إن التربية الإسـلامية ممثلة في أحد أهم مصادرها وهو السـيرة النبوية الشريفة، جعلت من شخصية المسلم محورها، فقد عملت على صياغة الشخصية الإسلامية صياغة متوازنة في جوانبها؛ العقدية والروحية والعقلية والاجتماعية والنفسية، فقدم المنهج النبوي أنموذجا مميزا وفريدا في تعامله مع ما يعتري النفس من أفراح وأقراح، وذلك من خلال توفير بيئة واقعية مدعمة بمنهج رباني.
ومن بديهيات الحكمة اهتمام السيرة النبوية المطهرة بالمشاعر والانفعالات الإنسانية؛ من حب وخوف وحسـد وتضحية وكبر وتواضع. إذ جمعت السيرة العطرة في ثناياها بين المعرفة المحضة، والتطبيق العملي، وذلك لبناء الشخصية الإنسانية المتكاملة المنضبطة، والسـائرة قدما بخطى ثابتة نحو مرضاة االله تعالى، وبما يعود بالخير والطمأنينة على الأفراد والجماعات.
وتمثل هذه الدراسة التى قام بها الدكتور جمال خليل الخالدى، الأستاذ بكلية الآداب- جامعة الزيتون الأردنية وآخرون، والمعنونة بـ(الذكاء الانفعالي والترقِّي بالعلاقات الاجتماعية: دروس تربوية من السيرة النبوية الشريفة)، محاولة تأصيلية للسيرة النبوية العطرة، في تعاملها مع النفس البشرية، لإطلاق طاقاتها، وضبط انفعالاتها، نظرا لأهمية ذلك في عصر تنتشر فيه لغة القلق والإحباط والعنف بكافة أشكاله.
نتيجة لما يزخر به عصر العولمة من ظهور أشكال متنوعة من الانفعالات السلبية، والأزمات العاطفية والأخلاقية التي تجتاح أكثر ميادين الحياة، فقد اتجهت لغة العالم المتحضر نحو مخاطبة الذات الإنسانية في أعماق عاطفتها، لتتحسس ما يعتري هذه الذات البشرية من ألم ومعاناة، فتأخذ بيد الإنسانية إلى ميادين الأمل والثقة وحسن التواصل، من خلال ضبط المشاعر والسيطرة عليها، لأن المشاعر هي التي تضفي على الحياة نكهتها وروحها، وتلعب دورا حاسما في توجيه طاقات الأفراد، مما يؤكد أهمية إدارة الانفعالات العاطفية وضرورة ضبطها.
ولذا ظهر مفهوم الذكاء الانفعالي أو الوجداني أو العاطفي، وزاد الاهتمام به، لفاعلية مهاراته في تحسين فهم الفرد لذاته، وتمكينه من إدراك تصرفاته والسيطرة على انفعالاته ومشاعره، وإدارتها بذكاء في المواقف الصعبة، ضمن أطر إيجابية بعيدة عن موجات الإحباط والاكتئاب والتشاؤم والتردد، فكان للغة الذكاء الانفعالي دورها البارز في مخاطبة المشاعر الإنسانية، وتعميق حس التعاطف مع الآخرين، وتزويد الفرد بالمهارات الاجتماعية التي تمكنه من التعامل الحسن مع محيطه، وهذا ما أشارت إليه دراسات كثيرة.
ومع تعدد تعريفات الذكاء الانفعالي، إلا أنه يشير في مضمونه إلى قدرة الفرد على مراقبة المشاعر والانفعالات الذاتية ومشاعر الآخرين، وإدارة هذه المشاعر والانفعالات بما يضمن حسن التواصل الاجتماعي، والنجاح في الحياة. وأما (Opateye,2014,241) فيرى الذكاء الانفعالي بأنه قدرة الفرد على التعامل الإيجابي مع نفسه والآخرين، محققا بذلك السعادة لنفسه ولمن حوله.
وبحسب دراسة (Andonian,2013) فإن الذكاء الانفعالي يشير إلى مجموعة من المهارات الانفعالية والاجتماعية التي يتمتع بها الفرد واللازمة للنجاح التخصصي والاجتماعي. ويحدد (Goleman,1995,51) مهارات الذكاء الانفعالي وفق النموذج الآتي:
1- الوعي بالذات: وتتمثل في قدرة الفرد على فهم مشاعره، ورصـد هـذه المشاعر والانفعالات لتقييم ذاته، ولذا تعد هذه المهارة من أهم مهارات الذكاء الانفعالي.
2- الدافعية: ويتمثل هذا البعد في قدرة الإنسان على استخدام وتوظيف مشـاعره لتحقيق أهدافه، بعيدا عن الاستسلام للقلق والاكتئاب.
3- إدارة الانفعالات (Emotional Management): وتتمثل فـي القـدرة علـى التعامـل مـع الانفعالات وإدارتها والتعبير عنها بطريقة مقبولة، والسيطرة علـى المشـاعر السـلبية كـالقلق والغضب.
4- التعاطف (Empathy): وتتضمن هذه المهارة القدرة على التقاط الإشارات الانفعالية للآخـرين وإدراكها والشعور بها، وصولا لإيجاد علاقات الألفة مع الآخرين.
5- العلاقات الاجتماعية (Social Skills): وتشمل هذه المهارة القدرة التأثيريـة فـي الآخـرين، وامتلاك مهارة القيادة وحسن الاتصال مع أفراد المجتمع.
أولا، الوعي بالذات:
ويقصد به قدرة الفرد على تفهم مشاعره، ورسم صورة واضحة لآماله وأهدافه، والسعي لتحقيقها. وتتضمن هذه المهارة معرفة جوانب القوة والضعف لدى الفرد، والتعرف إلى انفعالاته الذاتية، لأن إدراك الفرد لذاته يغرس في نفسه الثقة ويتيح له النظر بعين ملؤها الأمل، بحثا عن الاستعراف –محاولة معرفة الذات- وبعيدا عن ظاهرة التبخيس أو التقليل الذاتي من قيمة الفرد لنفسه.
وبتكوين الشخصية الواثقة المدركة لحقيقة ذاتها، يرتقي الفرد في سلم النجاح، وعندها يصعب تحويله عن هدفه الذي يمم شطره بوصلة طموحه، وهذا يخلق نوعا من احترام المرء لذاته وتقديره لها، وإيمانه الكامل بقدراتها، وعندها سيجد المرء نفسه مع توالي الإنجازات برقي دائم في ذاته، وستصغر أمامه كل المعوقات والصعوبات، لا سيما في ظل عصر يسوده القلق والاغتراب النفسي.
ووعي الإنسان بذاته، من الأهمية بمكان لأثره البالغ في صياغة أهداف الفرد، وتحديد أهم أولوياته، فهو عملية مفاوضة بين الشخص ونفسه، يقطع نفسه عن الظروف والعوائق والتحديات، ويركز جلّ اهتمامه على ما سيتم إنجازه، مما يسهم في مساعدة المرء في الانتقال نحو الإيجابية والعمل المستقيم، ومحاولة تحقيق أقصى درجات الكمال والرقي المعرفي، لأن إدراك حقيقة الفرد لذاته، يطور لديه فهما أكثر عمقا لمعنى الوجود.
ومن ثم فإن هذه المهارة تتمثل في توجيه الانفعالات والكوامن من الطاقة والقدرة نحو أهداف ذات أهمية، بغية الوصول إلى درجة عالية من الانفعالية والأداء الابتكاري من خلال التحفيز الذاتي، وربما يتعرض الفرد في هذه المرحلة للمعاناة والألم، فعليه أن يتيقن أن المعاناة والمصاعب تجعل منه عالي القيمة، كما يفعل الصقل بالمعادن النفيسة.
ولقد كان هذا حال رسول االله- صلى االله عليه وآله وسلم-، إذ رسم لأتباعه منهجا تشرئب له الأعناق، وتشخص في عظمته الأبصار، وتحار عند سماعه العقول، وتحن إلى تقليده عظام النفوس، ومن ذلك لما عرض عليه عمه أبو طالب الكف عن الدعوة، إرضاء وخوفا من قريش، إذ جاء في السير: «أن أبا طالب بعث إلى رسول الله- صلى االله عليه وسلم-، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، قال: فظن رسول االله- صلى االله عليه وسلم-، أنه قد بدا لعمه فيه بداء؛ أنه خاذله ومُسَلِّمُه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله- صلى االله عليه وسلم-: «يا عم! واالله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-، يغرس في نفوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم الاعتزاز من غير كبر، والقوة من غير غطرسة، ومن الأمثلة الدالة على تأكيد مفهوم الذات، ما رواه أنس بن مالك- رضي االله تعالى عنه-: «أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، وكان يهدي إلى رسول الله- صلى االله عليه وسلم- الهدية من البادية، فيجهزه رسول االله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن زاهرا باديتنا، ونحن حاضروه» (المعجم الكبير 5310:274/5)، وكان النبي صلى االله عليه وسلم يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه النبي- صلى االله عليه وسلم- يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل، فقال: «أرسلني، من هذا؟!» فالتفت فعرف النبي- صلى االله عليه وسلم-، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي- صلى االله عليه وسلم-؛ حين عرفه، وجعل النبي- صلى االله عليه وسلم- يقول: «من يشتري العبد؟!»، فقال: «يا رسول االله، إذا واالله تجدني كاسدا»، فقال النبي -صلى االله عليه وسلم-: «لكن عند االله لست بكاسد. أو قال: لكن عند االله أنت غال!».
ومن الأمثلة التطبيقية كذلك، في تنمية وعي الفرد بذاته وتأكيد الذات، ما رواه عبد الرحمن بن عوف- رضي االله عنه- حيث قال: «بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين حديثة أسنانهما -وهما معاذ بن الجموح، ومعاذ بن عفراء- فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله- صلى االله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، فلما بصرت أبا جهل قلت لهما: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله- صلى االله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: كلاكما قتله».
ثانيا، إثارة الدافعية:
وتعرف الدافعية بأنها شروط تنشئ النمط السلوكي وتساعد في استمراره، إلى أن تتحقق أو تُعاق الاستجابات، ويمكن تعريفها كذلك بأنها عبارة عن الحالات الداخلية أو الخارجية للكائن الحي التي تحرك سلوكه، وتوجهه نحو تحقيق هدف أو غرض معين، وتحافظ على استمراريته حتى يتحقق ذلك الهدف.
ومن ثم فإن أهمية الدافعية تتمثل في قدرتها على توجيه تصرفات الأفراد، وزيادة الجهد والطاقة والمثابرة لديهم، وتنمية قدرة الفرد على معالجة المعلومات، والحفاظ على استدامة السلوك، وبالتالي تحسين الأداء.
ولقد تعددت النظريات التي تفسر الدافعية؛ فمنها ما ركز على الجوانب البيولوجية؛ كعوامل الوراثة، والنمو، ومنها ما ركز على الجوانب السيكولوجية؛ المعرفية والانفعالية، ومنها ما تناول الجوانب البيئية؛ كالمادية منها والاجتماعية. وهذا وصف موجز لأهم النظريات التي تفسر الدافعية، وذلك بحسب مدارس علم النفس التربوي:
1- النظرية السلوكية أو الارتباطية:
وتُعنى هذه النظرية بتفسير الدافعية في ضوء نظريات التعلم ذات المنحى السلوكي، أو ما يطلق عليها عادة بنظرية (المثير والاستجابة)، إذ يؤدي الإشباع الذي يتلو استجابة ما إلى تعلم هذه الاستجابة وتقويتها، في حين يؤدي الانزعاج أو عدم الإشباع إلى إضعاف الاستجابة التي يتلوها، وهذا هو مضمون قانون الأثر، وترى هذه النظرية أن الدافعية قد تنشأ بفعل عوامل أو مثيرات داخلية؛ كالدوافع الفطرية، وحب الاستكشاف والاستطلاع، أو بفعل مثيرات خارجية، كالحوافز، والبواعث، التي تعد كمحركات لسلوك الأفراد، ويتم التركيز في هذا المنحى على التعزيز الإيجابي كالمكافآت والحوافز، التي تضمن زيادة احتمال حدوث السلوك وتكراره إذا اتبع بمعزز.
2- نظرية التحليل النفسي:
وتفسر هذه النظرية الدافعية بما لدى الفرد من استعداد نفسي وعصبي، يجعل صاحبه ينتبه إلى بعض المثيرات، ويستجيب لها وفقا لمبدأ تحقيق اللذة وتجنب الألم، مما يدفع الفرد إلى الاستمرار في المهام الموكلة إليه سعيا وراء النجاح والإنجاز.
3- النظرية الإنسانية:
وتركز هذه النظرية على أن الفرد يسعى إلى استغلال أقصى طاقاته، من أجل إشباع حاجاته المختلفة، ابتداء من الحاجات الفسيولوجية المتعلقة بالبقاء والحياة بحسب هرم (ماسلو)، ثم الحاجات الأمنية، كالأمن النفسي وتجنب القلق والفشل، ثم حاجات الانتماء، كالحب واحترام الآخرين، ثم حاجات تقدير الذات، فالحاجات المعرفية، وصولا إلى الحاجات الجمالية، وتحقيق الذات.
4- النظرية المعرفية:
إن تفسيرات هذه النظرية للدافعية تتعلق بمقدرة الفرد على معالجة المعلومات، إذ يدفع الفرد داخليا لأن يصل إلى حالة التوازن المعرفي، من خلال الحصول على الخبرة أو المعرفة، وترى هذه المدرسة أن الكائن البشري، مخلوق عاقل يتمتع بإرادة حرة ودرجة عالية من الضبط الذاتي تمنحه القدرة على الاختيار.
ومن ثم يمكن التمييز بين نوعين من الدافعية بحسب مصدر استثارتها، هما الدوافع الخارجية والدوافع الداخلية، إذ يمكن استثارة الدافعية الخارجية لدى الأفراد بما يتم تقديمه من حوافز مادية ومعنوية، وربما يكون الأقران مصدرا لهذه الدافعية فيما يبدونه من إعجاب أو حتى حسد لزميلهم، وبالتالي فهي تتمركز حول رغبة الفرد في إرضاء الآخرين، أو التوجه نحو المكافآت، أو تجنب الفشل.
أما الدافعية الداخلية فهي التي يكون مصدرها الفرد نفسه، حيث يقدم على التعلم مدفوعا برغبة داخلية لإرضاء ذاته، وسعيا وراء الشعور بمتعة التعلم، وكسب المعارف والمهارات والأنشطة التي يحبها ويميل إليها لما لها من أهمية بالنسبة له.
لهذا كان المنهج النبوي الشريف يحاول غرس الدافعية في نفوس الأفراد تارة، وتنميتها وتحفيزها بما يضمن ديمومتها واستمراريتها تارة أخرى، ومن ذلك لما جاء خباب بن الأرت رضي االله تعالى عنه، يشتكي إلى رسول االله صلى االله عليه وآله وسـلم، سوء الحال وضعف اليد في رد الظلم، ودفع أذى قريش عن المسلمين في أثناء الدعوة المكية، فقال: «شكونا إلى رسول االله صلى االله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة؛ قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو االله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. واالله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت؛ لا يخاف إلا االله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون!».
وقد سجلت حادثة الخندق مثالا آخر يمكن اشتقاقه من مشكاة النبوة الشريفة في إثارة الدافعية والحفاظ على استمراريتها، وذلك لما اعترضت صخرة كبيرة عمل المسلمين؛ فأعجزتهم، كما في الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي االله تعالى عنهما، إذ قال: «لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول، ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: ﴿وتَمتْ كَلمتُ ربك صدقاً وعدلاً لا مبدلَ لِكَلماته وهو السميع العليم﴾، فندر ثلث الحجر، وسلمان الفارسي قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب الثانية، وقال:﴿ وتَمتْ كَلمتُ ربك صدقاً وعدلاً لا مبدلَ لِكَلماته وهو السميع العليم﴾ فندر الثلث الآخر، فبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة، وقال: ﴿ وتَمتْ كَلمتُ ربك صدقاً وعدلاً لا مبدلَ لِكَلماته وهو السميع العليم﴾ فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رداءه وجلس، قال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حين ضربتَ، ما تَضرِب ضربة إلا كانت معها برقة، قال له رسول الله صلى االله عليه وسلم: يا سلمان رأَيتَ ذلك؟ فقال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: فإني حين ضربت الأولى، رفعت لي مدائن كسرى، وما حولها، ومدائن كثيرة، حتى رأيتها بعيني، قال له من حضره من أصحابه: يا رسول االله، ادع االله أن يفتحها علينا، ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول االله صلى االله عليه وسلم بذلك، ثم ضربت الضربة الثانية، فرفعت لي مدائن قيصر وما حولها، حتى رأيتها بعيني، قالوا يا رسول االله، ادع االله أن يفتحها علينا ويغنمنا ديارهم، ويخرب بأيدينا بلادهم، فدعا رسول االله صلى االله عليه وسلم بذلك، ثم ضربت الضربة الثالثة، فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى، حتى رأيتها بعيني».
ومن ثم فإن تنمية الدافعية وتحفيزها لدى الأفراد، تلعب دورا كبيرا في تطوير الشخصية، والارتقاء بها بفاعلية نحو مساحات النجاح والتفوق في كافة مجالات الحياة، وتقتضي إثراء الفرد بمفردات ومشاعر إيجابية وهالات من السعادة، بعيدا عن جلد الذات وتكليفها ما لا تطيق، أو إلقاء العبء على الآخرين وإعفاء الذات من المواجهة الفاعلة.
ثالثا، ضبط الانفعالات:
وتشير الانفعالات إلى اضطراب حاد في الحالة الجسمية والنفسية، ينشأ عنه حالة من التوتر والتهيج تجعل الفكر والنشاط الجسمي مركزا حول موضوع الانفعال (Kassam & Mendes;2013,2)، وعرفها (King & Gaerlan,2014,83) بأنها حالة وجدانية عنيفة، تأتي للفرد بصورة مفاجئة، ولا تدوم طويلا، تصحبها اضطرابات فسيولوجية وتعبيرات حركية.
أما عملية ضبط الانفعالات فإنها تشير إلى حالة ترشيد سلوك الفرد للتوافق السليم مع الموقف، وإدارة الانفعال بعيدا عن إيذاء الذات أو إيذاء الآخرين، ومحاولة مقاومة الأفكار السلبية التي تقفز إلى الواجهة مؤدية إلى تأجيج الموقف.
وفي ظل كون أكثر مجتمعات العالم تقدما أقل أمنا وطمأنينة، في معظم ميادين الحياة، وذلك لانتشار لغة العنف وفن الكراهية، وتزايد وتيرة الانفعالات السلبية والإحباط بين الأفراد (Goleman,1995,63)، فإن من أبرز المهمات التي تلقي بظلالها على مجتمعات الألفية الثالثة، تتمثل في تنمية قوة المقاومة الشخصية لدى الأفراد من خلال ضبطهم لانفعالاتهم بشكل يحقق الأمن لهم ولمحيطهم (Bruno & Chambliss,2012).
إن تأكيد الفرد لذاته يرتبط بالاتزان الانفعالي، لأنه ينمي قدرة الفرد في اتخاذ القرارات بحكمة وتروي، ويتحمل المسؤولية ويتصرف بإيجابية في المواقف المختلفة، فيعبر الفرد عن مشاعره بتلقائية في علاقاته مع الآخرين، ضمن القيم والمعايير والاتجاهات الصحيحة.
ومن ثم فإن ضبط الانفعالات في التصور الإسلامي يسهم في بناء المؤمن المتخلق بأكمل الأخلاق الربانية، المتزن في دوافعه ونـزعاته، الذي يدرك ذاته، ويحسن التصرف مع غيره، وهذا مضمون (النضج الانفعالي)، المؤدي إلى الصحة النفسية والمجتمعية، والذي يتميز صاحبه بالسمات الآتية:
1– الاستقرار الانفعالي، وهو أن يعبر الفرد عن انفعالاته بصورة متزنة بعيدة عن الأساليب الفوضوية أو الهجومية أو غير المنطقية.
2- القدرة على ضبط النفس في المواقف التي تثير الانفعالات، وهذا يشمل عدم التهور، وتأجيل اللذات العاجلة من أجل الظفر بلذات آجلة.
3- الثبات المزاجي، وهو يشير إلى عدم التذبذب بين الحزن والفرح، أو الانطوائية والانبساطية، كما أن صاحبه لا يستثار بمثيرات تافهة، ولديه القدرة على التخلص من الصفات الصبيانية؛ كالأنانية والخوف من المسؤولية.
ومن أهم العوامل الرئيسة التي تساعد في السيطرة على الانفعالات السلبية، ما يأتي:
1- تنمية الوازع الديني، فهو مؤشر شديد الأهمية، إذ الهدف الرئيس في التربية الدينية، تربية النفس وضبط سلوكها بما يرضي االله تعالى، وذلك مصداقا لقوله صلى االله عليه وسـلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».
2- تسليط القوة العقلية على القوة الغريزية، لكي تنقاد الحواس للعقل كانقياد الجند لأميرهم، وللتربية الأخلاقية دور هام في سيطرة العقل على الحواس وضبط الانفعالات، وذلك امتثالا لقوله صلى االله عليه وسلم: «ينادي مناد يوم القيـامة من بطنان العرش: ألا فليقم من كان أجره على الله؛ فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه».
وقوله صلى االله عليه وسلم: «من كظم غيظا -وهو قادر على أن ينفذه- دعاه االله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره االله من الحور ما شاء».
3- تجنب الانتصار للنفس، فالقدرة على ضبط النفس في المواقف التي تثير الانفعال، من خلال البعد عن التهور والاندفاع، وتأجيل التعبير المباشر عند الانفعال، بما يتيح للإنسان التفكير واختيار أنسب الاستجابات وتغليب الأهداف البعيدة، على الأهداف القريبة واللذات العاجلة.
4- الإيمان بالدور العظيم للتعليم والتدريب في ضبط الانفعالات والسيطرة عليها.
5- محاولة تغيير آلية التفكير أو زاوية النظر للموقف سعيا لاستثارة استجابات معارضة للانفعالات السلبية، مع إعطاء الخطأ حجمه الطبيعي، مما يجنب الفرد اتخاذ قرارات عشوائية أثناء الانفعال، ويعزز قنوات التواصل بين الأفراد.
إن انفعالات الإنسان وغرائزه عندما تنسجم مع دواعي الفطرة السليمة، وتستجيب لنداء الإيمان الباطني المتجذر في أعماق النفس البشرية، يسهل عليها الانقياد لتوجيهات الحق وأوامره والإصغاء لخطاب الوحي الرباني فيحصل للنفس الأمن والطمأنينة، لأن المؤمن عندها يتيقن أنه يرتع في ميادين رضا االله تعالى، قال جل وعلا: ﴿الَّذين ينفقُون في السراء والضراء والْكَاظمين الغَيظَ والْعافين عنِ النَّاسِ واللَّه يحب المحسنين﴾ (آل عمران:134).
ويمتلك الإسلام أسلوبا رائعا وفريدا في تربية وجدان الإنسان وانفعالاته، وذلك من خلال ما يسمى برياضة النفس وتأديبها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ونَفْسٍ وما سواها (7) فَأَلْهمها فُجورها وتَقْواها (8) قَد أَفْلَح من زكَّاها (9) وقَد خَاب من دساها (10)﴾.
ولقد كان رسول االله صلوات االله وسلامه عليه يهذب سلوكات أصحابه ويدربهم على ضبط انفعالاتهم، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي االله تعالى عنه، إذ قال: «بينما رسول االله صلى االله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه، وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول االله صلى االله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر. فقال أبو بكر: أوجدت- غضبت- علي يا رسول االله؟! فقال رسول االله صلى االله عليه وسلم: نـزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت، وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» (سنن أبي داود 4898:284/5).
ومن ذلك قوله صلى االله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ كان إذا أصبح قال: اللهم إني وهبت نفسي وعرضي لك؛ فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه، ولا يضرب من ضربه».
ولقد دعت التربية الإسلامية الإنسان اللجوء إلى االله تعالى، وبخاصة عند تأجج الانفعالات السلبية أو سيطرة الغضب أو الخوف على الفرد، وبذلك تؤول نفس المؤمن إلى الطمأنينة والاستقرار، بما يفوض من أمره إلى ربه عز وجل، قال تعالى: ﴿وأَصبح فُؤَاد أُم موسى فَارِغاً تِن كَادتْ لَتُبدي بِه لَولا أَن ربطْنَا علَى قَلْبِها لِتَكُون من المؤْمنين﴾ (القصص:10).
وعند اشتداد الخوف يرتفع مستوى الانفعال، وهنا يبرز الشاهد في أثر الدعاء، واللجوء إلى االله تعالى، في تحقيق الأمن والطمأنينة في أعماق الفرد المسلم، وتوجيهه ربانيا نحو منصة الأمن والإيمان، فيطمئن المسلم لحكمة االله تعالى، فلا ينهزم أمام تيارات اليأس والخوف والإحباط المتلاحقة، ولقد كان في رسول االله صلى االله عليه وسلم أسوة حسنة، وها هو بعد أن آذاه أهل الطائف ورفضوا دعوته، يدفع عن نفسه كل الانفعالات السلبية، بالتذلل والخضوع بين يدي ربه عز وجل، إذ يقول: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني، أم قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
ولقد وظفت التربية الإسلامية نصوصها، لبيان أثر الصبر الجميل، والسيطرة على النفس وتحمل المصاعب في الحياة، لغاية تحقيق الأهداف الأخروية والأهداف الدنيوية السامية. قال تعالى: ﴿ولَنَبلُونَّكُم بِشَيء من الخَوف والْجوعِ ونَقْصٍ من الأَموالِ والأَنفُسِ والثَّمرات وبشِّرِ الصابِرِين (155) الَّذين إِذَا أَصابتْهم مصيبةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّه وإِنَّا إِلَيه راجِعون (156) أُولَئِك علَيهِم صلَواتٌ من ربهِم ورحمةٌ وأُولَئِك هم المهتَدون (157)﴾ (البقرة:157-155)، فإذا ما وصل المرء إلى هذه المرحلة من السيطرة على النفس، فإن ذلك يعني أن لديه نضجا انفعاليا، إذ يستطيع أن يتقبل خبرات الحياة بوصفها فرصا للتعلم، ويحول هذه الخبرات إلى مضامينَ إيجابية هادفة.
ويعقب القرضاوي على ثمرة ضبط المرء لنفسه، والصبر والرضا بما نـزل به من مصائب بقوله: «إن هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان، وشجرة التوحيد الطيبة، التي تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. فهي نفحة من السماء ينـزلها االله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض، ليثبتوا إذا اضطرب الناس، ويرضوا إذا سخط الناس، ويوقنوا إذا شك الناس، ويصبروا إذا جزع الناس، ويحلموا إذا طاش الناس. هذه السكينة روح من االله، ونور؛ يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلِق، ويتســلى به الحزيـن، ويسـتروح به المتعب، ويـقوى به الضعيـف، ويـهتـدي به الحيـران».
هذه السـكينة نـافذة على الجنة يفتحها االله للمؤمنين من عباده؛ منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجا صغيرا لما ينتظرهم من نعيم، فينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان، والسلام والأمان.
إن مراقبة الفرد لمشاعره السلبية وتحكمه فيها، هو مفتاح الصحة العاطفية، لأن هذه المراقبة تساعد على رؤية الخبرات الشخصية من زاوية أخرى مختلفة (مشاهدة من الخارج)، فهي الوعي بالمشاعر والأفكار المرتبطة بها، وهذا يعني بناء الانفعالات بصورة تساعد الفرد على التوافق مع الموقف، فمقابلة الغضب بغضب مماثل يؤدي إلى تهيج في الوظائف العاطفية، وإلى المزيد من حالات العنف والعنف المضاد.
رابعا، إدارة التفاوض:
التفاوض هو نوع من الحوار وتبادل الاقتراحات بين الأطراف المختلفة بهدف التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى حسم قضية خلافية، مع الحفاظ في ذات الوقت على المصالح والاهتمامات المشتركة.
ومن ثم فإن التفاوض يرمي إلى تضييق مساحة الاختلاف، وتوسيع منطقة الاشتراك، وذلك من خلال المناقشة والإقناع تارة والاعتراض تارة أخرى، والتضحية تارة ثالثة، إلى أن يتحقق اتفاق مقبول، يتم فيه مراعاة مصلحة طرفي المفاوضات.
وبالتالي فإن هذه المهارة تزيد من قدرة الفرد على تحمل الضغوط وضبط النفس، وتمنحه المرونة في التعامل مع المشكلات، لا سيما في ظل أجواء يسودها التناشز (عدم التوافق) المعرفي أو العقدي أو السياسي.
وتحتاج هذه المهارة إلى الوضوح، والعلم والاستقامة، والتواضع، والقدرة على التنبؤ، من أجل تحديد أو توقع التحديات، بالإضافة إلى امتلاك الفرد القدرة على الحلول التفاوضية، وتأدية دور الوسيط الذي يمنع الصراعات، ويحل الخلافات في حال حدوثها، فهي إدارة العمل الدبلوماسي. وتقوم استراتيجيات التفاوض على الأسس الآتية:
1- التوضيح، وهذا ما أكده رسول االله صلى االله عليه وسلم في بداية صلح الحديبية، وذلك لما أخبر كل مندوبي قريش المفاوضين، أن المسلمين لم يأتوا لقتال، وإنما لتعظيم بيت االله الحرام، وأداء الشعائر الدينية.
2- البناء على ما يقوله الشخص الآخر، وهذا يعني البحث عن أرضية مشتركة بين الطرفين، حتى لا يتحول الطرف الآخر إلى حالة من الدفاع أو الهجوم.
3- تجنب اللوم إلى الجانب الآخر، ففشل المفاوضات يعني اشتراك كافة الأطراف في تحمل تبعات هذا الفشل، وهذا يشعر الفرد بالمسؤولية، وتحمل الأعباء، وحسن التصرف من غير هروب من الواقع.
4- الحذر من التصعيد، فلا تخرج كلمة أو موقف يسبب ضررا أو خسارة.
5- قطع الطريق على الإهانات، وعدم اللجوء إلى التعليقات الهجومية.
وقد كانت شخصية رسول االله صلى االله عليه وسلم في أعلى قمم هذه المهارة، وتمثل ذلك جليا في صلح الحديبية، لما جاء سـهيل بن عمرو مفاوضا عن قريش، فقال: «هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى االله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى االله عليه وسلم: بسم االله الرحمن الرحيم. قال سـهيل: أما الرحمن، فواالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: واالله لا نكتبها إلا بسم االله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى االله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول االله. فقال سهيل: واالله لو كنا نعلم أنك رسول االله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد االله. فقال النبي صلى االله عليه وسلم: واالله إني لرسول االله، وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد االله. قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألونني خطة يعظمون بها حرمات االله إلا أعطيتهم إياها. فقال له النبي صلى االله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سـهيل: واالله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل» (صحيح البخاري 2581:974/2)، وهذا أنموذج تطبيقي من قدرته صلوات االله وسلامه عليه في إدارة الأمور بحكمة، وتجنيب الطرفين مقتلة هم أغنى الناس عنها.
ومن أمثلة إدارة التناشز الفكري العقدي التي تحلى بها رسول االله صلى االله عليه وسلم حديثه مع عتبة، الذي رواه جابر بن عبد االله رضي االله تعالى عنهما، إذ قال: «اجتمعت قريش للنبي صلى االله عليه وسلم يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه. قالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، قالوا: أنت يا أبا الوليد! فأتاه عتبة. فقال: يا محمد أنت خير أم عبد االله؟ فسكت رسول االله صلى االله عليه وسلم، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول االله صلى االله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنّا واالله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك! فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، ففضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، واالله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى؛ بأن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نسـاء قريش شئت فنـزوجك عشرا! قال له رسول االله: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فقال رسول االله صلى االله عليه وسلم: ﴿بسم االله الرحمن الرحيم. حمۤ (1) تَنـزِيلٌ من الرحمنِ الرحيمِ (2)﴾ (فصلت:2-1)، حتى بلغ: ﴿فَإِن أَعرضوا فَقُلْ أَنذَرتُكُم صاعقَةً مثْلَ صاعقَة عاد وثَمود﴾ (فصلت:13). فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريش. فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته، قالوا: هل أجابك؟ قال: نعم، والذي نصبها بنية- قصد الكعبة- ما فهمت شيئا مما قال غير أنه قال: ﴿أَنذَرتُكُم صاعقَةً مثْلَ صاعقَة عاد وثَمود﴾ (فصلت:13). قالوا ويلك! يكلمك رجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله، ما فهمت شـيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
ويبرز الصلابي القدرة التفاوضية التي تمتع بها رسول االله صلى الله عليه وسلم من خلال الأمور الآتية:
1- لم يدخل رسول االله صلى االله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضلية أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر من غير أن يسمع عتبة شيئا.
2- لم يخض رسول االله صلى االله عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه صلى االله عليه وسلم، أن قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم.
3- كان جواب رسول االله صلى االله عليه حاسما، فاختياره لهذه الآيات دليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسة منها، إن هذا القرآن تنـزيل من االله تعالى، وبيان موقف الكافرين وإعراضهم، وبيان مهمة الرسول وأنه بشر، وبيان أن الخالق واحد وهو االله تعالى، وبيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
4- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال..، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى االله عليه وسلم.
5- تعلم الصحابة من رسول االله صلى االله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر.
ويتضح من خلال حديثه عليه الصلاة والسلام مع عتبة وإدارته للحوار، ما كان يتحلى به صلوات االله وسلامه عليه من معروفيـة الخطاب؛ المتمثل بالقول الحسـن، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم بالحكمة والموعظة الحسـنة، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وقُولُوا لَهم قَولاً معروفاً﴾، وقوله تعالى:﴿قُولٌ معروفٌ ومغْفرةٌ خَير من صدقَة يتْبعها أَذى﴾، بالإضافة إلى التغاضي عن أخطاء الآخرين الشخصية، والمجادلة العقيمة، ولقد روى أبو أمامة رضي االله تعالى عنه، عن رسول االله صلى االله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقا، وببيت في وسـط الجنة، لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسـن خلقه».
وهذا ما أكده القرآن الكريم في كثير من قصصه الكريمة، إذ يعمد إلى إعطاء الإجابة المقنعة للجاحدين والمعرضين، من غير أن يدخل معهم في تفاصيـل تفقد الحديث أهميـته، والدعوة هيبتها، ومن ذلك قصة سيدنا إبراهيم عليـه السلام مع من آتاه االله الملك، وقصة سيدنا موسى عليه السلام، وما جرى له مع قومه، وذلك لما سأل فرعون، سيدنا موسى عليه السلام عن ماهية الذات الإلهية: ﴿وما رب الْعالَمين﴾، فكان الجواب الرشيد يكافئ سؤال فرعون العنيد، ويتجاهله، وذلك لما كانت الإجابة تتحدث عن الأفعال والصفات: ﴿قَالَ ربنَا الَّذي أَعطَى كُلَّ شَيء خَلْقَه ثُم هدى﴾ (طه:50)، وتجاهل الجواب الدخول في متاهة تضيع الوقت، ولا توصل إلى المرغوب.
خامسا، التعاطف مع الآخرين:
وتعني قدرة الفرد على قراءة انفعالات ومشاعر الآخرين، من خلال أصواتهم، وتعبيرات وجوههم، فالتعبيرات غير اللفظية قد تكون أحيانا أكثر دلالة وعمقا من التعبيرات اللفظية، وتشير هذه المهارة إلى قدرة الفرد في أن يضع نفسه موضع الآخرين، ليتمكن من فهم مشاعرهم ووجهات نظرهم بدقة، وتتضمن كذلك قدرة الفرد على الاتصال والتواصل المتبادل من خلال الإصغاء للآخرين أو متابعة إيماءاتهم وحركاتهم.
وبهذه المهارة يصبح الفرد لديه القدرة على التحليل الاجتماعي والاستبصار بمشاعر الآخرين ودوافعهم وما يشغلهم، وهذه المعرفة بمشاعر وانفعالات الآخرين تؤدي إلى تكوين علاقات حميمة بسهولة، وهذا أصل متين في العلاقات البشرية، ومكون راسخ من مكونات الجاذبية الاجتماعية والنجاح الفكري والعملي. وترتبط هذه المهارة بمقدار الرحمة والشفقة التي يمتلكها الفرد.
وينجذب الأشخاص فطريا إلى الذين يتفهمون مشاعرهم، ولكي ينجح الإنسان في قراءة مشاعر الآخرين يجب أن يكون قادرا على قراءة مشاعره وتأثيرها في صفاته وردود فعله، عندها يستطيع أن يجري القراءة المعاكسة، ليتعرف مشاعر الآخرين من خلال تصرفاتهم. فيتضمن التعاطف القدرة على الشعور كيف يشعر شخص آخر، لتبادل الخبرات معهم، ورؤية العالم من خلال عيونهم وتصرفاتهم. وهذا محور مفهوم قول النبي صلى االله عليه وسلم: «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق».
إن من أهم حاجات الإنسان في هذا الوجود حاجته إلى أن تقدر مشاعره من قبل الآخرين، ويعتمد تقدير المشاعر على مدى إدراك هذه المشاعر وتفهمها والإحساس بها، فالتعاطف مع الآخرين يحتاج إلى استقرار عاطفي بالدرجة الأولى، فالإنسان الذي يسيطر عليه القلق أو الخوف أو الحزن ينخفض إحساسه بمشاعر الآخرين.
ولذا فإن فن التعاطف مع الآخرين يساعد المرء في الهروب من الأنانية، والبحث عن لغة مشتركة مع الآخر، تزيل حواجز البعد والإهمال وعدم الاكتراث بين بني البشر، ويريد معلم البشرية رسول االله صلى االله عليه وسلم أن يرتقي بإحساس المسلم، فيجعله مهذبا في كل سلوكاته، لا سيما في أثناء وجوده مع الآخرين، وكان يعلم أفراد الأمة التعاطف والتلطف مع أهليهم، فمن حرم التعاطف مع أسرته، كان أضعف من أن يبذل تعاطفه خارج إطار الأسرة، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا من خيركم لأهلي»، وقوله صلوات االله تعالى وسلامه عليه: «إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها، فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها».
أما التعاطف في خارج نطاق الأسرة، فلقد زخرت السيرة النبوية به، إذ امتلك النبي صلى االله عليه وسلم إحساسا مرهفا في تعامله مع الآخرين، لا سيما الأطفال من الصحابة رضي االله تعالى عنهم، ففي حديث أنس رضي االله تعالى عنه، إذ قال: «كان النبي صلى االله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقا، وكان لي أخٌ يقال له أبو عمير- وهو فَطيم- وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟!». والنغير؛ هو طير كان يلعب به.
وعن واثلة بن الأسقع رضي االله تعالى عنه: «أن رسول االله صلى االله عليه وسلم، خرج على عثمان بن مظعون، ومعه صبي له صغير يلثمه، فقال: أتحبه يا عثمان؟! قال: أي واالله يا رسول الله، إني لأحبه. قال: أفلا أزيدك له حبا؟! قال: بلى، فداك أبي وأمي! قال: إنه من ترضى له صغيرا من نسله، حتى يرضى، ترضاه االله يوم القيامة حتى يرضى».
وفيما يخص التعاطف الاجتماعي، وتقدير الآخرين، فإن السيرة النبوية زخرت بالآداب العامة التي تدعو المسلمين التزامها والعمل بها، ليكونوا هداة مهديين، بل وكان الاهتمام بأمر المسلمين من أهم الحقوق الأخوة الإيمانية التي تربط أفراد المجتمع ببعضهم بعضا، وعلى المربين أن يغرسوا في أفراد الأمة حب إخوانهم المسلمين، واهتمامهم بأمرهم، قال صلى االله عليه وسلم: «من لم يهتم للمسلمين عامة فليس منهم»، وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وعن أبى سعيد الخدري رضي االله تعالى عنه، قال: «بينما نحن في سفر مع النبي صلى االله عليه وسلم، إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا. فقال رسول االله صلى االله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له. قال فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل».
فالتعرف إلى انفعالات الآخرين والتعاطف معها، مؤشر على امتلاك الحس الانفعالي المرهف، والوصول إلى درجة الإحسان، ولا بد من امتلاك مهارة قراءة مشاعر الآخرين وأفكارهم، ثم التعاطف معهم، وإيثارهم في كثير من الأحيان، وهذا ما كانت سـيرة النبي صلى االله عليه وسلم تعمل على غرسه في نفوس الأفراد، قال عليه الصلاة والسلام: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر تكتب لك صدقة، وإماطتك الشوكة والحجر عن الطريق صدقة، وإرشادك الضال عن الطريق صدقة».
وقد كان للحيوانات، كذلك، نصيب في تعاطف رسول االله صلى االله عليه وسلم معها، ورحمته بها، ومن ذلك ما رواه خالد بن معدان، عن أبيه، رضي االله تعالى عنهما، وعن عبد االله بن مسعود رضي االله تعالى عنه، قال: «كنا مع رسول االله صلى االله عليه وسلم في سفر، ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما. قال: فجاءت الحمرة إلى رسول االله صلى االله عليه وسلم وهي تصيح، فقال النبي صلى االله عليه وسلم: من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن. قال: فردهما»، وشمل عطفه صلى االله عليه وسلم الجماد، حتى أضفى على الجمادات الحركة والحب، ومن ذلك كان له سيف محلى يقال له ذو الفقار، ودرع موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول، ومقراض يسمى الجامع، وقضيب يسمى المشحون، ومرآة تسمى المدلة..، مما أضفى على هذه الأشياء معنى الألفة، وكأنها شخصيات مقربة معروفة، لها ملامح محببة.
وهذه العاطفة الإنسانية شملت كل ما أحاط به صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يقول العقاد: «إذا كان الرجل محبا لدى الناس، أهلا لحبهم إياه، فلقد تمت له الصداقة من طرفيها؛ وإنما تم له أداة الصداقة بمعيار ما رزق من سعة العاطفة الإنسانية ومن سلامة الرزق، ومقارنة الخلق، وطبيعة الوفاء. فأداة الصداقة بالعاطفة الحية، والرزق السليم، والخلق المتين، وقد كان محمد في هذه الخصال جميعا مثلا عاليا بين صفوة خلق الله».
سادسا، المهارات الاجتماعية:
إن نقص المهارات الاجتماعية يشكل عائقا كبيرا أمام تحرك الفرد نحو الآخرين، بل أنه قد يجعله إما أن يتحرك بعيدا عنهم أو يتحرك ضدهم فينعزل عنهم أو يعتدي عليهم، وهو الأمر الذي قد يحول دون توافقه معهم أو تكيفه مع البيئة الاجتماعية المحيطة.
ويشكل انهيار العلاقات الاجتماعية إحدى أهم المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الحديثة إذ نما الشعور بالفردية، وحكمت المصالح الخاصة في كثير من شؤون الحياة، وقد أصاب أمة الإسلام شيء من ذلك، فاضمحلت ضوابط التربية الاجتماعية التي تشكل الحس الجماعي لدى الفرد المسلم، مما أشاع الفوضى الفكرية والاجتماعية، ومن هنا شددت تعاليم الإسلام على ضرورة المحافظة على العلاقات الاجتماعية وإقامتها باستمرار على هدي المنهج النبوي الشريف.
ويقصد بالمهارات الاجتماعية إرسال رسائل تعمق روح المحبة والتعارف بين أفراد المجتمع، وتمهد هذه المهارة لصاحبها الطريق لإدارة واعدة واعية، وشعبية مترامية الأطراف.
كما تشير هذه المهارة إلى التأثير الإيجابي والقوي في الآخرين عن طريق إدراك انفعالاتهم ومشاعرهم، ومعرفة متى تقود ومتى تتبع أو تساند الآخرين، مما يسهم في بناء الثقة وتكوين شبكة علاقات اجتماعية ناجحة، فمن يتمتع بامتلاك هذه المهارة يستطيع أن يقود ويعالج الخلافات والمشاحنات التي قد تنشأ في النشاطات الإنسانية، الأمر الذي يجعل هذه المهارة تصنف على أنها من أهم مهارات القادة الناجحين، إذ يمتلك القائد عندئذ القدرة على توجيه الجماعة نحو هدفها المنشود، في ظل حالة مزاجية وعاطفية جيدة. مما يجعل الأفراد يسعدون بوجود القائد أو الأمير بينهم، لأنه يشكل مصدر ثراء عاطفي للمحيطين به.
إن كل مجتمع إنساني يتكون من أربعة عناصر رئيسة هي؛ الأفكار والمعتقدات والأشخاص والأشياء، وبحسب نوع العلاقة بين هذه المكونات، تتكون شبكة العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد والجماعات، ويتشكل محور الولاءات في المجتمع، ويتحدد منهج الفهم والتفكير الذي يسود فيه، ويترتب سلّم القيم الذي يوجه أنماط السلوك بين أفراده؛ فإذا كان الولاء في الجماعة أو الأمة للمعتقدات أو للأفكار، فهي جماعة أو أمة ناضجة ومتحضرة، وتكون في أعلى درجات صحتها وعافيتها، وفي هذه الحالة يتسلم مراكز القيادة والريادة الأذكياء البارعون في الاتصال والتواصل الاجتماعي، الذين يحسنون مجابهة التحديات، واتخاذ القرارات. الذين يتسم منهج تفكيرهم بالعمق والدقة والعلمية والشمول، فيسخّرون طاقاتهم ويفنون أعمارهم، في العمل للقضايا الكبيرة والخطيرة التي تهم أمتهم، وتدور جل اهتماماتهم حول قضايا مجتمعاتهم، ومصلحة أديانهم وأوطانهم.
وتحتاج هذه المهارة الرئيسة إلى مهارات فرعية أخرى؛ كالتحلي بآداب الحديث، وتفهم أفكار ومشاعر الآخرين، والوضوح والالتزام وتحمل المسؤوليات، والتعلم من الخبرات السابقة، والقدرة على احتواء الصراعات، وتقبل وجهات النظر والآراء المختلفة، والتعاون والمشاركة. ليتمكن الفرد من التصرف مع الآخرين بطريقة لائقة حسب القيم والمعايير المتعارف عليها. ومن ثم فكأن هذه المهارة هي خلاصة ونتيجة للمهارات الخمس السابقة. والواقع أن الاتصال تقنية أسـاسية في الأفراد والأمم، تتحكم في مدى التأثير الإيجابي في الآخرين وكسـب ثقتهم، وتقدير وجهات نظرهم، مما يشيع الحماس والدفء في العلاقات الإنسانية.
فالتربية الإسلامية ممثلة بالسيرة النبوية ترفض فكرة الاكتفاء الذاتي في العلاقات الاجتماعية، لأن التفاعل الاجتماعي يولد درجة كبيرة من المشاعر الإيجابية تكف من حالات الاكتئاب والقلق والإحباط.
وتعد مهارات التواصل الاجتماعي من المهارات الهامة في حياة الإنسان، لأنها تساعده في أن يتحرك نحو الآخرين، فيتفاعل ويتعاون معهم، ويشاركهم ما يقومون به من أنشطة ومهام وأعمال مختلفة، ويتخذ منهم الأصدقاء، ويقيم معهم العلاقات، فيصبح عضوا فعالا في جماعته يؤثر في أعضائها الآخرين ويتأثر بهم، ويعبر عن مشاعره وانفعالاته واتجاهاته نحوهم، ويمكنه هذا الإقبال عليهم من مواجهة ما يمكن أن يصادفه من مشكلات اجتماعية مختلفة، ومن التوصل إلى الحلول الفعالة لمثل هذه المشكلات، مما يسهم في تحقيق قدر معقول من الصحة النفسية والتكيف والتوافق مع جماعته أو بيئته الاجتماعية.
ولذا فإن تعاملنا مع القيم، وتفعيلها في حياتنا، مع تقديم نماذج تتجسد فيها قيم هذا الدين، هو السبيل الأفضل للنجاح، وإلا ستعود محاولات الإصلاح للفشل مهما سمكت حناجرنا في الدعوة إلى الإسلام، ومهما كان خطابنا الإعلامي والدعوي.
إن إقامة العلاقات الاجتماعية الطيبة مع الآخرين يعد أحد مصادر الأجر والثواب، ومن ذلك قوله صلى االله عليه وسلم: «لا تَحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تَلقى أخاك بوجه طلق»، فالابتسامة رسالة صامتة مفادها التقبل والمودة. وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، بل لقد ارتقى الحس الإسلامي الاجتماعي إلى أن عد حسن التعامل من أركان الإيمان، إذ قال صلى االله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
ومن الأمثلة الدالة على روعة هذه المهارة في سيرة رسول الهدى صلى االله عليه وسلم، التي تشير إلى مهارة احترام الآخرين، وإنـزالهم منازلهم، ما حدث في يوم فتح مكة لما أسلم أبو سفيان رضي االله تعالى عنه، وجاء مع العباس رضي االله عنه، إذ يخاطب العباس رسول الله صلى االله عليه وسلم، فيقول: «يا رسول الله، إنك قد عرفت أبا سفيان؛ وحبه الشرف والفخر، اجعل له شيئا. قال: نعم؛ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق داره فهو آمن»، وهذا يدل على عظمة رسول االله صلى االله عليه وسلم، وقدرته التأثير في الآخرين وسلب قلوبهم، ولذا فإن من العظماء من يحاول إشعار الآخرين بعظمته وهيبته، والعظيم حقا من يشعر الجميع في حضرته أنهم عظماء.
وفي حديثه صلوات االله وسلامه عليه مع وفد نجران، كما روى حذيفة بن اليمان رضي االله تعالى عنه، أن رسـول الله صلى االله عليه وآله وسـلم قال، مخاطبا الوفد: «لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى االله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام، قال رسول االله صلى االله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة».
وها هو صلى االله عليه وسلم، يرسم نبراسا وأنموذجا في تعامله مع أشد أعدائه أذى، فتجده يصبر ويتحمل ويبث الأمل ويبني العقيدة والأخلاق في أثناء الدعوة المكية، ويسامح ويعفو بعد أن يصل قمة العلو والنصر، فيدخل مكة معززا مكرما، ثم يقول لهم حين اجتمع إليه في المسجد من كان يحاربه ويقاتله ما يزيد عن عقدين من الزمن: «ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وفي رواية أخرى، قال: «ما تقولون، وما تظنون؟ قالوا: نقول ابن أخ وابن عم؛ حليم رحيم. قال وقالوا ذلك ثلاثا، فقال رســـول االله صلى االله عليه وآله وسلم: أقول كما قال يوسف: ﴿لاَ تَثْرِيب علَيكُم اليوم يغْفر اللَّه لَكُم وهو أَرحم الراحمين﴾ قال: فخرجوا كأنما نشــروا من القبور فدخلوا في الإسلام».
ولذا فإن المهارات الاجتماعية الناجحة، تعد البذرة الأولى والثمرة النهائية في تكوين حياة المجتمعات، وتقارب وجهات النظر، فالسلوك الاجتماعي تتحدد آفاقه الآنية من خلال الفعل الصادر عن الإنسان، والحاجة إلى ذلك السلوك في التعامل، إذ يبحث الأفراد عمن يتفق معهم، ويخفض لديهم مشاعر الغربة، ويعزز من مشاعرهم الإيجابية، لا سيما عند تعرض الفرد لظروف قاسية أو مشقة عالية.
إن الدراسة المتعمقة للسيرة النبوية المطهرة، تشكل حالة من التفتيش عن الذات، للعثور على الهوية الضائعة في عصر العولمة والحداثة وما بعدها، كما أنها محاولة لاكتشاف نقاط التألق الحضاري، من أجل إعادة بناء الحياة الإنسانية بنموذجها السامي، المنبثق عن التصور السليم لعلاقة الفرد بخالقه سبحانه وتعالى، وبنفسه، والكون، والحياة.
وأظهرت هذه الدراسة من خلال تتبعها لمجموعة من أحداث السيرة المطهرة، والأحاديث النبوية الشريفة، السبق للمنهج النبوي الشريف في تعامله مع النفس البشرية، بما يخص ضبط انفعالاتها وتحفيز دافعيتها، وبما يحقق مزيدا من التواصل الحسن مع الآخرين، إذ احتوت السيرة النبوية الطاهرة، على كثير من المواقف التي تعمل على إحداث تغيرات جذرية في الذات البشرية، لنقلها من قيود الجهل والقلق والعنف، إلى رحابة المعرفة وضبط الانفعالات والتعاطف مع الآخرين وتقديرهم، بما يحقق الطمأنينة والسعادة في المجتمع الإسلامي.
ولقد سجلت التربية الإسلامية السبق لغيرها من النظريات التربوية الحديثة، في اهتمامها بالمشاعر الإنسانية، من أجل تحقيق تربية راقية لانفعالات الأفراد، تمكنهم من إدارة انفعالاتهم، والتعامل مع الآخرين في ظل كفايات اجتماعية أخلاقية سامية، إذ احتوت النصوص الشرعية، على منظومة شاملة متكاملة لأسس انفعالات النفس البشرية، التي تم ترجمتها من خلال الواقع العملي.
كما أبرزت هذه الدراسة، عناية السيرة النبوية المطهرة، ببناء الانفعالات الإيجابية، وتعميق قاموس المشاعر الوجدانية، من خلال الشعور بالآخرين، وتحسس معاناتهم وحاجاتهم وانفعالاتهم، مما يسهم في صناعة القرارات الصحيحة والتعامل الحسن المنضبط مع الآخرين، فتنشأ في المجتمع أرقى المعاني الوجدانية؛ كالإيثار والتضحية والتسامح والثقة، ومواجهة الصعاب، وتقبل وجهات النظر، والتكيف في مواجهة الظروف الطارئة، وتتصاغر في هذا المجتمع كل أشكال الانفعالات السلبية؛ كالحقد والغضب والتوتر والأنانية، وبذلك يتجه المجتمع نحو تكوين أفراد لديهم القدرة على مقاومة الأشكال المختلفة من الانحرافات النفسية والاضطرابات الانفعالية، الناجمة عن التطرف الوجداني والأمية العاطفية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن محاولة بناء الشخصية الإنسانية من خلال العلوم والنظريات النفسية والتربوية الحديثة، هي محاولة قاصرة لبناء الذات، لأنها تنظر إلى الإنسان من زاوية جزئية، وتهدف إلى إعادة تكيف الفرد داخل المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للغرب، وما يتبناه من أفكار علمانية.
ولذا جاءت محاولات المسؤولين في العالم الغربي للتفكير في إيجاد العلاج، لما تشهده هذه الدول من مظاهر العنف والإرهاب والصراعات المتنوعة؛ مع ضرورة توافق النمط العلاجي أو الوقائي المقترح لأشكال التطورات الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة في تلك البلدان.
وبابتعاد الحضارة الغربية عن المنهج الديني والروحي، جعل علاجها يحوي على تناقضات خطيرة، وأضحى الإنسان مختبرا لفرضيات العلوم الإنسانية، ولأفكار من يمتلك السلطة أحيانا، والمعرفة الجزئية أو المشوهة أحيانا أخرى.
ومن هنا جاء المنهج الإسلامي في تعامله مع الذات البشرية؛ تلك الذات المكونة من الروح والجسد والعقل، فكان المنهج النبوي الشريف مصنعا حقيقيا لإنتاج شخصيات فذّة، بل وصناعة دول تقدر قيمة الإنسان، ذلك الإنسان الذي يعي ذاته، ويقف على أرضية إيجابية سليمة في تعامله مع الآخرين، انتصر على نفسه، وضبط انفعالاته، فحسن حاله ومقاله، فكان بلسما لألم جراحات المصابين، وصدرا واسعا لهموم المكروبين، وبسمة عريضة صادقة للمحرومين، وعطاء متجددا للمحتاجين، وهو في كل ذلك يتحمل ويبذل ابتغاء لرضوان االله تعالى.
1- التنسيق بين علماء الشريعة الإسلامية، ولا سيما متخصصي السيرة النبوية الشريفة، وبين علماء التربية وعلم النفس، من أجل إفساح المجال لاستخدام استراتيجيات المنهج النبوي الشريف في مجال علم النفس التربوي، وتطبيق هذه الاستراتيجيات ميدانيا، من خلال المؤسسات الدينية أو التربوية أو الإعلامية، لإكساب الأفراد المهارات الشخصية والاجتماعية، التي تنمي ذواتهم، وتساعدهم في حسن اتصالهم وتواصلهم مع الآخرين، وعقد ورش العمل والدورات التدريبية بخصوص هذا المجال.
2- بذل محاولات حثيثة لتأصيل الفكر التربوي الإسلامي، من أجل بيان ما يحتويه هذا الفكر بصفة عامة، والسيرة النبوية المطهرة بشكل خاص، من قضايا تربوية ونفسية، تصلح لأن تكون علاجا لكثير من مشاكل العصر واضطراباته، بل تصلح لأن تكون منهج حياة، فينشأ الجيل في أحضان النبوة، ويسجل بعثا جديدا لروح الإسلام.
3- إجراء المزيد من الدراسات شبه التجريبية، حول أثر المنهج النبوي لتحقيق الذات، وإدارة الانفعالات في الحد من الانفعالات السلبية الاجتماعية، كالقلق والإحباط وسرعة الغضب.
.