جف قلمي، وزاغت عيني، وحار عقلي، ويبست يدي، ولا أدرى لماذا أكتب، وما الفائدة مما أكتب.
أسمع أنين المعذبين، وآهات الأرامل المكلومين، وصرخات المرضى المساكين، وبكاء الأطفال التائهين، ودعاء الشرفاء على الظالمين، لقد أقلقت مضجعي وأرقت منامي هذه الصرخات المكلومة...لكني أشد ما ألمني هذا الانفلات اللفظي الذي ضرب كل جنبات الوطن.
لقد أصبحت الكلمة أهون من القتل، وأصبح لا يعيرها أحد اهتماما وكأنها أصبحت من العادات التي يحافظ عليها الإنسان ليبقى على قيد الحياة.
فالعالم العربي خاصة والإسلامي عامة يعيش حالة من الانفلات اللفظي والانهيار الأخلاقي التي ظل الآباء والأجداد يغرسون بذورها في نفوس الأبناء جيلا بعد جيل حتى تظل المجتمعات قوية لا يعتريها الوهن والخنوع، لكننا الآن أصبحنا لا ننكر منكرا ولا نقر معروفا، حتى حل التميع بعد الانضباط والالتزام، وتحطمت ثوابت التربية على صخور الفحش من القول.
إن شريعة الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله، مُؤتَمَنٌ عليها؛ فهو محاسب على الأقوال، ومُؤتَمَن عليها.
تربية الكلمة:
الكلمة التي تخرج من الإنسان تعبر عن مدلول التربية التي عاش بها الفرد وتفاعل معها وكثيرا ما نرى أناسا لهم وزن وسط الناس إلا أن مدولالات الكلمة عندهم في الحضيض لا يهمهم إلا النجاح المادي بشتى الوسائل دون الوضع في الاعتبار ما يترتب على هذه الكلمة من جراح غائرة.
فكم من كلمة انطلقت دون وعي فجرحت قلوبا ونفوسا وأشعلت حروبا وجلبت خرابا ودمارا على البشرية، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ» (إبراهيم: 24- 26). وعن أبي هريرة- رضي الله عنه– عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجاتٍ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم) البخاري (6477)، ولهذا كانت خطورة الكلمة التي تتجسد أمامنا وتتعرى لتخرج لنا شر ما فيها.
هب أنك راكبا سيارة تنطلق مع سائق متهور يتراقص بالسيارة يمينا ويسارا، لا يعبأ بمن معه من الركاب ولا يهتم بصراخهم وعويلهم وتحذيرهم، فكيف يكون حالك وشعورك وسط هذا الخضم المتلاطم من المشاعر طول الطريق.
وعلى النقيض هب أنك تركب مع سائق يسير بتروٍ وهدوء وتنساب السيارة معه على الطريق وقد راعى أمن الركاب وقد أدرك المخاطر التي ترتسم على الطريق ويعرف مغبة التهور أو الصراع مع سيارة أكبر منه.. فكيف يكون حال من يركبون فيها، وقد شعروا بالأمن والطمأنينة فراحوا في سبات عميق.
هكذا حال الإنسان مع لسانه الذي إذا استقام استقام باقي الأعضاء والتي تنادي وتصرخ كل يوم فيه: (يا لسان اتق الله فينا فإنك ان استقمت استقمنا، وان اعوججت اعوججنا، فاللسان يعتبر بوابة باقي الجسد والمتحدث الرسمي بها).
وحينما غاب المربون وأصحاب الهمم العالية تحول السعار اللفظي لأمر واقعي يدفع بأفراده لجنبات الانهيار.
لقد تعددت الأسباب التي تدفع إلى الانفلات اللفظي ومنها الشهوانية والانفلات من القيود والتحرر من الالتزامات الدينية والأخلاقية، زد على ذلك انتشار المحسوبية وغياب العدالة الاجتماعية وانتشار البطالة وغياب القدوة والرقيب، والفشل السياسي والاقتصادي والانفلات الأمني وغياب العدالة.
ويقول عمر بن الخطاب– رضي الله عنه-: «من كثر كلامه كثر سقطه» وحسبك به حاكمًا ودليلًا– فإننا نجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة نصوصًا كثيرة تُؤكّد على قيمة الكلمة وتُنوّه بشأنها وعظيم خطرها.
وقال يحي بن معاذ: «القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه».
إن الكلمة الصادقة هي السيف الذي يُجاهد به المسلم، فبها تقوم الحجة، وبها يرتّد الباطل على أدباره منهزمًا، وبها تنجذب القلوب، وبها يرضى العاقل.
ومتى أحيطت الكلمة بسياج العقل والشرع فإنها تفعل فعل السحر، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحرًا» (رواه البخاري في صحيحه).
ولكي تؤتي الكلمة ثمرتها لابد أن تكون سامية وصادقة تخرج من القلب، وتوضع في مكانها المناسب كما أن الطبيب يضع الدواء حيث يجد الداء، وأن تكون رقيقة، قال الله عز وجل لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام حينما أرسلهما إلى فرعون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 43، 44).
ومازال العلماء والدعاة إلى الله يُقتَلون ويُعَذَّبون ويُسجنون ويُشردون لنفس التهمة، وهي تهمة تعبيد الدنيا بدين الله، إنها نفس تهمة الأنبياء والمرسلين، حين قالوا لقومهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (المؤمنون: 23). فقامت الدنيا ولم تقعد، واستمر دعاة الحق في ممارسة جهاد الكلمة غير وجلين ولا مبالين بما يصيبهم من أذى في سبيل هذه المهمة العظيمة، ولسان حالهم ينطق تهمة لا ننفيها وشرف لا ندّعيه، فالمهم أن يرضى عنهم ربهم، وأن يدخلهم سبحانه برحمته في عباده الصالحين.
فالكلمة إذن ليست شيئًا يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا. ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18).
فالكلمة أمانة ضخمة في دين الله تعالى وإننا مسئولون بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، فليتق الله كل منا ولنعلم أن كل كلمة نتلفظ بها قد سُطِّرت علينا.
إن الكلمة سلاح ذو حدين.. فاجعلها كلمة طيبة تنال بها الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، كما أنها تؤلف القلوب وتصلح النفوس وتذهب الحزن وتزيل الغضب وتشعر بالرضا والسعادة لا سيما إذا رافقتها ابتسامة صادقة «تبسمك في وجه أخيك صدقة)».
وبالكلمة الطيبة نصلح بين الناس ونعدل بينهم بشهادة الحق وندفع الظلم بالعدل والسوء بالإحسان قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (فصلت:34-35).
.