التربية الإسلامية وصفات المربي

 

التربية هي أساس صلاح البشرية وفلاحها وهي القوّة الهائلة التي تستطيع القضاء على أمراض النفس وعيوبها وأمراض المجتمع وعيوبه. كما أنها تستطيع أن تزكّي النفوس وتنقيها وترشدها إلى عبادة الخالق عز وجل كمال العبادة. وهي قوّة تستطيع تنمية الأفراد وصقل مواهبهم وشحذ عقولهم وأفكارهم، وتدريب أجسامهم وتقويتها كما أنها تستطيع دفع المجتمع إلى العمل والاجتهاد ودفع أفراده إلى التماسك والتحاب والتراحم والتكافل. فإذا البشر مؤمنون، علماء ومبدعون، فنانون صناع حضارة ماهرون ومثابرون وإذا المجتمع كله مؤمن بالله متعاون متراحم متعلم متقبّل للأفكار الصالحة بل ومنتج لهذه الأفكار.

إذًا التربية هي الوسيلة الأساسية لحل المشكلات والنهوض بالأفراد والرقي بالأمم. والتربية الإسلامية تتميز عن غيرها من المناهج التربوية الشائعة في العالم بعلوية المصدر وسموه وإلاهيته وربانيته ولذلك فهي تربية متميّزة في كل شيء من حيث المصادر الكتاب والسنة ومن حيث الآسس فإنها تقوم على أسس قوية تتمثل في العقيدة والعبادة والتشريع؛ ومن هنا يتبين مدى الارتباط الشديد بين التربية من جهة والعقيدة والعبادة والتشريع من جهة ثانية في الإسلام. ومما لا شك فيه أن هذا الارتباط بحاجة إلى توضيح وتفصيل وبحث؛ وذلك لكي يتضح لدارسي التربية الإسلامية ومدرّسيها مدى التماسك والترابط والتأثير الموجود بين كل من هذه الأسس والفكر التربوي بشكل عام.

والعبادة بصفتها إحدى هذه الأسس ولعلاقتها المباشرة والعملية بسلوك الأفراد وتصرفاتهم ومعاملاتهم ومواقفهم فإن ارتباطها بالفكر التربوي يحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق.

وفى دراسة للباحث أحمد الزين بعنوان: (دور المسجد في تربية الأبناء تربية إسلامية)، مقدمة لكلية التربية بجامعة طرابلس بلبنان، يرصد الباحث دور المسجد كوسيط ثاني بعد البيت لتلقي التربية الإسلامية، ولقوّة مكانته قديمًا وحديثًا كمنبر من منابر الثقافة والدعوة إلى الله ولكونه مركزًا من مراكز العبادة وأصلًا لتلقي التربية.

 

  • تعريف التربية ومفهومها:

التربية لغة، لها أصول ثلاثة:

الأصل الأوّل: ربا يربو بمعنى زاد ونما. وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ﴾، ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾.

الأصل الثاني: ربا يُربي على وزن خفى يُخفي، ومعناه نشأ وترعرع وعليه قول الأعرابي:

فمن يَكُ سائلًا عني فإنّي         بمكة منزلي وبها ربيتُ

الأصل الثالث: ربّ يربُّ بوزن مدّ يمدُّ بمعنى أصلحه وتولّى أمره وساسه وقام عليه ورعاه.

وقد اشتق بعض الباحثين من هذه الأصول اللغوية تعريفًا اصطلاحيًا للتربية:

قال الإمام البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل): الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبلغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا. ثم وُصف به تعالى للمبالغة.

وفي كتاب مفردات الأصفهاني: (الربّ في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام).

واستنبط العلماء مما سبق أن التربية تتكون من العناصر التالية: المحافظة على فطرة الناشىء ورعايتها، وتنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة متنوعة، وتوجيه هذه الفطرة وهذه المواهب كلها نحو صلاحها اللائق بها.

والتدرج في هذه العملية. وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: «شيئًا فشيئًا»، والراغب الأصفهاني بقوله «حالًا فحالًا».

ثم يستخلص العلماء من هذه العناصر نتائج أساسية في فهم التربية:

- النتيجة الأولى: أنّ التربية عملية هادفة، لها أغراضها وأهدافها وغاياتها.

- النتيجة الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو اللّه الخالق: خالق الفطرة وواهب المواهب. وهو الذي سنّ سننًا لنمّوها وتدرّجها وتفاعلها، كما أنه شرع شرعًا لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها.

- النتيجة الثالثة: أنّ التربية تقتضي خططًا متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد، ينتقل مع الناشئ من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة.

- النتيجة الرابعة: أن عمل المربي تالٍ وتابع لخلق الله وإيجاده كما أنّه تابع لشرع الله ودينه وأحكامه.

وقد أجمل الشيخ محمد متولي الشعراوي هدف التربية بقوله: «إنّ التربية هي إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيّأه اللّه لها. فالتربية هي حيثية إيماننا بألوهيه اللّه، فنحن آمنا بالله معبودًا لأننا آمنا به ربًا».

إذًا التربية عملية متشعبة، ذات نظم وأساليب متنوعة، تنبع من التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، وتهدف إلى إيصال الإنسان شيئًا فشيئًا إلى درجة كماله التي هيّأه اللّه لها، وبذلك يستطيع القيام بحق الخلافة في الأرض عن طريق إعمارها، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج اللّه.

وللتربية وسائل عدة تستعين بها وهي تشمل جميع المؤثرات في سلوك الناشئ والتربية بالقدوة الحسنة، الجليس الصالح، الإفادة من العلم الحديث، التعليم.

ومن الملاحظ أنّ هذه الوسائل كلها تجتمع في جدول واحد هو العلم والتعليم.

 

  • علاقة التربية بالتعليم:

التربية والتعليم ليسا متعارضّيْن ولا منفصلين، بل هما متآزران ومتكاملان فالتعليم المثالي هو التعليم الذي يكون له هدف تربوي يسعى إلى تحقيقه والتربية علمٌ فهي علم إخبار وعلم إنشاء.

وتكون علم إخبار، حيث إنها إخبارٌ عن الحقائق الكلية والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي يتلقاها الإنسان فيسلم بها ويتكيف معها. إذًا هي علم بمعرفة قوانين اللّه في الكون التي تمّ اكتشافها من قبل.

وتكون علم إنشاء من حيث إنها محاولة إلى الكشف عن الحقيقة ومعرفة للقوانين والسنن التي خلق اللّه الكون عليها ولم تكتشف بعد. فالتربية هنا علم من علوم البحث ومناهج البحث التي تعين الإنسان على الاكتشاف والاختراع والإبداع.

ويدخل فيها (العلم) في العلوم الإنسانية التي تكتسب فيها المعرفة عن طريق الملاحظة والتفكير والإلهام ويدخل فيها (العلم) في العلوم الطبيعية الذي هو الوصول إلى معرفة قانون اللّه بالملاحظة والتجربة والتطبيق.

إذًا العلم والتعليم وسيلة من وسائل التربية وغاية لها ولكن لا بدَّ لهذه الوسيلة من معلمٍ يكون مربيًا إذ لا سبيل للناشئ كي يصل إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلاّ إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل، ويجنبه مواقع الأغاليط والأضاليل لأن النقص غالب على أكثر الخلق وعقولهم كثيرًا ما تخطئ إدراك الحق فكان تمييز الصواب من الخطأ يحتاج إلى كامل يهتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل علمًا بأنّ تمام الكمال لله وحده وحينئذٍ يصل إلى موارج السعادات ومعارج الكمالات. ولكن ما هي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها هذا الشيخ المربي حتى يصل إلى الهدف المنشود؟؟

 

  • صفات المربي الفاضل:

للمربي الناجح صفات كلما ازداد منها زاد نجاحه في تربية ولده الناشىء بعد توفيق الله، وقد يكون المربي أبًا أو أمًّا أو غير ذلك، وهذا لا يعني أنّ التربية تقع على عاتق واحد بل كل من حول الطفل يسهم في تربيته وإن لم يقصد. وصفات المربي كثيرة أهمّها: العلم، الأمانة، القوّة، العدل، الحرص، الخدم، الصلاح، الصدق، الحكمة.

العلم: عّدّة المربي في عملية التربية. فلا بدَّ أن يكون لديه قدر من العلم الشرعي إضافة إلى فقه الواقع المعاصر.

والعلم الشرعي: هو علم الكتاب والسنة، ولا يطلب من المربّي سوى القدر الواجب على كلّ مكلّف أن يتعلمه.

ويحتاج المربي أن يتعلم أساليب التربية الإسلامية ويدرس عالم الطفولة لأن لكل مرحلة قدرات واستعدادات نفسية وجسدية، وعلى حسب تلك القدرات يختار المربي وسائل زرع العقيدة والقيم وحماية الفطرة السليمة.

ولذا نجد اختلاف الوسائل التربوية بين الأطفال إذا اختلفت أعمارهم بل إن الاتفاق في العمر لا يعني تطابق الوسائل التربوية، إذ يختلف باختلاف الطبائع.

وعلى المربي أن يعرف ما في عصره من مذاهب هدّامة وتيارات فكرية منحرفة، فيعرف ما ينتشر بين الشباب والمراهقين من المخالفات الشرعية التي تفد إلينا، ليكون أقدر على مواجهتها وتربية الأبناء على الآداب الشرعية.

ومن الجوانب التي لا بدَّ أن تتوافر في شخصية المعلم المربي جانب إتقان المهنة والإلمام العلمي لمادة التدريس، المبني على الكفاية العلمية وما يترتب عليها من إتقان لمختلف مهارات التعليم وقد بيّن ذلك النبي صلى فقال: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».

والمعلم المربي يجب أن يكون قدوة للمتعلم يقتدي به في كل حركاته وتصرفاته فهنالك آداب يفترض توافرها في طبيعة شخصية المعلم كونها قدوة تربوية لأنها تمثل الصلة التعليمية بينه وبين الطالب ومن هذه الآداب:

1- الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلّم: فلا يطلب على إفادة العلم آجرًا ولا يقصد به جزاءً ولا شكورًا بل يعلّم لوجهه الله تعالى وطلبًا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منّة عليهم وإن كانت المنّة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم لأنهم هذبوا قلوبهم لأنّ التقرب إلى الله تعالى بزراعة العلوم فيها كالذي يعيرك الأرض لتزرع فيها لنفسك زراعة فمنفعتك فيها تزيد على منفعة صاحب الأرض، فكيف تقلده منة وثوابك في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا المتعلم ما نلت هذا الثواب فلا تطلب الأجر إلا من الله تعالى.

2- الأمانة: وتشمل كل الأوامر والنواهي التي تضمنها الشرع في العبادات والمعاملات ومن مظاهر الأمانة: أن يكون المعلم عاملًا بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر فإذا خالف العمل العلم منع الرشد؛ ومنها أيضًا أن يكون حريصًا على أداء العبادات ملتزمًا بها في شكله الظاهر وفي الباطن يسلك في حياته سلوكًا حسنًا وخُلُقًا فاضلًا مع القريب والبعيد في كل حال وفي كل مكان.

3- الصدق: وهو (التزام الحقيقة قولًا وعملا) والصادق بعيد عن الرياء في العبادات، والفسق في المعاملات وإخلاف الوعد وشهادة الزور وخيانة الأمانات وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم المرآة المسلمة التي نادت ولدها لتعطيه فسألها: «ماذا أردت أن تعطيه؟» قالت: «أردت أن أعطيه ثمرًا»، فقال: «لو لم تعطه شيئًا كُتبت عليك كذبة».

ومن مظاهر الصدق ألا يكذب المربي على ولده مهما كان السبب، لأن المربي إذا كان صادقًا اقتدى به أولاده، وإن كان كاذبًا ولو مرة واحدة أصبح عمله ونصحه هباء وعليه الوفاء بالوعد الذي وعده للطفل، فإن لم يستطع فليعتذر إليه.

4- الحزم: وهو وضع الأمور في مواضعها، فلا يتساهل في حال تستوجب الشدة ولا يتشدّد في حال تستوجب اللين والرفق.

وضابط الحزم: أن يُلزم ولده بما يحفظ دينه وعقله وبدنه وماله وأن يحول بينه وبين ما يضرّه في دينه ودنياه حتى لا يصبح ضعيفًا الإرادة، منقادًا للهوى غير مكترث بالحقوق المفروضة عليه.

5- التواضع للطلاب: ويطلب إلى المعلم المربّي إلى جانب أن يكون حازمًا جادًا في تعامله التربوي، أن يكون شديدًا في رحمة أحيانًا كما يتطلب منه إلى جانب ذلك أن يكون متواضعًا. كما قال تعالى: «واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين» (الشعراء: 210).

6- الشفقة: أن يشفق المربي على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده»، نظرًا لما تتطلبه العملية التربوية التعليمية من الرحمة والشفقة والحنو على الطلاب، إضافة إلى النصح والإرشاد والتوجيه.

7- النصح والإرشاد: ويكون ذلك بطرق التعريض ما أمكن ولا يصرّح وبطريق الرحمة لا بطرق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار، ولأن التعريض أيضًا يميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية إلى استنباط معانيه فبقدر فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به ليعلم أنّ ذلك مما لا يعزب عن فطنته.

هذه هي بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها المعلم المربّي القدوة حتى يستطيع تنشئة وتكوين إنسان سليم مسلم متكامل من جميع نواحيه المختلفة من الناحية الصحية والعقلية والاعتقادية والروحية والإدارية والإبداعية.

وهذا يجعلنا نتساءل عن طرحٍ جديد ألا وهو: ما هي أهداف منهج التربية في الإسلام؟

 

  •  أهداف منهج التربية في الإسلام:

من المعروف أن مناهج التربية التي لا تدرك الغاية من وجود الإنسان لا تستطيع أن تساهم في إعداده لوظيفته وتحقيق غاية وجوده. وهذا يعني أن هذه المناهج تكون ضالعة في إحداث الخلل في فطرة الإنسان ومن ثم في عمارة الأرض.

ومنهج التربية الإسلامية هو منهج إعداد الإنسان وفق شريعة الله ونظامه للكون والحياة ولكي يقوم المنهج بهذه المهمة فإنه يعمل على تحقيق مجموعة من الأهداف أهمها ما يلي:

1- إعداد الإنسان الصالح القادر على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله؛ فالإسلام يسعى لإعداد الإنسان الصالح بحيث لا يترك الناس يتخبطون في التيه، فسمات الإنسان الصالح ينبغي أن تتسم بما يلي:

أن يكون عبدًا ربانيًا تقيًا دائم الصلة بالله في كل فكر أو عمل أو شعور.

أن يكون شموليًا ومتكاملًا.

أن يكون حرًا مسؤولًا

أن يكون متوازنًا.

أن يكون إيجابيًا.

أن يكون واقعيًا.

أن يكون نشاطه كله حركةً موحدةً الاتجاه إلى الله.

فالإسلام عندما يتناول تربية الإنسان الصالح الذي يعرف الله ويتقيه ويؤمن بعبوديته له فإنه يأخذ بعين الاعتبار جميع المكونات التي تدخل في تركيبه؛ الروح، العقل، الجسم.

 

2- تربية الإرادة والضمير والوجدان:

فمنهج التربية الإسلامية يربي الإرادة الإنسانية عن طريق إشعار المتعلم بضرورة التقيد بعهد الله وذلك عن طريق الإتيان بكل ما أمرنا الله به وأن ننتهي عما نهانا عنه فتربية ضمير الإنسان ووجدانه تكون عن طريق عقد الصلة الدائمة بينهما وبين الله في كل فكر أو عمل أو شعور فالتفكر في الآيات التي تتحدث عن قدرة الله المبدعة تفتح بصيرة الإنسان على استشعار قدرة الخالق والتمسك بعبادته حيث يقول سبحانه: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون» (البقرة: 164) فالعبادة خير وسيلة لتربية الضمير الإنساني ومشاعره. فالأثر التربوي للعبادة يتمثل في زيادة الإيمان فقال تعالى: «وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا» (سورة الأنفال)، وينقص بالمعصية والتقصير في أداء العبادات المفروضة والمستحبة فإذا ما زاد الإيمان فلا بدَّ من أن تظهر آثاره واضحة حيث ينبثق عن ذلك معتقدات صحيحة، وأفهام سليمة، وأخلاق متزنة. ولا بدَّ من ترسيخ العقيدة الصحيحة عند النشء وذلك عن طريق التلقين للطفل ثم تعليمه القرآن وأصول الإسلام وأصول الإيمان مع الإصرار على تحفيظه السيرة النبوية بما تحتويه من آداب عالية حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة له.

ولا بدَّ من ترسيخ العقيدة أيضًا وتعليمه الأذكار الضرورية التي تلزمه في حياته اليومية.

 

3- تربية الطاقات العقلية:

فالإسلام دين الفطرة فهو يحترم الطاقات كلها ويعطي لكلّ منها حقّها ومنها الطاقة العقلية فهو يرّبي العقل الذي هو مناط التكليف وأداة التفكير فقد ظهر الاجتهاد في الإسلام الذي من خلاله كرّس الإسلام احترام حرية التفكير بما لا يخالف منهج الشريعة ولا سيمّا أن التفكير فريضة إسلامية، فيدرب الإسلام الطاقة العقلية عن طريق الاستدلال المثمر والتعرّف على الحقيقة بطريقتين:

أمّا الطريقة الأولى فهي: وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي فهو يبدأ بتفريغ العقل من كل المفردات السابقة التي لم تقم على دليل يقيني وإنما قامت على مجرد التقليد أو الظن فينعي على المقلدين الذين يقولون: «إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون» (الزخرف: 23).

والطريقة الثانية لتربية العقل هي تدبر نواميس الكون فهي تجري في دقة عجيبة ونظام لا يختلّ والتفكر في هذه النواميس يرشد العقل إلى تقوى الله الصانع المدبّر. فيؤكدوا الإسلام من خلال هذا التأمّل والتفكّر الذي غايته إصلاح القلب البشري وإقامة الحياة في الأرض على أساس القيم الثابتة في منهج الله وشريعته كالحق والعدل والخير.

ومنهج التربية الإسلامية يربي العقل أيضًا عن طريق توجهه إلى النظر في حكمة التشريع. كحكمة تشريع القصاص مثلًا قال تعالى: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» (البقرة 178).

ويربي منهج التربية الإسلامية العقل أيضًا عن طريق توجيه الطاقة العقلية إلى النظر في سنة الله في الأرض فقال تعالى: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين» (الأنعام).

وهكذا نرى أن منهج التربية الإسلامية يعد الإنسان الصالح المتكامل مراعيًا فطرة الله التي فطر الناس عليها فيعدّ الناشىء حتى يكون رجلًا.

 

4- تربية الطاقات الجسمية:

ومن أهم أهداف هذا المنهج أيضًا العناية بالمجسم الإنساني واستشعار طاقاته وتنمية المهارات الحركية، فمن مبادئ الإسلام الأساسية أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فالقوة هنا شاملة للعقيدة والعقل والتفكير والجسم والعمل. إذًا ينبغي أن تكون تربية النشء تربية رياضية. فيجب أن يوجّه الطفل بعد أن يتلقى علومًا قرآنية ولغوية ورياضية إلى نوع المهنة والحرفة التي تتفق مع قدراته واستعدادته فقد أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ساكني الأمصار يقول: «أمّا بعد فعلّموا أولادكم السباحة والفروسية وروّوهم ما سار من المثل وحسن من الشعر»، كان الغزالي يرى ضرورة الفرصة للصبي كي يلعب لعبًا جميلًا يحبّه ويستريح إليه لأن منعه من اللعب يميت قلبه، ويبطل ذكاءه وينقض عليه العيش وقد يدفعه إلى أن يحتال على المعلم ويتخلص من التعليم نهائيًا. وقد أكد القرآن الكريم على الوصول إلى الكمال في الإدراك والملاحظة والفهم والتحليل والتفسير والتقويم في قوله: «والله أخركم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل: 78) ومن العناية بالجسم الإنساني أيضًا الاهتمام بتلبية حاجات الطعام والشراب باعتدال فلا إفراط ولا تفريط فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل ثلثًا لطعامنا وثلثًا لشرابنا وثلثًا للهواء وأرشدنا إلى  صيانة البدن من الأوساخ والأمراض فعن أنس رضي الله عنه قال: «وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة».

 

5- إيصال الإنسان إلى مرتبة الكمال الإنساني: فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأودع فيه المواهب العقلية والقدرات والطاقات الجسمية وجعله قادرًا على الارتفاع بنفسه والسموّ بها إلى أن يصبح في درجة الملائكة كما أن بإمكانه الهبوط إلى درجة الشياطين قال تعالى: «ونفسٍ ما وسوّاها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دسّاها» (الشمس: 106).

إذًا فقد وضع الإسلام لهذه التزكية مبادىء تبدأ قبل وجود الفرد نفسه فأمر المسلم باختيار الوالدين وقال تعالى: «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم» (البقرة: 221)، حتى يتسنّى للفرد عند ولادته احتضانًا جيّدًا وتربية سليمة قائمة على أساس ديني كما حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلب العلم حيث قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»؛ وذلك حتى يستطيع الوالدين تربية الوالد تربية إسلامية علمية جيدة تعلّمه معنى الإسلام ومعنى التزكية للنفس ومعنى الإحسان والصبر والرحمة حتى يكبر وفي نفسه تلك الفروس على قاعدة سليمة فيتحقق فيه معنى الكمال الإنساني وهذا ما يريده الإسلام من تابعيه حتى يكونوا القدوة الصالحة في كل زمان ومكان ولكل الأفراد والجماعات على حد سواء.

 

6- الاهتمام بالفرد ككل مركب من أجزاء متكاملة: فالهدف العام ينصب على الأجزاء المتكاملة وهي الجسم والعقل والروح والهدف الخاص هو الإعداد للجهاد في سبيل الله لأن الإسلام قد نزل ليحكم الأرض ويقيم فيها حكم الله قال تعالى: «وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم» (الأنفال: 60). وقد يكون جهادًا بقوة العقل وقوة الفكر وقوّة الروح لإعلاء كلمة الله.

 

7- تربية الأمّ المتخصصة في إعداد الجيل الناشئ: إذًا لا بدَّ أن تكون الأم على قدر كافٍ من العلم والمعرفة في أساليب التربية والرعاية المنزلية حتى تتكون عندنا أسرة متكاملة حيث تستطيع أن تعطي أطفالها العلم الدنيوي والعلم الديني وأن تعطي بناتها إضافة إلى ذلك علم التدبير المنزلي ولا بدَّ أن تكون هذه الأمّ ذات أخلاق إسلامية متميزة حيث قال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين ترتب يداك»، وقال أيضا: «الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة»،  فقد أكد الإسلام على دين المرأة وصلاحها حتى تزرع ذلك في نفوس أطفالها.

 

8- تنمية القدرة على الضبط: فالضبط هو وسيلة الإنسان على الاستقامة على ميزان الله كما أنّه وسيلة من وسائل تربية الإرادة فكلّما تدرب عليه الناشئ وهو صغير كلما كان أكثر تمكنًا منه وهو كبير فالحب والحنان والرعاية من جانب وتنمية القدرة على الضبط من جانب آخر يمثلان أصلًا من الأصول الإسلامية وهو التوازن.

 

 تربية القدوة الحسنة والنماذج الفاضلة: حيث إنها أي القدوة الحسنة دائمًا قيمة موجية فهي تجعل الجهد الذي يبذل في تنشئة الأطفال على الإسلام جهدًا ميسرًا فهم سيتعلمون القيم الفاضلة والسلوك السوي بطريقة تلقائية ولا بدَّ من إعداد المربية المسلمة والمربي المسلم كما قلنا ضمن إطار الحديث النبوي الشريف: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته». ولا بدَّ من ربط النظرية بالتطبيق والقول بالعمل حيث يقول سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا لِم تقولون مالا تفعلون. كبر مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون» (الصف).

 

ينبغي أن يصدّق القول العمل حتى نكون القدوة الحسنة للنشء ولا بدَّ للمربي أن يعرف كيف يستثمر الطاقات والمواهب الفطرية بعد ضبطها وتوجهيها عند الناشئ. حيث يستطيع حينئذٍ أن يرشد الناشئ إلى نوع العلوم التي تناسب طاقاته واستعداداته فمن الضروري في علم التربية الإسلامية مراعاة ميول المتعلّم حيث يقول ابن سينا: «ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية ولكن ما شاكل طبعه وناسبه».

ومن خلال المراقبة المتتابعة لشخصية الناشئ يستطيع المربي أن يعرف طريقة تفكيره فيهتم بمنهج تفكيره فنجد أن كل ما سبق ينصبّ في الاهتمام بإعداد الإنسان للحياة وفق منهج الله.

 

  • خلافة الإنسان في الأرض وعمارتها: فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض إذ قال: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة».

حيث إن منهج التربية الإسلامية عني بالنواحي النفعية والإعداد للحياة الشاملة انطلاقًا من حقيقة استخلاف الله للإنسان في الأرض من أجل عمارتها وترقيتها فالإسلام نظام شامل كامل والعبادة فيه تشمل كل دقائق الحياة وتفصيلاتها وتنتظم جميع شؤونها وتضع القواعد لجميع مجالاتها؛ وعلى هذا فإذا كانت الغاية الأسمى لجميع المناهج الإسلامية هي الغاية الخلقية والوصول إلى الفرد (الفاضل) والمجتمع (الفاضل) فإن الوصول إلى أمة فاضلة هو هدف منشود ولا بدَّ لذلك من أن نبدأ من بناء الإنسان الصالح القادر على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله حتى نصل إلى حقيقة الاستخلاف في الأرض كما قال تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم» (النور: 55).

هذه هي باختصار بعض أهداف منهج التربية في الإسلام ولكن لا بدَّ للقيام بهذه المهمّة من وسيط يقدمّ الرعاية والعناية بالناشئ لإيصاله إلى الهدف المنشود ألا وهو بناء الإنسان المسلم المتميز خُلُقيًا وعلميًا.. وهذا الوسيط هو المسجد فما هو دور المسجد في تربية الناشئ؟

 

  • دور المسجد في التربية والتعليم:

لم يتوقف التعليم في الدور إلا بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنوّرة حيث كان أول عملٍ قام به النبي صلى لدى وصوله المدينة المنوّرة هو بناء المسجد وقد يتبادر إلى الذهن أن الغرض من بناء المسجد إنما هو أداء الصلاة والعبادة، وهذا في الحقيقة غرض واحد من بين عدّة أغراض مختلفة وليس التعليم أقلّها بعد العبادة حيث كان التعليم من أشدّ الوظائف بروزًا في الدور الذي كان يؤديه المسجد حيث اعتبر المسجد المكان الطبيعي لتلقي العلم، ومعرفة تعاليم الشريعة أولًا بأوّل فقد كان الرسول صلى يعقد حلقات العلم المسجد ليغشاه كل راغب في العلم فعن أبي واقد الليثي قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم، وأمّا الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليه السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».

 

الحديث الأول فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المسلمين في المسجد وفي الحديث الثاني حثّ على طلب العلم في بيوت الله عز وجل وفيه ترغيب لحضور مجالس العلم وتدارس القرآن الكريم في المسجد تحديدًا، لأفضلية التعليم والمدارسة في المسجد لأن المجالس في حلقة العلم في المسجد لا يعدم الخشوع والتأدب بأدب المسجد بالإضافة إلى كونه على وضوء وهذا مدعاة للاطمئنان والبركة والخير وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم...»، والواقع أن غرضهم من الاجتماع هو تلاوة القرآن وتدارسه ولا يخفى أن المدارسة عنوان واسع يشمل أشياء كثيرة في باب علوم القرآن. ثم رغب صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الملائكة تحف مجالس العلم ويذكرهم الله فيمن عنده وليس معنى ذلك حرمان الدارس والمتعلم في غير المسجد من الفضل وإنما هي أفضلية لمن يحرص على العلم في المسجد. ولا شك أن في ذلك جوانب تربوية مهمة لا تتوفر لمن يقبل على العلم في مكان آخر ليس له صفة القداسة والإجلال كما هو الحال في المسجد.

 

  • ختاما:

مما تقدم يتبين لنا ضرورة الاهتمام بالمسجد كونه أساسًا للتربية ودعامة من دعائهما ولا يكفي مجرد الاعتبار المعنوي وإنما المطلوب الاعتبار الفعلي التطبيقي ابتداء من التخطيط وتحديد الأهداف وإيضاح الغايات انتهاء بالعملية التربوية المباشرة المتعلقة بصياغة الأفراد وبناء المجتمع، وعلى هذا فيجب الاهتمام:

- بالمربي الذي هو بحاجة إلى مزيد من القراءة والاطلاع على الكتب والمراجع التي ألفت بالتربية وتهيئتها له.

- بالمسجد وتفعيل دوره وجعله منبرًا من منابر الثقافة والتربية والتعليم.

- بالناشئ وتعويده الذهاب إلى المسجد منذ صغره وتعليمه الآداب المتعلقة بالعلم والتعليم والتعلم.

وفي الختام نرجو من الله تعالى أن يجعلنا ممن يعبده ويخلص قصده في عبادته ويتربى في مدرسة العبادة إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم