من خلال هذه السورة، ترد قصة يوسف- عليه السلام- كاملة في وحدة موضوعية فريدة، لم تتحقق– بهذا القدر الكمي- لأية قصة من قصص الأنبياء الآخرين ضمن سورة واحدة، وقد تضمنت القصة جوانب متعددة، اختار منها الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس، هذا الجانب التربوي.
سورة يوسف والإعجاز التربوي
من خلال قصة يوسف في القرآن الكريم، تنساب عشرات القيم التربوية، بحيث نجدها مبثوثة عبر كل المراحل في البداية، وفي الوسط (العقدة)، وفي النهاية.. وإن أية محاولة لقراءة هذه السورة، لاستخلاص القيم التربوية العملية المرتبطة بالروح وبالإيمان، وبالأخلاق الزكية، تجعل هذا القارئ المتعمق يشعر فعلًا بما يسميه بعضهم (المدرسة اليوسفية)، أو (الجامعة اليوسفية)، فالسورة– بحق- من خلال نبي الله يوسف، وأبيه يعقوب عليهما السلام، والشخصيات المتناثرة، التي تقدم الجناح الآخر للصراع بين الخير والشر، كلها تجعلك تشعر بأخلاق النبيّين العظيمين (يوسف، وأبيه يعقوب عليهما السلام)، وتشعر– أيضًا- بمدى الطبيعة الناشرة، حين تتخلى عن قيادة الإيمان لها، كما حدث من إخوة نبي الله يوسف عليه السلام، وتشعر– ثالثًا- بمواقف الآخرين الوثنيين، وخضوعهم لغرائز الدنيا، مع وجود بعض أخلاق الفطرة عندهم، واستعداد بعضهم للرجوع إلى الحق.
تقدم السورة وجه الصراع بين الخير والشر
وابتداءً نقرر أن القرآن– وحدَهُ- من بين الكتب السماوية هو الذي ينفرد بوجود قصة حقيقية حول يوسف عليه السلام لها بداية، وعُقدة، ونهاية، فحتى في التوراة، التي هي أقرب الكتب السماوية إلى القرآن في هذا الموضوع بخاصة، لم تورد قصة نبي الله يوسف عليه السلام على هذا النحو العضوي، أو الأدبي ذي الحبكة المتماسكة، وإنما أوردتها من خلال (أربعة عشر إصحاحًا) من سفر التكوين (37-50)، وهي تسردها سردًا خاليًا من أي ومضات روحية، أو قيم تربوية، بل لعل فيها من الوقائع ما يشوه بيت يعقوب، على العكس من القصة القرآنية ومعطياتها.
والمعجز أنه خلال هذه القصة تنساب قيم تربوية واقعية، نراها حية متحركة على مسرح الأحداث، لا تنفصل عن الشخصية، ومقوماتها، وذلك على العكس من التوراة تمامًا.
قصة حقيقية لها بداية وعقدة ونهاية انفرد بها القرآن وحده
يعطينا يعقوب– عليه السلام- قيمة الحذر، وعدم التباهي بإعلان الشيء، وإظهار الارتفاع عن الآخرين، وذلك عندما يُحَذر ابنه يوسف من أن يقص الرؤيا على إخوته؛ خوفًا من تحريك نفوسهم في اتجاه الشر ضده.
وهذا درس يغفل كثير من الناس عن قيمته التربوية، وقد شاع في مجتمعاتنا– اليوم- تفضيل الذكور على الإناث في بعض الأمور، لاسيما المواريث، وتفضيل بعض الأبناء على بعض في المعاملة، أو المال، إما بسبب صغر بعضهم، أو اختلاف الأم.. وكم كان لهذه التفرقة من آثار سلبية، تهدَّمت من خلالها معاني الأسرة، وعاش الأبناء يصارع بعضهم بعضًا، وقد يحقد بعضهم على بعض، وقد يقضون شطرًا من أعمارهم أمام المحاكم، وقد يرتكب بعضهم جرائم.. أما صلة الأرحام، والترابط العائلي، والحب الأخوي.. فهي من أعظم ما يضيع من جراء هذه التفرقة الظالمة!
وحتى (الحُب) وهو أمر لا دخل للإنسان فيه، يجب أن يتحكم فيه الآباء والأمهات، حتى يظهروا أمام أبنائهم بمظهر العدل، ومع أن (الحُب) مطلوب، وقد تكون المساواة فيه صعبة، إلا أن المغالاة في التفرقة فيه، وإظهاره بطريقه غير مبررة قد يؤدي إلى نفور بين الأبناء.
الحرص على الكرامة والبُعد عن مواطن الريبة
وثمة قيمة ترتبط بصدر السورة– أيضًا-، فقد حرص يعقوب على أن ينصح يوسف بالكتمان، وألا يقص الرؤيا على إخوته، مع أن الرؤيا تشي بالنعمة، ومع أنهم إخوته، لكنه كان يحذر من حسد الإخوة لبعضهم، وهذا يوحي باستعمال الكتمان، وعدم التحدث بالنعمة، إذا كان هذا الحديث يحرك الحسد في النفوس، وقد يؤدي إلى شرور، كما حدث بين يوسف وإخوته، الذين ألقوه في الجب ليموت، أو ليُباع بين العبيد.
وهناك قيمة نلمحها في صدر السورة– أيضًا- فمع أن يعقوب كان يشعر بمؤامرة أبنائه، إلا أنه لم يشأ أن يدخل معهم في خصومة، فيخسر كل شيء، واكتفى بأن قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}، ولم يحاول بعد أن شعر ببراءة (الذئب المهذب جدًا) أن يطلب الذهاب إلى الموقع، أو استقصاء الأمور، فالدخول في مماراة ستبعث على تعميق الأحزان، وفساد الأمور، واكتفى بالقول: {واللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
الغاية لا تبرر الوسيلة
وقيمة أخرى نلمحها في صدر السورة– أيضًا- وهي درس تربوي عظيم، يعلمنا أن الوسيلة الشريرة لا تصلح للغاية النبيلة، فالأبناء الذين عابوا أباهم، ورموه بالضلال المبين– وهذا سوء أدب نحذر الأبناء منه- يريدون يقتلوا يوسف، أو يتخلصوا منه، لكي يخلو لهم وجه أبيهم، ويكونوا قومًا صالحين، ولكن الأمرين لم يتحققا، فقد عاش أبوهم في كدر سبعة عشر عامًا، وعانوا هم من الشعور بالعقوق، والخيانة، فالشر لا يلدُ إلا شرًا، فلا يجوز لنا أن نخادع الله، وأن نخدع أنفسنا، وأن نجد لها المبرر.
وبما أن الغاية لا تبرر الوسيلة في الإسلام.. فإنهم قد ارتكبوا الخطأ، وركبوا الوسيلة الباطلة، لكنهم لم يصلوا إلى الهدف، وهو الصلاح المزعوم، لأنَّ العمل الذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
قيمة الصبر
وتعلمنا السورة– أيضًا- ونحن نستشرف صدرها ونهايتها معًا، أن العاقبة للمتقين الصابرين، الصادقين مهما يطل الزمن، ومهما يكن حجم المعاناة، بل بقدر ما تكون الآلام كبيرة، تكون النتائج عظيمة، ومن هنا فلا طريق إلا الصبر والتقوى، كما قال يوسف نفسه في نهاية القصة.
وقد يقول بعضهم: إن بكاء أيوب يتنافى مع الصبر.. وهذا غير صحيح، فالبكاء– في الحدود المقبولة اللائقة- مشروع، وهو لا يدل على الجزع أو اليأس.. إلا إذا ارتبط بحركات، أو أقوال تغضب الله– سبحانه- وتخالف الشريعة.
ولا يجوز أن نعبر قيمة (الصبر) دون أن نقف عندها، فالصبر من أعظم القيم التربوية، التي تعطيها لنا هذه السورة.. والصبر شقيق الأمل، وهما معًا عدوان للعجلة واليأس، فلله في خلقه سُنن أجراها على الأنبياء، وعلى سائر الناس، رضوا أم كرهوا.
وما دام الأمر قدريَّا لم تصنعه بيدك، فيجب أن تثق في حسن العاقبة، ويرى (راشد البراوي) أن سر صبر يعقوب ويوسف، يعود إلى أنهما كانا يدركان أنهما لم يكن لهما دخل فيما أصابهما، فيعقوب استأمن الإخوة على يوسف، فلمَّا خانوا العهد صبر، وهو واثق أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الغمة، ويوسف زُجَّ به في السجن، وهو بريء تمامًا، وجعله هذا الشعور ببراءته يؤمن بأنه سوف يسترد حريته، كما أنَّ يعقوب وابنه كانا يؤمنان بأن الله لا بد أن يحقَّ الحقَّ، ويجزي المحسنين.
لكنني مع تقديري لهذا (الميزان) القائم على (العدل)، الذي أشار إليه الباحث الكريم، إلا أنني أرى أن الثقة في الله، وفي رحمته وعدله، والإيمان الكامل، هي الوقوف الأعظم للصبر، والأمل، حتى لو لم يأخذ المظلوم حقه في هذه الدنيا، وكم من ظالمين ذهبوا دون أن يُقتص منهم، مع أنهم لم يظلموا أفرادًا، وإنما ظلموا شعوبًا بأكملها، وفرضوا عليها الاستبداد، والطغيان، كما سرقوا أقواتها، وعملوا لخدمة أعدائها.
وعندما يموتون– لأن الدنيا قصيرة، والأعمال محدودة- فإن الأجيال تلعنهم، وتجعلهم مثلًا سيئًا، إلا أن جزاءهم الحقيقي هناك في الآخرة، ولا يمكن أن يكون عقابهم في الدنيا كافيًا في مقابل ظلمهم للملايين، وسرقتهم للمليارات.. فأي دُنيا تكفي للاقتصاص من هؤلاء؟!
ولذلك حسم يوسف الأمر في نهاية الرحلة، عندما أرجع إلى التقوى والصبر كل شيء جميل أعطاه الله له ولأهله.
لقد كان صبر يوسف عميقًا في سعته، ومجالاته المتعددة، فقد صبر على إيذاء إخوته له، إيذاءً وصل إلى مرحلة الشروع في القتل، وصبر على بيعه عبدًا بثمن بخس، وصبر على نعم الله بالشكر، والطاعة، والعفة، والأمانة على العرض والمال لمن ائتمنه، وصبر على الغريزة الجنسية، التي هُيئت له تهيئة حافلة بصور الإغراء، التي لا يقاومها إلا الأبطال المؤمنون.. وصبر على السجن، وتحول فيه إلى داعية رشيد، والتزم الأخلاق الزكية، التي جعلته ملجأ المسجونين ومعلمهم.. وصبر على العمل المضني، الذي وكل إليه لإنقاذ شعب من الموت.. وصبر وغفر لإخوته عندما جاءوه سائلين، يعانون العوز، وعذاب السفر، وكان بإمكانه الانتقام منهم.. وصبر– مع التخطيط- في استدعاء أخيه بنيامين، ووالده يعقوب، فترك الثمار حتى تنضج.. ثم كشف للجميع عن شخصيته.
فأي صبر (يوسفيّ) هذا!
ويا لها من قيمة أخلاقية يعلمنا إياها نبي الله يوسف- عليه السلام-، عندما يحافظ على مشاعر إخوته، ويأبى تذكيرهم بما ارتكبوه في حقه، إنه لم يقل وهو يتحدث بنعمة الله عليه (أخرجني من الجب)، بل قال: {وقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْن} متحاشيًا ذكر الجب، مراعاة لمشاعر إخوته، الذين ألقوه في الجُب، وعرّضوه للموت.. وهذا درس لنا، حتى لا نذكر الذين أساءوا إلينا بإساءاتهم، فنخدش حياءهم، وكرامتهم!
قيمة العفة
ويا لها من قيمة أخرى جميلة برزت متألقة في سلوك نبي الله يوسف عليه السلام في بيت العزيز.. إنها قيمة لا نجد لها اسمًا واحدًا، فهي مركبة من (العفة، والوفاء، والإيمان).. ففي مواجهة طغيان زوجة العزيز الجميلة، التي زعمت التوراة أن زوجها كان خصيًّا، مع جرأتها في السر، وفي العلن على طلب الفاحشة، مع التهديد بالسجن، والتصغير، والاحتقار، يقف يوسف بطلًا يعلِّم الناس وجوب الاعتصام بالله، ووجوب الوفاء، لاسيما في هذه الامتحانات الصعبة، التي يظهر فيها المعدن النفيس من المزيف.. إنه بدلًا من الخضوع، أو محاولة الخروج من الموقف بشيء من اللطف يقف– بقوة وحزم- أمام هذه الزوجة الخائنة؛ ليذكرها بفضل زوجها عليه هو، فكيف بفضل زوجها عليها: {إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، وهو الذي جعلها زوجة وزير، ومكنها في الأرض، وها هي تكافئه بالخيانة الوقحة.. أما يوسف وهو الخادم، الذي أحبَّه زوجها، وجعله رئيس الخدم، فهو أوفى منها، ولهذا يرفض خيانة زوجها، ولكن هذا الوفاء مربوط بالخوف من الله، فإذا كان زوجها أحسن مثواه، فإن الله لا يفلح الظالمين، وهو يخشى أن يكون (ظالمًا) أمام الله، كما أنه عفيف، ورث العفة عن آبائه وأجداده، وآتاه الله حُكمًا وعلمًا.. وهكذا بهذه القيم المتداخلة نجح يوسف في هذا الامتحان الصعب. وقَبِلَ السجنَ بديلًا عن حياة تعجُّ بالفساد، والتحلل، والخيانة.
وتعلِّمنا سورة يوسف، وزوجة العزيز، خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية في البيت، أو غيره، تحت أي شعار، أو مسمى، فعلى الرغم من فارق السن، والمكانة بين يوسف وامرأة العزيز، على أنها مع تكرار الخلوة وظهور مخايل الشباب على يوسف شغفت به، وسعت لإرغامه على الفحشاء، لولا أنَّه كان من عباد الله المُخلصين.. وللأسف فقد كثر وجود الخدم والخادمات في بيوت بعض العرب والمسلمين.
ويعطينا هذا الدرس قيمة أخرى.. فهذا الامتحان، الذي قَبِل يوسف أن يدفع– من أجل النجاح فيه- ثمنًا غاليًا، وأن يخرج من القصور إلى السجن، الذي يشبه القبور.. هذا الامتحان كان طريقه إلى المجد، وحكم مصر.. فامتحان واحد يُؤْثِر فيه الإنسان ما عند الله، وينتصر فيه على الشهوات والمغريات، قد يقوده إلى أعظم نجاح قد لا يتخيّله الإنسان في حياته.
العاقبة للمتقين مهما طال الزمن والثقة في الله الوقود الأعظم للصبر
ومن القيم التربوية المستوحاة ما يدلنا عليه موقف التفاف المسجونين حول يوسف، وقدرته على الدعوة إلى التوحيد بينهم.. لقد كان وراء ذلك خُلقه الرفيع، وسمته الكريم، وصلاحه، وتقواه.. فكان الملجأ للمستفتين، وكان الأمين، الذي وثق به رئيس السجن، فجعله رئيس المسجونين، وهذا يعلمنا أن خير دعوة للقيم، وأفضل وسيلة لنشر التربية الفاضلة هو (السلوك).. سلوك المعلمين، والآباء، والمسؤولين.
وكان يوسف ينتهز كل فرص التقارب معهم، ليدعوهم إلى التوحيد قائلًا: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ}، وهذا من فقه الأوليات، وفقه الدعوة بالحكمة.
وفي هذا الرصد للقيم التربوية الصانعة للرقي الإنساني، هل نستطيع إغفال قيمة الأسرة، والتنشئة العائلية الأولى، والبيئة الصالحة؟ لقد كانت فراسة يعقوب في مكانها، عندما تنبَّأ ليوسف عليه السلام بأن الله سيجتبيه، ويعلّمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه.. ولعله أولاه عناية تربوية خاصة– مع الحب- بعد أن رأى جموح إخوته، وميلهم إلى الغيرة المؤدية إلى المكر.. ومن هنا كان يمنع يوسف من أن يقصَّ رؤيته على إخوته فيكيدوا له، وهذا أيضًا من فراسته التربوية، التي يجب أن يتزود بها المربون والآباء.. بحيث يعملون على كبح جماح المفاسد عند ذوي النفوس الجامحة، ويعملون– في الوقت نفسه- على رعاية النابغين الواعدين، حتى لا يضيعوا في زحمة الغثاء الغالب في المجتمعات.. بل إنني أعتقد أن يوسف كان يخضع لتوجيهات قيميَّة تربوية مكثفة تلقاها من أبيه، وقد حفرت لنفسها أعماقًا راسخةً في وجدانه، وتفكيره.. وقاوم بها هذه التحديات الصعبة التي واجهها.. مع حداثة سنه تارة، وفي ظل شبابه الغض المتدفق حيوية وجمالًا تارة أخرى.
ولعل يوسف لم ينس في كل تقلبات حياته قولة أبيه له، مذكرًا إياه بعظمة أسرته، التي يجب أن يكون امتدادًا صالحًا لها: {ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
وإطلاق لفظ الأبوة على أجداده يشي بأهمية الرباط الوثيق بين الأصول والفروع.
ولعل يوسف قد شعر– من هذا الإطلاق- بأنه يحمل على كاهله مسؤولية تاريخية، وأخلاقية عظيمة.
ومثل يوسف يجب أن تظل صفحته بيضاء لا تشوبها شائبة، ولهذا لم يقبل الخروج من السجن إلا بعد التحقيق مع النسوة اللائي أُعجبن به، واعتراف زوجة العزيز أمامهنَّ بأنها التي راودته عن نفسه، وندمها– وندمهنّ- على ما كان منهن، واعترافهن المدوي بأنهن ما علمن عليه من سواء!
وهكذا يجب أن نحرص على قيمة الكرامة الشخصية، والسمعة الطيبة، والبُعد عن مواطن الريبة.. لاسيما إذا كنا نعد أنفسنا، أو مجتمعاتنا للبناء والتعمير، والطهر والشرف.
وكذلك نتعلم حرص يعقوب على أبنائه– مع ما في نفسه تجاههم- ونصحه لهم بأن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، حتى لا يتعرضوا للحسد، أو الظنون، أو الإيذاء.. فالوالدان أكبر من أن يحقدا على أولادهما، أو أن يتمنيا لهم الشر مهما تكن أخطاؤهم، فهل يدرك الأبناء قيمة الوالدين!
اللجوء إلى الله في الشدة والرخاء
ومن القيم الجديرة بالتنويه والتأسي– لاسيما في عصرنا الذي يتطاول فيه الإنسان، وتتطاول الحضارات المادية على الله القوي القادر- أن يوسف (عليه السلام).. ذلك العظيم في جماله الخلقي والنفسي، العبقري في مداركه العلمية، وفنون القيادة، لم ينس– أبدًا- اللجوء إلى الله، والشعور بالحاجة، والعجز، والضعف أمام قدرة الله؛ إنه مع قوته النفسية والإيمانية، والجسدية التي تجعله يؤثر السجن، ومع زعامته الكبيرة عندما مكنه الله في الأرض، مع كل ذلك– دائمًا يستعين بالله، وتتألق العبودية الخالصة لله في كل أموره، في السراء والضراء، لم تجعله المحن ييأس من الوقوف أمام باب الله راجيًا، ولم تجعله المنح يبطر ويشعر بأنه فوق الحاجة إلى الله، والوقوف ببابه، بل إنه المقر بفضل الله في كل الحالات، فوقفتُهُ الشجاعة أمام النساء المعجبات يعزو الفضل فيها إلى الله: {وإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ}، وفي ساعة تفسيره لرؤيا السجنين لم يتظاهر متطاولًا بالعلم، بل اعترف بفضل الله قائلًا: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، وقائلا أيضًا: (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وعَلَى النَّاسِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
وهنا تظهر قيمة أخرى عند يوسف، لابد من الإشارة إليها، وهي قيمة (الشكر) القائمة على الاعتراف (بفضل الله)، وبعونه في كل الأحوال، بل إن يوسف ليبلغ به الشعور بأيادي الله عليه، ونعمه الغامرة عبر رحلته المليئة بالمحن والامتحانات مبلغًا يفسر من خلاله كل ما فيها بأنه كان تدبيرًا لكرم إلهي أسداه الله إليه، إنه يقول لأبيه يعقوب في لقائهما العجيب الفياض بالعبرات والعبر: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًا وقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجَاءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ}.
ولنلاحظ هنا (اللطف لما يشاء سبحانه)، وليس (بما أو بمن يشاء).. إنه التدبير الإلهي، الذي يحقق الله به إرادته، والذي لا يبصره إلا أصحاب البصائر النقية، والقلوب التقية، وقد أبصره يوسف، ويعقوب– عليهما السلام-.
العفو عند المقدرة
ومع ذلك كله هناك قيمة العفو المصحوبة بالكرم.. فمع أن إخوة يوسف قد اعتذروا إليه اعتذارًا هزيلًا، عندما قالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وإن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، فحتى في اعتذارهم يبدو نوع من الحسد في كلماتهم.. بل إنهم– قبل ذلك- عمدوا إلى إيذاء يوسف، واتهامه بالباطل، الذي يعرفون أنه باطل، وأنه لم يكن إلا دعابة عائلية بين عمة يوسف، وأخليها يعقوب، وذلك عندما قالوا في بنيامين: {إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}، يقصدون يوسف.. كاشفين أن كمية الحقد لديهم عليه لم تَنْتَهِ بعد!
ومع ذلك كله سرعان ما يتجاهل يوسف كل هذا ويقوم لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، وبينما يقولون هم ليوسف: {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}، فإن يوسف يقول لهم: {لا تَثْرِيبَ}، أي: لا لوم ولا تأنيب، حتى مجرد التأنيب مع كل ما ارتكبوه، بل ويدعو الله أن يغفر لهم.
قيم الوفاء والإيمان
بل ويبلغ الأمر به– لشدة دماثة خلقه، وسعة صدره، ونقاء قلبه– أن يُسمي ما فعلوه به، وما دفع ثمنه غاليًا، مجرد مكيدة شيطانية بينه وبين إخوته، بل ويبدأ بنفسه قائلًا: {مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي}، وكأنه ينسب الجريمة إلى الشيطان، لا إلى إخوته؛ أدبًا ولطفًا!
ومع اعتراف يوسف بأيادي الله عليه يطلب من الله– في الوقت نفسه- أن يموت مسلمًا، وأن يلحقه في الآخرة بقافلة الصالحين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَنتَ ولِيِّي فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
إنها الومضة الأخيرة في القصة.. وهي تعطينا الفيصل بين المنهاج التربوي الدنيوي، والمنهاج الأخروي.
إن الطريق موصول بين الدنيا الآخرة، وإن الوقوف عند نهاية الطريق الدنيوي احتقار للإنسان والرسالة، بل هو بخسٌ له ولرحلة كفاحه ضد الشر والطغيان على هذه الأرض.
إن الجزاء الحقيقي للمتقين الصابرين لا تستطيع الدنيا أن تمنحه، مهما تكن مساحتها الزمانية، والمكانية، بل إن هذا العبد التقي الصابر تهيأت له الجنة الخالدة، وهذا أيضًا هو المنسجم مع كرم العناية الإلهية ورحمتها، وهكذا تقول لنا سورة يوسف في نهاية الرحلة: {ولَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
لقد قدمت لنا سورة يوسف– من خلال الدرس التاريخي والأدبي والحضاري- منظومة قيمية تربوية معجزة، تستحق أن تأخذ مكانها في المناهج التربوية والتعليمية، في المستويات المختلفة من الأعمار العقلية والزمانية، فهي خطاب لكل هؤلاء، بأسلوبها القادر على الدخول إلى أعماق الوجدان، وأعماق العقل، على كل المستويات.
.