معالم منهج الإمام البنا في الدعوة والتربية

* بقلم: الأستاذ عباس السيسي

أدرك البنا أبعاد انهزام المسلمين الروحي والحضاري، وفهم سر ابتعادهم عن الإسلام. فدعاهم إلى تطبيق الإسلام، خلاصا من انهزامهم وحلا لازمتهم.

وحمل من أجاب صوته على ذلك التطبيق.. حملهم على أسلوب في التربية متطابق مع منهج الإسلام، متواز في أسلوبه مع أسلوب الرسول صلي الله عليه وسلم.

فأولى الإنسان عنايته الكبرى، ورباه واعيا عناصره من روح وفكر وجسد، موازنا بين هذه العناصر، مبتكرا في وسائل التربية بما يحقق الغرض، ويتناسب مع أجواء القرن العشرين.

لذلك جاءت تربية البنا محققة للأهداف التي وضعها في بناء جماعته، التي تتركز في تحقيق التفاعل بين الإسلام وبين الأفراد الجماعة بحيث يتحقق من هذا التفاعل تجريدهم من ذواتهم.. تجريدهم من القيم الأرضية كلها، والوشائج المادية كلها.. تجريدهم من الاعتزاز بكل ما يعتز به من حطام وأهواء.. ليعتزوا بالحق وحده.. الحق مجردا من أشخاصهم.. الحق متلبسا بذواتهم ولكنه متميز فيها تميزا واضحا، بحيث تتبع ذواتهم الحق، ولا تتبع أهواءهم ومشاعرهم الشخصية.. وذلك بأن يتجردوا لله.. يتجردوا له تجريدا خالصا.

ما أحلى وأصدق قوله – رضي الله عنه – في وصف ذلك النموذج الذي عمل على إيجاده وتكوينه:

" أستطيع أن أتصور المجاهد شخصا قد أعد عدته وأخذ أهبته وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه، فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدا، إن دعي أجاب، أو نودي لبى، غدوه ورواحه، وحديثه وكلامه وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وتري في بريق عينيه، وتسمع من فلتاته لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة ".

هذا النموذج الذي حدد البنا خصائصه وملامحه، لم يتركه دون توفير كل متطلبات العملية التربوية التي تكفل تكوينه.. هذه المتطلبات أدرك البنا أنها شرط في تحقيق ولادة الفرد المسلم الذي يمثل العامود الفقري في العمل الإسلامي برمته.

 

معالم منهجه التربوي

فإذا طالعنا رسالته المسماة " نظام الأسر" و"رسالة التعاليم" نجد أن خطته التي ترسم فيها خطى الداعي الأول صلي الله عليه وسلم تدور حول متطلبات ثلاثة:

 

1- المنهج الصحيح:

وقد وجده الإخوان المسلمون في كتاب الله وسنة رسوله وأحكام الإسلام حين فهمها المسلمون على وجهها غضة نقية بعيدة عن الدخائل والمفتريات، فعكفوا على دراسة الإسلام على هذا الأساس دراسة سهلة واسعة مستوعبة.

بهذا المنهج وتطبيقاته في سيرة النبي الكريم وأصحابه أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقا لا هو أداة فيه.

ولو استعرضنا هذا المنهج التربوي الذي ألزم به البنا الإخوان، والذي تطرق إليه في رسالته تلك وفي توجيهاته وتعليماته، لوجدنا أنه استوعب كل مكونات الإنسان من روح وفكر وجسد، الأمر الذي يؤكد لنا دقة معالجة هذا المربي الكبير للنفس الإنسانية:

ففي مجال تزكية الروح:

ألزم الإخوان بالورد اليومي من القرآن، وذكر الآخرة، ونوافل العبادة، وصيام يوم في الأسبوع أو كل أسبوعين، والذكر اللساني والقلبي، وأداء الصلاة في أوقاتها جماعة بالمسجد، واستصحاب نية الجهاد، وتجديد التوبة.. إلخ.

وفي مجال رعاية الفكر:

 ألزم الإخوان بحفظ الأربعين حديثا النبوية على الأقل، ومطالعة رسائل الإخوان وجرائدهم، وتكوين خاصة، ودراسة رسالة في أصول العقائد ورسالة في فروع الفقه.. إلخ.

وفي مجال تكوين الجسد:

 ألزم الإخوان بالكشف الصحي الدوري، والحرص على القيام ببعض التمارين الرياضية، والقيام بالرحلات الجبلية أو الصحراوية أو الحقلية أو القروية أو النهرية للتجديف، والابتعاد عن الإسراف في شرب القهوة والشاي، والامتناع عن التدخين، والعناية بالنظافة، وتجنب الخمر والميسر والمفتر.. إلخ.

 

لم يكتف البنا بمعالجة عناصر النفس الإنسانية من روح وفكر وجسد عند الإخوان المسلمين، بل عمق تطبيقهم للإسلام بأن قدم طرقا عملية لتأدية الفرائض، وكان ارتقاء الأخ المسلم في صفوف الجماعة مرهونا بتنفيذه هذه الفرائض.. فرائض الحج والزكاة.

 

2-  القدوة الصالحة:

أدرك البنا خطورة هذا العنصر في العملية التربوية، فكان في شخصه مثلا لهذه القدوة الصالحة، وأخذ عزائم الإخوان وهممهم بالمنهج الذي رسمه لهم في رسالة "نظام الأسر ورسالة التعاليم" فأصبحوا أمثلة تحتذى وتتبع وتقلد، في الحماس والتضحية، والعيش للدعوة وبالدعوة، وعلموا أن براعتهم لا تكون في ترديد نظريات التربية والتنظيم والتخطيط، ولكن بترجمة ذلك إلى وقائع محسوسة نسهم في الدفع المباشر والتطوير الفعلي لأجهزة الحركة. كما علم الأخ المسلم أنه في انطلاقته لحمل الناس على أن يقتدوا به محتاج إلى أن يجوز: دمعة المجتهد، وشجاعة المقاتل، وانتباه الفقيه.

 

ذلك كله بفضل يقظة الضمير وحساسيته الذي أحدثه البنا في نفوس الإخوان، فجاء عملهم مع الناس متوخيا الحرص على رابطة القلوب واجتماع الكلمة بين المسلمين، فكل من قال لا إله إلا الله يلتقي معهم في ظل التوحيد وتجمعه وإياهم كلمة الإسلام وتعصم دمه وماله وعرضه الأخوة في الله. وأحسنوا الظن بكل مخالف اجتمعوا معه على الأصول فاتبعوه أن بدا في قوله الحق أو انصرفوا عنه أن جانبه الصواب وهم يلتمسون له العذر. ولم يكن شيء أبغض إلى نفوسهم من الجدال والمكابرة فما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.

 

.. هذه الأخلاق التي تطبع عليها البنا رجاله وأودعها روح أنصاره، دعوة بالكلام وقدرة بالسلوك، هي التي جعلت الإخوان أبدا بمنأى عن إثارة المسائل الخلافية في محاضراتهم وأحاديثهم ومواقفهم، فكان شباب الإخوان بحمد الله يفيضون بشعور الأخوة نحو كل مسلم، وأن معالم التعصب للمذهب أن ظهرت في كل ناد اختفت تماما من نوادي الإخوان، فالناشئ منهم في أحضان التصوف يعانق الآخذ برأي السلف إذا أقبل عليه، والعالم من رجالهم يصلي وراء الشاب الجامعي، وحامل اللحية والعذبة لا يجد حرجا في أن يأتم بعاري الرأس متى سبقه إلى الصلاة، وهم جميعا في إحساس بعضهم نحو بعض كالحلقة المفرغة لا تدري أين طرفاها.

 

3- البيئة الصالحة:

كما أدرك البنا أهمية هذا العنصر في نجاح عمليته التربوية، فعمل على تهيئة المناخات والأجواء المناسبة لتكوين وتربية عناصره، فدفع بجماعته إلى تهيئة الجو الإسلامي لأفرادها، حتى تتكون منهم الطليعة المؤمنة التي تأخذ على عاتقها إعلاء كلمة الله، وذلك بما أتيح لهم في محيط نظام الأسر والكتائب والمعسكرات، وفي نطاق مجالات العمل والنشاط في المساجد والمدارس والخدمات الصحية، والشركات، والبر والخدمات الاجتماعية..

 

وتجاوزت المناخات التي تهيأت للتربية الإخوانية هذه المجالات إلى ساحة القتال في فلسطين، امتحانا لهذه النفوس وتطهيرا لها، وتنظيفا لقلوبها، لكي تنال في هذه الساحة حصيلة ضخمة من العبرة والتربية، والوعي والنضج، والتمحيص والتميز، والتنسيق والتنظيم، لترفع إلى مستوي الدور المقدر لها " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟! "..

 

إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي، وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلي معاناة البلاء.

 

هذه هي التربية التي اعتمدها "البنا" في تكوين صفوف جماعته، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ناطه الله بالجماعة المؤمنة في هذه الأرض، وقد شاء الله – سبحانه – أن يجعل هذا الدور من نصيب "الإنسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض

----------------------

* من كتاب "حسن البنا..مواقف في الدعوة والتربية"

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم