية تقترن بالأمن الاجتماعي العربي. ويدللون على هذا الأمر بالمعطى التاريخي لازدهار دراسات وبرامج تربية الموهوبين في العالم المتقدم، إذ ليس من باب المصادفة أن تزدهر دراسات الإبداع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحديدًا وأثناء أوج اشتعال الحرب الباردة.
أن يمتلك الأفراد في مجتمع ما قدرات استثنائية في التفكير الإبداعي، هو أقصى ما تتنافس من أجله المجتمعات المعاصرة. وما شراء الأدمغة إلا جزء من لعبة القوى الكبرى من أجل امتلاك المواهب. ولا غرابة أن تقترن الدراسات في مجال تربية الذكاء بالأمن القومي للدول المتقدمة، بل إنه ليس من باب الصدفة كما ذكرنا أن يعرف هذا النوع من البحث العلمي قمة ازدهاره إبان الأزمات الدولية الكبيرة كالحرب الباردة. فأن تمتلك عقولًا قادرة على إبداع حلول مبتكرة للمشكلات الجديدة، يعنى أنك تمتلك احتياطي من القوة لا ينضب، يجعلك سيد المستقبل بامتياز.
فالأمر ليس في مجرد احتكار التفوق في الصناعات التقنية الدقيقة أو صناعة الفضاء، أو الصناعات الرقمية، بل في أبعد من ذلك، إذ يتمثل في المهارات القادرة على ضمان استدامة ذلك التفوق. ومن هذا المنطلق اتخذت مشاريع الكشف المبكر عن الموهبة، وتربيتها، بعدًا علميًا عميقًا. واليوم نقف على مادة تتعاظم باستمرار من تقنيات التعرف على المواهب وبيداغوجيات تربية التفكير الإبداعي.
من ناحية إبستمولوجية يعتبر العلم الذي يشتغل على الموهبة والإبداع، أحدث العلوم الاجتماعية إطلاقًا وأكثرها خصوبة الآن، فهو علم صناعة الذكاء واكتشاف الموهبة وتربية الإبداع. وهو علم يسميه البعض بهندسة عقول المستقبل. وينصب جهد البحث العلمي في هذا الموضوع على ملاحظة ودراسة وفهم مراحل العملية الإبداعية، وحتى وتخيلها في بعض الأحيان أو التجريب إذا كان ذلك ممكنًا، بهدف التحقق من الفرضيات المطروحة.
إن هذا الميدان العلمي، هو أحد مجالات علوم التربية بالمعنى الشامل للتربية. ولكنه يتكون من أرخبيل من المواد والمناهج العلمية المتنوعة، فهو أشبه ما يكون بلعبة (البازل) التي تتكون من تركيب القطع المتناثرة للصورة، إذ يتكون من شيء من علم النفس وعلم الشخصية وقياس الذكاء وشيء من علم الاجتماع وشيء من علم الوراثة وشيء من علوم التعلم. وهو من هذا الخليط أخذ شخصيته المستقلة وكيانه الإبستمولوجي الخاص.
أهداف علم الموهبة وتربية الإبداع
لم يطرق هذا الميدان العلمي المعاصر باب الثقافة العربية والعقلية العربية إلا حديثًا جدًا، بل لعله مازال يتردد على أبوابها في بعض المجتمعات العربية.
ويهدف علم الموهبة وتربية الإبداع، في تصورنا إلى تدبير الذات المعاصرة على نحو يجعلها أكثر قدرة على مواجهة تحديات الوجود الراهن. وذلك عبر حسم التناقض الأصلي الكامن في قوى النفس في اتجاه تغليب عناصر الذكاء والإبداعية والخلق، على قوى نفسية إرتكاسية من التفكير اليومي والسطحي والمستهلك، ذاك الذي تصنعه وتدافع عنه بشراسة «الثقافة غير المثقفة» أو «ثقافة الحشد» بعبارة بيار بورديو.
ففي التعريف: «الموهبة هي تجلي للذكاء العام في مجال معين من النشاط الإنساني وبمستوى أعلى من المعدل، مما يبشر بمساهمات أصلية في الميدان المعني».
فالموهبة أو الإبداع عبارة عن قدرات استثنائية يتمتع بها بعض الأفراد دون سواهم. وتتعلق بالقدرة على الإنتاج كما تتعلق بالإنتاج الحقيقي. أي أن الموهبة توجد في الآن نفسه في شكل استعدادات كامنة وفي شكل منجزات حقيقية. إنها القدرة من جهة، والأداء من جهة ثانية.
والمهارات الاستثنائية التي يملكها الشخص الموهوب في مجال ما، تجعل منه شخصًا استثنائيًا في ذلك المجال بعينه. وبهذا يقر علماء الموهبة بأن الموهبة مجالية وقطاعية، إذ انتهى عصر الشخص متعدد المواهب.
ويكاد يكون محسومًا في مجال معرفة الموهبة، بأن كل موهبة تتضمن في الآنِ نفسه البعدين الوراثي والبيئي. وغالبًا لا يتمكن الموهوبون من الذهاب بعيدًا بمواهبهم دون عناية وصقل وتطوير، أي دون تدبير تربوي. وكلما بكرنا في اكتشاف المواهب والروح الإبداعية، كان ذلك أفضل من جهة إمكان خصوبتها لاحقًا. بينما يقوم المبدأ الأصلي في تربية الموهبة وتنمية الإبداع على تطوير القدرة على مواجهة العالم وتحدي الذكاء البشري له.
وفي مجال العناية التربوية في المدرسة بالموهوبين وذوي القدرات الإبداعية الخاصة، يتنازع الجدل رأيان حاسمان في كيفية رعاية تلك المواهب. يعرف الرأي الأول بنزعته التقليدية وهو واسع الانتشار، حتى لدى معلمينا ومفكرينا البيداغوجيين في تونس، ويقوم على مبدأ التوسع والإثراء في محتوى البرنامج العادي، مقارنة بما يتلقاه الطفل غير الموهوب. وهو ما نرى تطبيقاته في معاهدنا النموذجية، حيث لا اختلاف في طبيعة البرنامج، وإنما فقط الاختلاف في عمق المضامين وثرائها.
بينما يتمثل الرأي الثاني في فكرة أكثر تحديًا للأولى، ويتمثل في مبدإ الإسراع في مقررات البرنامج. وذلك يعنى عمليًا الابتعاد كليًا عن البرامج العادية، والانتقال كليًا إلى برامج خاصة بفئة الموهوبين، وهو ما نرى له تطبيقات في بعض مدارسنا الابتدائية النخبوية. ولكنه لم يدخل بعد حيز التجربة في معاهدنا النموذجية، رغم أنه يمثل الرأي الذي يحوز الآن على مزيد من الموافقة من علماء الموهبة وتربية التفكير الإبداعي.
وبالنسبة للتربية ما قبل المدرسية فإن الدراسات العلمية اليوم في مجال التفكير الإبداعي تنصح مربي الطفولة ببذر الخصائص المميزة لروح الموهبة والإبداع وهي: أصالة التفكير، ومرونته، وطلاقته، وخصوبة الخيال، والرغبة في تحدي المشكلات، والثقة بالذات، وتثمين التفكير التباعدي وغير المألوف.
وتقدم برامج تربية الموهوبين عديد التطبيقات البيداغوجية التي توضح كيف تنمو تلك الكفايات من خلال الأنشطة التربوية اليومية، منها مثلًا تقنيات العصف الذهني واللعب المحاكي، والمسرح السوسيودرامي، وتمارين المهام المتقابلة، والوضعيات غير المتوقعة، وألعاب الخيال غير المحدود، وغيرها. مع اعتماد طريقة التغذية الراجعة وتقييم الملف التربوي أو الـ Portfolio في عمليات التقييم والكشف عن اتجاهات الموهبة، وتقدير نموها.
ثم مع نمو الشخصية تنمو وتتعقد طرق العناية بالموهبة. فلمستوى رياض الأطفال ما يناسبه من أساليب وتقنيات تختلف عن مستوى التعليم الابتدائي والذي بدوره يختلف، عن مستوى الثانوي الذي يتمتع بتقنياته الخاصة، وأخيرًا فإن المرحلة الجامعية تعد حسب الدراسات أخصب هذه المراحل في التعبير عن الموهبة والتفكير الإبداعي من جهة الإنجاز، لا من جهة الاستعداد. ولذلك يعِد لها علماء الموهبة برامج خاصة جدًا.
إن تربية الموهبة هي من أكثر المواضيع العلمية جلبًا للانتباه، لدى الكثير من علماء النفس والاجتماع والتربية في يومنا هذا. ومع ذلك لا يخلو مجالها من بعض الصعوبات والتعقيدات التي تحد كثيرًا من تعميم ملاحظاتها العلمية.
السبيل إلى توطين التفكير الإبداعي في المجتمعات العربية
إجرائيًا تتولى عمليات اكتشاف وتربية التفكير الإبداعي بدرجة أساسية، إلى جانب بعض مراكز تربية الموهبة، المدنية والدولية، والمؤسسات التربوية العمومية، وخاصة تلك المعنية برياض الأطفال والمستويات قبل المدرسية. ويقر علماء الإبداع أن جل الأطفال مبدعون في مقابل نسبة ضئيلة من الراشدين مبدعون، بل وذهب البعض إلى تحديد هذه النسبة من الكهول المبدعين بواقع من 1 إلى 2% في جل مجتمعات العالم المتقدم. ومعنى أن جميع الأطفال مبدعون، هو أنهم يحملون بالتساوي خميرة القدرات الإبداعية والإمكانيات المناسبة لصقلها وتربيتها وتوجيهها إبداعيًا على النحو المطلوب.
إن قراءة السير الذاتية لأشخاص مميزين في التاريخ من قبيل فولتير وروسو وفروبل صاحب فكرة رياض الأطفال نفسها، ونيوتن وموزار وشكسبير وتولوستوى وإنشتاين وفرويد وبيكاسو وستيفن هوكنغ، ومن العرب أبو القاسم الشابي ونجيب محفوظ ومحمود المسعدي ونزار قباني ومحمود درويش وأحمد زويل وغيرهم، تعطينا الانطباع بأنه لا وجود لأي قانون حتمي يفسر ظهور الموهبة من عدمه.
كما لو أن الأمر في توزيع المواهب الفذة عبر التاريخ على مثل السحاب في السماء قد نراه يتراكم في كل مكان، ولكننا لا نعلم أين سوف يصب بالتحديد. ومع ذلك، لا يزال عصرنا يردد صدى نفس الشعار التربوي للقرن الثامن عشر: تفعل بنا التربية كل شيء. ومن بين مستطاع التربية، تنمية التفكير الإبداعي وتطويره. فما هو المربع البيداغوجي الذي يمكنه توجيه فعل تربية الإبداع؟
إن تربية الطفل على الإبداع هي قبل كل شيء بجعله يبدع بنفسه ويستمر على هذا النسق. ويتطلب هذا الأمر أولًا إدراك المهارات أو الكفايات الأساسية التي ينبغي تنميتها من أجل تطوير الروح الإبداعية. ويكاد كل علماء الإبداع الأشهر في العالم يتفقون أن خصائص الروح الإبداعية الخمس التي أتينا على ذكرها، هي التالية:
- الأصالة.
- المرونة.
- الطلاقة.
- الخيال الواسع.
- الحساسية الذهنية الخاصة تجاه المشكلات.
- ويضيف البعض عنصرًا سادسًا هو التفكير التباعدي.
ويتم التعبير عن هذه القدرات أو المميزات النفسية للشخصية المبدعة، في بيداغوجيا تربية الإبداع، بالكفايات الأساسية. ونحن نعرف اليوم أنه لفكرة تعليم الكفايات اتجاه صلب ضمن النظريات البيداغوجية المعاصرة، حدد الأسس والمفاهيم النظرية وبنى الوسائل والتقنيات المناسبة لنمط التعليم القائم على مبدأ الكفايات.
وفي الواقع، فإن فلسفة التربية بالكفايات، قبل أن تكون مذهبًا أو تقنيات مميزة في التدريس، هي ثقافة يباشر بها المربي جميع تحديات العملية التربوية. إن جوهر هذه البيداغوجيا ينسجم تمامًا وروح الشعار القائل: «لا تعطني سمكة، بل علمني كيف اصطادها» فكيف يمكن أن ترقى تربية الكفايات إلى مستوى الآلية المناسبة لتربية الإبداع؟
إن تربيتنا للكفايات الأساسية في الشخصية المبدعة يضمن لنا أكبر فرصة ممكنة للحصول على الهدف النهائي، وهو ولادة المبدع.
وفي المطلق لدينا خياران منهجيان في تربية هذه الكفايات الأساسية، الأول أن توجه جهودنا وبرامج نشاطنا اليومية في مؤسسات تربية الطفولة المختلفة، إلى العناية بكل كفاية على حدة، وتطويرها وتهذيبها وتنميتها بما يناسبها من الوسائل. وهو طريق يجد مبرراته ودعائمه النظرية، في الادعاء بأن كل من هذه الخاصيات الذهنية لها ميزاتها وفرادتها وبالتالي استقلاليتها، التي ينبغي مراعاتها عند محاولة تربيتها.
ويواصل هذا الرأي تبرير ذاته بالتأكيد على أن الأطفال لا يمتلكون جميع كفايات الإبداع بالتساوي، فقد يفوق الواحد الآخر في امتلاكها. ويدعو هذا الاتجاه المربي إلى بناء جُذَاذَات عمله اليومية وفق سلم من الأهداف الدقيقة الخاصة بتنمية كل مهارة باستقلال عن سواها، وتوفير ما يناسبها من الوسائل التربوية لتحقيقها. ومن هنا يفرض هذا الخيار تغليب نشاطات الأطفال الفردية، على النشاط الفِرَقِي أو التعاوني.
أما الخيار المنهجي الثاني فهو السعي إلى تربية مجموع هذه الكفايات معًا وبطريقة ترابطية أو تكاملية أو وظيفية. ويستند هذا الخيار المنهجي إلى الادعاء بأن الفصل بين هذه الخاصيات الذهنية إجرائي لا غير، لأنها في الواقع جميعًا تنتمي إلى مجال واحد متحد هو الذهن ولا فصل طبيعي بين أحدها عن الآخر، بل إن تطوير أحدها قد يؤدي مباشرة إلى تطوير الخاصيات الأخرى.
ومن هنا تنصح بعض هذه الخيارات المنهجية المربي بأن يعتمد في بناء جذاذاته أهدافًا إجرائية شاملة، وأن يوفر الوسائل التربوية المناسبة من أجل تحقيقها. وغالبًا ما يميل هذا الخيار المنهجي إلى تنفيذ أهدافه عبر النشاطات الفرقية والتعاونية متجنبًا قدر الإمكان العمل الفردي.
أي هاذين الخيارين المنهجيين أفضل؟
تتحدد دلالة عبارة أفضل في هذا السياق بالنجاعة والجدوى. ومن الصعب مبدئيًا الحسم في هذه المسألة. غير أنه بالنظر إلى طبيعة الإبداع المعاصر، في بعض المجالات وخاصة المجال العلمي، فقد يبدو أن الأفكار الإبداعية العملاقة أو المميزة صارت منتجات جماعية، تنتجها جماعات علمية تنتمي إلى مخابر خاصة، في إطار سوق «اقتصاد معرفي» تحكمها تنافسية حادة. ومن ثمة فإن الرأي البيداغوجي المعاصر يميل إلى ترجيح فكرة العمل الجماعي على العمل الفردي.
كيف ننمي في إطار نشاطات فرقية وتعاونية تلك الكفايات الأساسية للإبداع؟ من التمشيات البيداغوجية المحمودة في هذا الموضوع، تقنية تسمى تربويًا «بالعصف الذهني». وتعود قصة هذه التقنية إلى مؤسسها العلمي الرسمي أوزبورن سنة 1938 والتي بلورها في كتابه (تطبيق الخيال)، والذي ظهر في طبعته الأولى سنة 1957. وقد كان هذا الرجل مسؤولًا عن دار نشر كبيرة، ولم تعجبه الاجتماعات القائمة لبحث وضع النشر في المؤسسة وذلك بالنظر إلى النقد الشديد الذي تتعرض له الاقتراحات المقدمة.
فخطرت لأوزبرن فكرة يمكن تسميتها بالنقد المؤجل، عبر ترك الخيال يشتغل دون تقييد مباشر من العقل. واشتقت هذه الطريقة من ملاحظة مفادها أن الذهن البشري لما يكون بصدد مواجهة مشكلة أو تحد ما، يستطيع أن يبدع خيارات خيالية متنوعة، ينتقي منها الأنجع والأسلم والأكثر عملية، بشرط توفر الاستثارات الفكرية المناسبة له، وعدم كبتها في المرحلة الأولى.
والعصف الذهني خطة تقوم على وضع الأطفال في مجموعات تشتغل بطريقة إرادية وحرة في مواجهة مشكلة يطالبون بحلها، دون أي شكل من الضغط. ثم تتبادل المجموعة الأفكار حول المشكلة التي تواجههم على نحو منظم ومتدرج وبتقنية في التوزيع ملائمة. يولد تبادل الأفكار بين الجميع نوعًا من هيجان إيجابي للأفكار، ينمو هذا الهيجان فيصير أمطارًا من الأفكار. وعبارة مطر من الأفكار هي أصل المعنى الذي أخذت منه طريقة العصف الذهني. والمطلوب من هذه الطريقة بالتحديد تعويد الأذهان على الانطلاق الحر في توليد تدافع تلقائي من الأفكار المختلفة مما يتيح توفير أكبر قدر ممكن من إمكانيات الحل.
وكان يقال مثلًا أن السياسي البريطاني المعروف الذي قاد بلاده في الحرب العالمية الثانية إلى الانتصار على النازية، ونستون تشرشل، يجد للمشكلة الواحدة أكثر من عشر حلول، غير أن الصعوبة التي كانت دائما تواجهه تتمثل في عجزه عن تميز أفضل تلك الحلول. إن المهم في طريقة العصف الذهني هو تركيزها على مبدإ الفصل بين مرحلتين منهجيتين: إنتاج الأفكار من جهة، وتأجيل محاكمتها من جهة ثانية.
تستهدف تقنية العصف الذهني سواء في مجالات التدريب أو التربية، تطوير كفايات الطلاقة والمرونة والخيال الواسع والأصالة في نفس الوقت. وهي كفايات إن تم ترويضها وتنميتها جميعًا تؤدي إلى نتائج باهرة. وحتى يتم استغلال العصف الذهنى بأفضل الوسائل عمد المربون إلى تنظيم هذه الطريقة عبر ربطها بتمشيات منهجية دقيقة. فرأوا مثلًا أن الفرقَ ينبغي أن تتراوح أعدادها بين 10 و12، وأن تكون المشكلة المقترحة عليها تمس بشكل مباشر ثلاثة أفراد منها على الأقل، وأن يتولى شخص من المجموعة إدارة الحوار ويكون صاحب مواصفات جيدة في فن القيادة والروح المرحة، بينما يساعده شخص آخر هو المقرر، وهو الذي يسجل ما يتم الاتفاق عليه.
ومن أبرز التوصيات حتى يحدث العصف الذهني المطلوب، بعد شرح المشكلة للجميع وتحليلها إلى عناصرها، ترك المجال بكل حرية لجميع أفراد الفريق لإعطاء تصوراتهم الأولية للحل بكل عفوية وتلقائية، وتأجيل النقد إلى المستوى المتأخر. على أن يتم الالتزام بالقواعد الأربعة التالية: عدم النقد، والإيحاء بأكبر قدر ممكن من الأفكار، ومتابعة الآخرين وتطوير مقترحاتهم، والجدية وعدم الاعتراض أو التهكم على أي فكرة.
وبعد ذلك على الفريق أن يراجع محصلة ما بين يديه من الاقتراحات، ويستعرضها في جو ودي من الحوار. وإذا ما فرغ الجميع من تلك الخطوة الثانية مروا إلى الاتفاق على الحل النهائي والذي هو عبارة عن أفضل الأفكار المقترحة، وهي الخطوة التي قد تستغرق يومًا كاملًا. وهكذا تنقسم اللحظات الأساسية لعمل الفريق إلى ثلاث هي: لحظة شرح المشكلة، لحظة جمع الحلول الممكنة، ولحظة الحسم باختيار حل جماعي أو إجماعي.
إن مزية هذه التقنية الجماعية في التفكير هي التوفيق في الآن نفسه بين ما يسمى بـ«التفكير التعاوني» و«التفكير الحر». وهذا النمط من التفكير التعاوني ميزته أيضًا، أنه يتجاوز كثيرًا حدود التفكير الفردي. كما أن فرصة الحصول على حلول إبداعية حقيقية تتضاعف في سياق تقنية «العصف الذهني» لأن كل اقتراح من ذهن ما، داخل المجموعة، يلعب دورًا مثيرًا يقود إلى مزيد تحريك الخيال والانفعال والتداعي. فإذا ما تزايدت المثيرات اتسعت دائرة الخيال وفتحت جميع اتجاهات الحل وذهب الذهن إلى أقصى حدود الممكن في استنباط حلول لم يسبقه إليها أحد.
غير أن طريقة العصف الذهني ليست ناجعة دائمًا في الوضعيات التالية: فرق كبيرة للغاية، أو لمواجهة نوع من المشكلات يتطلب المحاكمات العقلية لأنها خصبة، بل فقط تنجح مع تلك التي تتطلب حلولًا متنوعة، مثل بعض المشكلات الإدارية أو المتعلقة بالإشهار أو التقنية أو المشكلات الأمنية عند مسؤولي مكافحة الجريمة المنظمة والتحقيق لاكتشاف الجناة. وقد ذهب بعض علماء الإبداع إلى أن طريقة العصف الذهني لا ينبغي استعمالها بأمل حل المشكلات، وإنما فقط بأمل توفير الأفكار الممكنة.
قد تعمل هذه التقنيات على تفعيل الكفايات الأساسية الخمس السابقة، من طلاقة عبر منع أي صد لتوالد الأفكار التلقائي، وأصالة عبر ترك الحرية الكاملة لأي فكرة بالتوالد مهما بدت غريبة، وبالمرونة عبر فتح إمكانية البناء المتدرج للأفكار وتعويض الواحدة بالأخرى، والخيال عبر تزويد الأفراد بعضهم بعضًا بمثيرات لا حدود لها.
الإبداع والنشاط الخيالي
وفي سياق تربية هذه الكفاية الأخيرة، يلفت الأستاذ عبد الحميد حنورة الانتباه إلى مسألة فائقة الأهمية في موضوع تربية الخيال بقوله: «الإبداع مرتبط ارتباطًا إيجابيًا وقويًا بالنشاط الخيالي.. وقد لوحظ أن المرحلة ما بين السنة الثالثة والخامسة هي مرحلة نشوء ظاهرة ما يعرف باسم (الرفيق الخيالي)، تلك الظاهرة التي يتميز بها عادة الأطفال الموهوبون، ومن ثمة فإن إهمال رعاية النشاط الخيالي المرتبط بهذه الظاهرة يمكن أن يؤدي إلى جفاف طزاجة الفكر وخصوبة الخيال وجمود الإبداع، على عكس ما يمكن أن يحدث إذا ما تم الاهتمام برعاية هذا الجانب بما يقود إليه ذلك من خصوبة السلوك وارتقاء الخيال وتنشيط الطاقة الإبداعية وهو ما أدى إلى إفقاد المعلم والمتعلم حرية التفكير وانطلاقه في سماء الممكن، فقاد إلى ميكانيكية التعلم وأدى إلى خسائر تربوية»
إن على مربي الإبداع، وهو كل مربٍ مدرك لدوره المصيري في تطوير الموهبة، أن يركز في المرحلة الأولى أو الطفولة ما قبل المدرسية الانتباه على أن أهم ما يتعلق بالنشاط الإبداعي فيها، هو نشاط الخيال أو التوهيم وفي سياق هذا النشاط الخيالي يذكر الأستاذ مصطفى سويف، بأن الطفل يحيط نفسه بعالم تتكون عناصره من أشخاص ومكونات خيالية.
ونحن الكبار نراه لعبًا، ولكن الطفل يراه من منظوره أمر جدي للغاية. ويترتب على المربين في هذه السن مساعدة الطفل قدر الإمكان على التمييز بين الخيال والواقع، لأن ذلك يرقى بوعيه إلى الإدراك الموضوعي للعالم وبالتالي يساهم في نموه المعرفي والعقلي. لكن المشكلة التي تواجهها كل تربية للطفولة ما قبل المدرسية، تتمثل في هذه المفارقة: كيف نساعد الطفل على الإدراك الموضوعي للعالم، وأن ننمي لديه ملكة الخيال في نفس الوقت؟
ويبدو في عصرنا الراهن أن طريقة العصف الذهن قد جمعت أغلب هذه التقنيات وجعلتها متكاملة في إنتاج الفكر المبدع.
وفضلًا عما تقدم فإن من بين التقنيات المنصوح بها، ولعلها الأقدم في تنمية كفايات الأصالة في التفكير ما كان روس في 1898 قد نصح به في كتابه «سيكولوجية الابتكار»، إذ قدم طريقتين تربويتين بسيطتين أثبتتا نجاعتهما العملية في تحفيز قدرات الأصالة لدى الطفل.
تتمثل الطريقة الأولى في دعوة الأفراد وطلبهم رسم جميع الأشكال الممكنة التي لم يروها أو يتعرضوا لها في حياتهم السابقة.
أما الطريقة الثانية، فهي غير بعيدة عن هذه أيضًا وتقوم على دعوة الأفراد ووضعهم أمام شكل أو أشكال معينة ومطالبتهم برسم جميع الأشكال الممكنة الأخرى التي تختلف عما بين أياديهم.
وبتطبيق هذه الطريقة والمواظبة عليها يتعود الذهن تطوير قدراته في خلق أفكار أصيلة وجديدة تمامًا.
ومن التقنيات الكلاسيكية أيضًا، دعوة الأفراد إلى الكتابة في الموضوع الواحد بأكثر الطرق اختلافًا أو غرابةً أو تميزًا. وهي من الطرق الموصى بها لتنمية مهارة الأصالة لدى الكتاب الناشئين.
ومن الكلاسيكيات أيضًا في هذا المعنى قَدَّمَ تورنس نماذج كثيرة عن تمارين مختلفة، ولكن أشهرها في الرسم، ويمكنها أن تحقق نفس الهدف السابق، وذلك بدعوة الأطفال مثلًا إلى الانطلاق من نفس الخطوط العامة على الورقة الأصلية، وإضافة وإبداع ما يمكن تشكيله انطلاقًا من تلك الخطوط ذاتها.
بينما من الطرق الأكثر حداثة توظيف الألعاب اللغوية في تنويع المفردات للمعنى الواحد، أو تنويع الأوصاف للموضوع الواحد أو تخيل الشيء الواحد بجميع الألوان المختلفة، كأن نطلب من الطفل شمسًا زرقاء أو مصابيح سوداء... بغرض تعويده على الانفتاح على الممكن.
كما أنه من الوسائل الأخرى خلق أنواع من التحفيز للفكر الطريف لدى الطفل في كثير من المواقف والسياقات السلوكية داخل فضاء الروضة.
الخاتمة
عدا كل الذي ذكرناه يمكن القول عمومًا، أن تربية وتنمية الكفايات الإبداعية صارت مسألة حيوية لا للفرد ذاته فحسب، وإنما لمصلحة الدولة عامة. ولا تتوقف رعاية وتربية الموهبة عند سن معينة، بل أنه ينبغي لها أن تتخذ أشكالًا تقنية جديدة في كل مرحلة عمرية.
ففي الروضة لا يتم تطوير الإبداعية بنفس طرق المرحلة الابتدائية.
مثلما أن تقنيات تطوير الموهبة في المرحلة الثانوية لا تتناسب والمرحلة الابتدائية. وأخيرًا فإن للمرحلة الجامعية وسائلها الخاصة.
ولعله من المفيد جدًا الإشارة إلى خطورة المرحلة الجامعية، إذ أشارت عديد الدراسات إلى أن مستوى خصوبة التفكير الإبداعي الفعلية هي المرحلة الجامعية، بل إن البعض قد حدد أقصى منحنى الأداء الإبداعي بعمر 24 و26.
وفي جميع هذه المراحل، يبدو لي أن القاعدة الذهبية التي ينبغي أن تشتق منها جميع نشاطاتنا البيداغوجية المناسبة لكل سن، هي جعل الذهن مرن بجميع أنواع الرياضة الممكنة وإدامة تلك المرونة قدر الإمكان.
وهكذا، إذا كان المربي خريج التعليم الجامعي قد تكون بيداغوجيا في برامج تتيح له تنمية قدراته الإبداعية والتعبير عنها، فإنه في الأغلب لن يكون سوى شخصًا يحترم الإبداع وينميه لما تتاح له فرصة التحول من متعلم إلى معلم، فتكتمل الدورة، ويصير المبدع ذاته منتجًا لثقافة الإبداع، وحريصًا عليها.
وهو في رأينا ما تحتاجه المدرسة العربية، بل والحضارة العربية المعاصرة كي تنهض من سبات أناخ عليها قرونًا، وتعيد لعب دورها التاريخي بندية مع الحضارات المبدعة اليوم. على أن هذا الحلم بعودة الإبداع إلى ثقافتنا انطلاقًا من مدرستنا، لم تحركه فينا دوافع أكثر من الآمال الحضارية العريضة التي أيقظتها ثورة الربيع العربي (غير المكتملة).
.