Business

تعرف على خصائص ومميزات التربية الإسلامية

 

للتربية الإسلامية طبيعة خاصة تهدف الإرتقاء بالإنسان في جوانب حياته المختلفة، ولهذه التربية خصائص ومميزات، ولتوضيح هذه الخصائص تحتاج دراسة خبرات المربين في الشرق والغرب.

وفى دراسة له بعنوان "خصائص التربية الاسلامية ومميزاتها الأساسية"، يعرض الباحث التربوى الدكتور مقداد يالجن، وجهات نظر المربين ووجهة نظر الإسلام في تربية الإنسان، ويختصر القول في إيجاز الآراء ليقدم خلاصة الخلاصة.

 وعند استعراض آراء فلاسفة التربية نجد أنهم قد اختلفوا في تحديد ماهية التربية في بعض جوانبها، وذلك وفقًا لاختلافهم في النظريات الفلسفية التي تتبعها النظريات التربوية، كما اختلفوا من الناحية العلمية. ويرجع هذا إلى تركيز بعضهم عند تحديد التربية على جانب منها أكثر من الجوانب الأخرى.

 

  • وجهات نظر المربين حول مفهوم التربية:

الأولى: تركز عند تحديد طبيعة عملية التربية على أنها طرق ووسائل لتنشئة الطفل وتكوينه وتكميله على النحو المراد. وذلك إما بطريقة التدريب والتنشئة على الأسس العلمية كما يراها أفلاطون. أو عن طريق الاعتياد على المبادئ المعينة كما يراها أرسطو وجان جاك روسو وابن سينا الذي قال: «التربية عادة وأعني بالعادة فعل الشيء الواحد مرارًا كثيرًا زمانًا طويلًا في أوقات متقاربة».

الثانية: تركز على الهدف الخارجي للتربية أكثر مما تركز على طبيعة العملية التربوية كطريقة وأسلوب التربية.

وهنا نجد بعضهم يجعل هدف التربية خارج الطفل المتربي من هؤلاء مثلًا دور كايم الذي يقول: «التربية تكوين الطفل تكوينًا اجتماعيًا» ومنهم أيضًا جون ديوي.

وهناك بعض المربين يركزون التربية على ذات الطفل المتربي وعلى هذا الأساس يعرف التربية أحد أنصار هذا الاتجاه وهو هاربات حيث يقول: «التربية تكوين الفرد من أجل ذاته بأن نوقظ فيه ضروب ميوله الكثيرة».

وهناك تعريفات شبيهة بذلك لستيوارت مل وهنري جولي.

أما المجموعة الثالثة والأخيرة: فتركز على طبيعة العملية التربوية كعلم أو كفن أو كبيداغوجيا ثم اختلفوا في معنى الفن والبيداغوجيا ومعنى عملية التربية، ولا أريد أن أدخل في كثرة من التفصيلات هنا، حيث أنني عرضتها في بحث مستقل. ولكن أريد هنا أن أذكر مجمل مفهوم التربية الذي خرجت به نتيجة بحثي الطويل، وهو أن التربية: تنفيذ عملي لفلسفة التربية بتربية الطفل وتكوينه جسميًا وعقليًا ونفسيًا وروحيًا وأخلاقيًا، وذلك باستخدام جميع الطرق والوسائل والأساليب والحقائق العلمية التي تساعد على تنشئة الطفل وتكوينه على ذلك النحو في كل مرحلة من مراحل نموه حتى نهاية نضجه وكماله الإنساني في ضوء الفلسفة التربوية التي تتبعها هذه التربية أو تلك لتكوين الإنسان وتشكيله على النحو الذي ترى تشكيله في المجتمع الذي تريد بناءه عن طريق تشكيل الأفراد وتكوينهم.

 

  • مفهوم التربية في الإسلام:

من دراستي الخاصة لفلسفة الإسلام ونظريته في التربية وصلت إلى أن التربية الإسلامية هي تنشئة الطفل وتكوينه إنسانًا متكاملًا من جميع نواحيه المختلفة، من الناحية الاعتقادية والصحية والعقلية والروحية والأخلاقية والإنسانية في ضوء المبادئ التي جاء بها الإسلام وفي ضوء أساليب وطرق التربية التي بيّنها.

فمن الناحية الصحية يهدف الإسلام من تربيته تحقيق الصحة الجسدية والصحة النفسية والعقلية والروحية والوجدانية كلها معًا، لأن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بأي شيء دون توفر الصحة، فكيف يستطيع أن يقوم بالمسئوليات والواجبات التي ألقاها عليه الإسلام. إذا لم تكتمل هذه الصحة، وكيف يستطيع السير في الطريق المستقيم بانتظام مستمر، كما طالبه بذلك الإسلام إذا لم تكن لديه صحة قادرة على السير على ذلك النحو. ولذلك نجد الإسلام قد وضع مبادئ كفيلة بتحقيق الصحة من حيث وقاية الإنسان أولًا من الأمراض الجسمية والنفسية والعقلية وما إلى ذلك. ومن حيث نمو واكتمال هذه الجوانب من الصحة مترابطة بعضها ببعض.

ومن ناحية التربية العقلية وضع الإسلام منهجًا تربويًا يخطط فيه طرق تنمية القدرات العقلية ومداركها، بحسب نمو الطفل مراعيًا في ذلك طبيعة الفروق الفردية في أساليبه التربوية. كما يخطط فيه طرق الوصول إلى الحقائق في الميادين المختلفة وأساليب التفكير فيها. لأن العقل نور كاشف للإنسان يعرف به ما هو حق وما هو باطل وما هو حسن وما هو جميل، كما يستطيع التمييز بين الخير والشر. وبدون هذا العقل لا تكون هناك حياة إنسانية حكيمة بأي حال من الأحوال.

ومن ناحية التربية الروحية فقد اهتم بها الإسلام، من حيث تطهيرها مما يشوه جوهرها من الآثام والرذائل الأخلاقية، ومن حيث تنميتها ليستطيع الاتصال بالخالق ويستمد منه العون والإشراق والطمأنينة، لأن الحياة الروحية هي التي تضفي على حياة الإنسان الإشراق والبهجة في الدنيا والأمل السعيد في الآخرة، ومن ثم تجعل الإنسان يعيش في حياة واسعة النطاق أوسع بكثير من نطاق هذه الحياة المادية، ثم إن الحياة الروحية طاقة دافعة للالتزام بالواجبات، وقوة للقيام بالمسئوليات وقوة لأداء الأعمال الفاضلة فوق الواجب وفوق المسئولية.

وأخيرًا فإن التربية الروحية ليست دفع الناس إلى الحياة السلبية والانزواء عن المجتمع كما صورها البعض بل إنها في نظر الإسلام تكوين طاقة روحية خيرة في الفرد تدفعه إلى المسارعة في عمل الخيرات والاستباق فيها لأن الرقي الروحي والاتصال بالله لا يتم إلا بجناحين؛ جناح العبادة كما فرضها الله وبين صورتها، وجناح خدمة عباد الله بكل ما يمكن من إمكانيات وطاقات. فاستخدام مثل هذه الطاقة الروحية الخيرة في المجتمع يدفع المجتمع إلى النهضة والتقدم في المجالات المختلفة.

أما من ناحية التربية الأخلاقية فقد اهتم بها الإسلام لتنشئة الطفل على المبادئ الأخلاقية وتكوينه بها تكوينًا كاملًا من جميع النواحي الأخلاقية وذلك بتكوين استعداد أخلاقي للالتزام بها في كل مكان وإشباع روحه بروح الأخلاق وذلك بتكوين عاطفة بصيرة أخلاقية حتى يصبح في النهاية مفتاحا للخير ومغلاقا للشر أينما كان وحيثما وجد باندفاع ذاتي إلى هذا وذاك عن إيمان واقتناع وعن عاطفة وبصيرة عقلية وعلمية معًا، وذلك باستخدام جميع الأسس والطرق والوسائل والأساليب التربوية التي تساعد على تكوين ذلك الإنسان الأخلاقي الخَيِّر المتشبع بروح الخير التي تجعله طاقة خيرة في المجتمع يقف أمام الشرور بكل طاقته وإمكانياته كما يعمل بكل طاقته لتوسيع نطاق الخير باتخاذ وسائله وأسبابه التي تؤدي إلى انتشار الخير في المجتمع وسيادته فيه.

 

أهم خصائص التربية الإسلامية:

أولًا: اقتران التربية العقلية بالتربية الاعتقادية: هذه الميزة نجدها في طريقة توجيه الإسلام للكشف عن الحقائق فهو في توجيهه هذا يوجه أولًا لدراسة الحقائق من حيث هي حقائق ثم يوجه مرة أخرى لدراسة هذه الحقائق من حيث دلالتها على الصنعة والإبداع والابتكار وما يدل هذا وذاك على وجود خالق صانع مبدع حكيم، ولهذا نجد الآيات التي توجه الإنسان إلى تلك الحقائق العجيبة في الكون وفي الإنسان نفسه تلفت النظر في بداية التوجيه أو في نهايته على أن في ذلك لآية تدل على صنعة صانع حكيم.

فمن قبيل التوجه الأول قوله تعالى: « وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)» (يس: 33-36) ومعلوم أن الأرض كانت هامدة جرداء من الحياة كما يقول الجيولوجيون فكيف ظهرت فيها كل هذا الألوان والأشكال من النباتات والحيوانات والإنسان، فأصبحت جنة بالنسبة لما كانت عليه وبالنسبة إلى بعض الكواكب الأخرى الهامدة التي لا يوجد فيها ما على الأرض من مظاهر الحياة. أليس لهذه الحقيقة دلالة على وجود خالق.

ومن قبيل هذا الأسلوب أيضًا إشارة الله إلى حقيقةٍ حيةٍ تتحرك أمام أعين الناس كحركة عقارب الساعة، وهي حركة دوران القمر حول الشمس ودوران الشمس حول نفسها فقال تعالى: « وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)» (يس: 37-40).

ومن قبيل التوجيه الثاني قوله تعالى: « وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)» (النمل: 88)، فإن الله بعد أن يشير إلى حقيقة علوية حية وهي دوران الأرض وما فيها من جبال يلفت النظر بعد ذلك إلى دلالة ذلك على وجود قدرة الله الفائقة التي صنعت هذا الصنع العجيب، إذ كيف تدور الأرض بهذه العظمة دورانًا سريعًا لا نحس به.

ولا نرى وجود هذا الأسلوب التربوي في نظام التربية والتعليم الآن حيث أنهم يكتفون بالكشف عن الحقائق في طبيعة الإنسان في الأرض والسماء، دون أن يتعدوا إلى الخطوة النهائية وهي دلالتها على وجود الخالق. فلو أنهم فعلوا ذلك لرأى المتعلمون آيات الله في كل مكان وازداد إيمانهم كلما تقدموا في العلم. ولعدم وجود ذلك الأسلوب التربوي يحصل عكس المطلوب، حيث أن المتعلمين كلما تقدموا في العلم قل إيمانهم وبردت حرارة عاطفتهم الدينية، ومن ثم يضيع إيمانهم بدلًا من أن يقوى ويزداد.

ثانيًا: إن موضوع التربية الإسلامية هو الإنسان بكل ما تتضمنه كلمة الإنسان من معانٍ واستعدادات في نظر الإسلام، ففي نظر الإسلام يوجد في طبيعة الإنسان كل الاستعدادات لحياة خلق من أجلها، وإن على التربية أن تأخذ بعين الاعتبار كل تلك الاستعدادات من بداية مراحل التربية إلى نهايتها وأن تغذي كل استعداد وتنميه وتراعيه حتى يصل كل استعداد إلى كماله ويؤتي ثماره ففي طبيعة الإنسان -كما سنبين بالدليل عند البحث عن الطبيعة الإنسانية- يوجد استعداد روحي وأخلاقي وعقلي وعاطفي وحسي ومادي للحياة الروحية والأخلاقية والعقلية والعاطفية والحسية المادية، لكن لا تنمو هذه الاستعدادات وتصل إلى كمالها وتؤتي ثمارها في الحياة إلا إذا روعي كل استعداد بالعناية والرعاية والتغذية بغذائه الخاص، كما يوجد كل الاستعدادات في الشجرة المثمرة وخصائصها في طبيعة بذرتها لكن لا يمكن أن تنمو الشجرة وتكتمل وتصل إلى الكمال الموجود بالقوة في البذرة إلا إذا روعيت البذرة عند الزرع في البيئة الأرضية التي تنبت فيها، ثم حفظت من العوامل الخارجية المفسدة، ثم منحت ما تحتاج إليه من الغذاء والسقاية في كل مرحلة من مراحل نموها بقدر معين إلى أن تستوي على سوقها وتؤتي ثمارها.

ولهذا نجد الإسلام يشبه التربية بالزرع ونجد كيف أن الرسول عمل ثلاثة وعشرين عامًا، حتى استطاع أن يربي جيلًا من أصحابه، تلك مدة لا تقل عن أطول مدة تستغرقها أي شجرة ما بين زرعها وإيتاء ثمارها، فقال تعالى: «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)» (الفتح).

إن هذه الخاصية للتربية الإسلامية تتلخص في أن التربية الإسلامية تربية إنسانية متكاملة ليستطيع الإنسان أن يحيا حياة إنسانية متكاملة كما قدرها له خالقه منذ بداية خلقه.

ولعدم وجود هذه التربية المتكاملة في التربية الحديثة فإنها تكون إنسانًا ناقصًا إما من الناحية الأخلاقية وإما من الناحية الروحية وإما من الناحية العاطفية الإنسانية. ونجد هذا النقص في جانب واحد أو عدة جوانب في كل تربية من أنواع التربية الحديثة.

ثالثًا: إن الهدف البعيد أو الغاية من التربية في نظر الإسلام غاية أخلاقية، وذلك يظهر في تحديد شخصية الإنسان المتربي، بأن يكون إنسانًا خيرًا يستخدم علمه وحياته في الخير ويتعلم العلم من أجل استخدامه في الخير ويجب أن يضع المربي والمتربي ذلك في اعتبارهما أول الأمر، حيث يقول النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ»، وورد في حديث طويل أن رجلًا تعلم العلم وعلم وقرأ القرآن ولم يكن تعلمه وتعليمه للخير وإنما للرياء والتكبر، فيسأله الله عن علمه فيقول له تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن فيقول الله كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار. ولهذا أيضًا قال تعالى: «... وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)» أي ليكن تعليمكم ودراستكم لله رب العالمين أولًا، لا لنيل الأغراض الدنيوية. مثل نيل الوظائف والافتخار والتباهي بالعلم أمام الناس أو لكسب دراهم معدودة، فإذا سقطت غاية التعليم إلى هذا المستوى الرخيص يكثر فيه الفساد. كما نراه في غش المعلمين والمتعلمين في ميدان التربية والتعليم اليوم.

رابعًا: إن على التربية تنشئة المتعلمين على الالتزام بالعلم أو بما يتعلمون، ذلك أنه لا فائدة من التقدم العلمي في ميدان الكشف عن الحقائق إذا لم نلتزم بما تعلم في الحياة العملية، إذ ما الفائدة من أن يصبح الإنسان طبيبًا مثلًا ولا يراعي قوانين الصحة في حياته العامة، وما الفائدة من أن نتعلم المبادئ الأخلاقية ثم لا نلتزم بها في حياتنا، وما الفائدة من أن نتعلم الدين ولا نتمثله في الحياة، ولعدم التزام كثير من العلماء بأخلاقيات الالتزام بالعلم يستخدمون علومهم في الأغراض غير الأخلاقية، ويتخذون العلم وسيلة لارتكاب الجرائم، ويا ليتهم لم يتعلموا قط لأن الجاهل المجرم أقل ضررًا من العالم المجرم.

ولهذا إذا لم نعلم المتعلمين ونربيهم على أساس الالتزام بالعلم والأخلاق معًا فلا ينبغي أن نعلمهم ولا ينبغي أن يتعلموا العلم بدون الارتباط به أخلاقيًا، ولهذا أمر الإسلام بالالتزام بالعلم حيث قال الرسول: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا»، وبين الرسول أن الإنسان سوف يُسأل عن علمه يوم القيامة فما عمل به فقال: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ».

ويبين الله تعالى أنه من الخطأ الشنيع أن يعلم الإنسان ويقول بعلمه ثم لا يعمل بقوله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)» (الصف: 2-3) ولهذا أيضًا بين الرسول كم يكون عذاب هؤلاء الذين لا يلتزمون بعلومهم شديدًا يوم القيامة عندما قال: « يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه».

وإذا نظرنا الآن إلى الشرور التي تأتي إلى المجتمع الإنساني من جراء عدم الالتزام بالعلم، نجدها أكثر من الشرور التي تأتي بسبب الجهل. وكل ذلك لنقص التربية ولعدم تربية المتعلمين على الالتزام الأخلاقي بالعلم أو بما يتعلمون.

خامسًا: اقتران التربية الأخلاقية بالتعليم وتعليم الحكمة: ذلك أن التربية الأخلاقية تطهر النفس من الرذائل وتنمي فيها روح الخير، والتعليم يزود العقل بالمعلومات وتعليم الحكمة بصفة عامة وحكمة ما يتعلم من المبادئ تجعل المبادئ تتفاعل في العقل. ثم تؤثر في الوجدان ومن ثم يتأثر بما يتعلم نظريًا وعمليًا فيتميز من غير المتعلم في مظهره ومخبره وجميع تصرفاته، ولهذا أرسل الله الرسول مربيًا ومعلمًا المبادئ والحكمة معًا لا مبلغًا فقط.

ولهذا أيضًا قال تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)»، إذن يجب أن تقترن التربية الأخلاقية بالتربية العقلية وبتعليم الحكمة.

 

  • واقع نظام التربية والتعليم:

وإذا نظرنا الآن في ضوء هذا إلى واقع نظام التربية والتعليم لا نجد فيه إلا التعليم المجرد من تربية القلب والتعليم التربوي، الذي يكون بإضافة تعليم الحكمة إلى تعليم المبادئ والمعلومات وببيان حكمة تلك المبادئ وقيمها المختلفة.

ونتيجة لهذا النقص في نظم التربية والتعليم اليوم امتلأت العقول بالمعلومات المجردة من الحكمة وتربية القلب وفسدت القلوب لإهمالها وعدم تزكيتها، ومن ثم فسدت الضمائر: ضمائر المتعلمين في معاملتهم لغيرهم وأصبحوا كغير المتعلمين في تصرفاتهم، لأنهم لم يتأثروا بمعلوماتهم في حياتهم العملية، ولهذا فالتعليم لم يصلح شيئًا من الفساد الأخلاقي والسلوكي، ولم يقلل الشرور في المجتمع إطلاقًا.

ولو طبقت أساليب التربية الإسلامية لتخرج كل متعلم وقد أصبح عالمًا إنسانًا خيرًا مؤمنًا قوي الإيمان.

 

  • خاتمة:

والآن بعد عرض معاني التربية في نظر المربين وفي نظر الإسلام نستطيع أن نقرر بأن مفهوم التربية في نظر الإسلام يتضمن معظم المعاني لمفهوم التربية، وبالقياس إلى ما لدى التربويين من مفاهيم خاصة بعضها تتركز على التربية على أنها طرق ووسائل، وأخرى على الهدف، وثالثها على طبيعة علمية التربية كعلم خاص بتكوين الإنسان. نجد أن مفهوم التربية في نظر الإسلام أعم من أن يقتصر على أنها مجرد وسائل وأساليب وأعم أيضًا من أن يتركز على الهدف الخارجي لأن تحديد الهدف يقع أساسًا على فلسفة التربية.

والتربية أخيرًا ليست مجرد علم خاص، لأن العلم يقتصر على تقرير مجموعة من القوانين والقواعد العلمية الخاصة بميدان معين من ميادين العلم. وإنما أصدق مفهوم للتربية في نظر الإسلام هو أن التربية: عملية تنفيذ لفلسفة التربية الإسلامية وتحويلها إلى واقع في ميدان تكوين الإنسان وتنشئته وتشكيله وتطبيعه بطابع الشخصية الإسلامية، ليمثل الفرد المسلم شخصية الإسلام في ذاته وفي سلوكه في مظهره ومخبره، في كل الظروف والأحوال مستخدمًا في ذلك كل الحقائق العلمية والأساليب الفنية التوجيهية لتحقيق الهدف المنشود على أكمل وجه ممكن.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم