شهدت البحوث التربوية في الآونة الأخيرة اهتمامًا واسعًا بالسلوك الإنساني. وفي ضوء تعدد الأطر الفلسفية تعددت الرؤى التي تفسر السلوك الإنساني في حالتي الصواب والانحراف، ويعد الإنسان في الرؤية الإسلامية الإنسان هو المخلوق الأهم والهدف المحور ضمن مفردات الكون؛ وما تتابعت المناهج الربانية إلاّ من أجل توجيه سلوكه وضبطه لينسجم، والغاية التي وجد من أجلها والتي تنتهي بإسعاده وخلوده بتعرفه على خالقه وموجده.
وفى دراسة تربوية لها بعنوان (الوهم وأثره في السلوك الإنساني..دراسة نفسية تربوية إسلامية(، ترى الباحثة التربوية د. انشراح أحمد توفيق أن السلوك الإنساني يعد المحصلة النهائية لما يتبناه الإنسان من أفكارٍ ومشاعر واتجاهات، فالعلم بدرجاته المتفاوتة -اليقين، الظن، الشك، الوهم- هو المعيار الذي يحدد مصداقية السلوك ودرجة صوابه، بمعنى أن مقدمات السلوك تحدد نتيجته، فإن كان السلوك مبنيًا على بيانات يقينية نتج عنه الصواب في السلوك أو قريبًا منه، وإن كانت مقدمة السلوك ظنيةً كان السلوك منحرفًا أو فيه انحراف.
ويشهد الزمن المعاصر الذي تعيشه الأمة بمفردها ومجموعها أنماطًا من السلوكيات المدفوعة بسلسلة من الأوهام النوعية المعقدة بتعقيدات هذا العصر وتداخلاته التي امتزجت فيها المتضادات من مختلف الصور والألوان؛ العلم والجهل، الحضارة والتخلف، المثال والواقع، القيم والمصالح...حتى أصبح العاقل من الناس يتساءل هل هو العلم أم أوهامه؟ هل هي حضارة أم وهم حضاري؟ هل هي قيم حقيقية تلك التي تتعالى بها الأصوات أم هي أوهام تخدم أغراضًا ومصالح من يدعيها.
مفهوم الوهم:
الوهم هو: ما يقع في الذهن من الخاطر، اصطلاحا هو: قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدماغ، من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات، كشجاعة زيد وسخاوته، وهذه القوة هي التي تحكم بها الشاة أن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه، وهذه القوة حاكمة على القوى الجسمانية كلها مستخدمة إياها استخدام العقل للقوى العقلية بأسرها، وهو إدراك المعنى الجزئي المتعلق بالمعنى المحسوس.
أما الوهم من وجهة نظر فلسفية: فهو كلُّ خطأ في الإدراك الحسي أو في الحكْم أو في المحاكمة المنطقية بشرط أن يعود هذا الخطأُ طبيعيا بمعنى أن الذي يرتكبه يكون قد خدعتْه المظاهر.
وفي ضوء الاختلاف في الوهميات من القضايا، هل هي يقينية قطعية أم أنها غير يقينية وكاذبة في ضوء المحسوس من القضايا وغير المحسوس منها، يمكن القول إن الإنسان لما يتعرض لواقعة معينة فإن وجها من وجوه إدراكه لهذه الواقعة قد يكون وهما، وهو فكرة تخطر في ذهن الإنسان دون النظر إلى إمكانية توافر دلائل مصداقية حصول هذا الخاطر على أرض الواقع أم لا.
وقد تمتد مراحل تشكل هذا الوهم من مجرد فكرة إلى سلوك، فالوهم بما يتمثله من أفكار يقدم للجوارح الصورة التوضيحية الأولى لمسار خريطة السلوك الذي سيعتمده هذا الواهم في حياته بما يتناسب والأفكار الموهومة المتبناة ابتداء.
على أن تشكل هذه الأفكار كان بالاعتماد على المحسوسات الموجودة أصلا، بمعنى أن المادة الخام المشَكلة للوهم معتمدة بالأساس على محسوسات واقعية لكن فيما بعد حدث تطور لهذا الخاطر نقله من جزئية متعلقة بالواقع إلى تفاصيل أصابها الخطأ في إحدى مراحل تشكل هذه التفاصيل، فقد يكون الخطأ ناجمًا عن إدراك هذه الجزئية الأولى-الحقيقية- أو خطأ ناجم عن عملية تحليل هذه الجزئية وتفسيرها أو خطأ متعلق بعملية الحكم عليها.
ومن ثم ينجم عن هذا الخلل حدوث الوهم في التصور، وبالتالي الوهم في السلوك الذي يعد مترجما لمنهج الإنسان الفكري والعاطفي والسلوكي.
وهناك عدد من الألفاظ المتعلقة بمفهوم الوهم، منها: الظن، الخيال، السهو، الكذب، الخرص، الشك، الغفلة، الجهل، الهوى، الشعور، اللبس. ويراد بهذه المفاهيم على الترتيب ما يلي:
1 -الظن: اسم لما يحصل عن أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جدًا لم يتجاوز حد الوهم، فهو في مرحلة تعلو في إدراكها مرحلة الوهم وتتقدم عليها بما تمتلكه من مؤشرات أوضح وأكثر دلالة، وهو كما يراه الشعراوي الجزم على عدم الجزم، أما الوهم فلا يكون إلا رجحان عدم الجزم على الجزم.
2 -الخيال: قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها فهو خزانة للحس المشترك ومحله مؤخر البطن الأول من الدماغ. فالتخيل يكون لصورة حدثت في الواقع ثم غابت عن المشاهدة، والدماغ يقوم بعملية استرجاع لهذه الصورة الغائبة، في حين أن الوهم ينشأ كمترجم لصورة مرغوب فيها لموافقتها لحاجة أو شعور أو فكرة مخزنة في العقل الباطن، ثم قد تجرى عليها عمليات تضخيم قد تنقلها من إطار الفكر أو الانفعال إلى إطار السلوك الظاهر.
3 –السهو: ذهول المعلوم عن أن يخطر بالبال وقيل خطأ عن غفلة، فالسهو إذًا غياب القدرة على إدراك حقيقة وقعت بالفعل أو هو الغفلة عن شيء معلوم، بمعنى أن الفعل المسهو عنه فعل أدركته الحواس بشكل أو بآخر، أما الفعل الموهوم فهو فعل متعلق بإدراك داخلي لا يظهر على العيان إلا لما يبلغ بصاحبه مبلغ الإيمان والقناعة الذي يجعل معتقده يترجم أوهامه بسلوكيات تتفاوت بتفاوت أوهامه وتنوعها فضلًا عن درجة إيمانه بها.
4 –الكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع. وقيل هو إخبار لا على ما عليه المخبر عنه.
5 –الخرص: الكذب، وحقيقته أن كل قول عن ظن وتخمين يسمى خرصًا، هبه طابق أو خالف من حيث أن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن. يلتقي الكذب والخرص في عدم مطابقتهما للواقع قصدًا في حين أن الوهم فعل غير مقصود من حيث أن صاحبه قد يخدع بالمظاهر فيتبنى أفكارا ومشاعرًا غير حقيقية بالاعتماد على مظاهر حقيقية في اعتقاده.
6 –الشك: الوقوف بين النقيضين.. وقيل الشك التردد بين نقيضين لا ترجيح لأحدهما عند الشاك وقال الراغب: اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده في النقيضين أو لعدم الأمارة. والشك ربما كان في الشيء هل هو موجود أم لا وربما كان في جنسه من أي جنس هو وربما كان في الغرض الذي لأجله وجد والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه. فالشك إذا يختلف عن الوهم في أنه يكون في حالة توسط لا ترجيح فيها لجانب على الآخر فكلا الطرفين مشتمل على دلائل وحجج بنفس القوة والإثبات في حين أن الوهم حالة يرجح فيها الخاطر لجانب أكثر من الجانب الآخر.
7 –الغفلة: متابعة النفس على ما تشتهيه. وقال سهل: «الغفلة إبطال الوقت بالبطالة»، وقيل: «الغفلة عن الشيء هي ألا يخطر ذلك بباله». وهي: «فقد الشعور بما حقه أن يشعر به»، قاله الحرالي. وقال أبو البقاء: «الذهول عن الشيء»، وقال الراغب: «سهو يعتري من قلة التحفظ والتيقظ». والغفلة تختلف عن الوهم في أنها عدم ظهور الخاطر في الذهن كأن حجابا يسترها عن التفكر في حين أن الخاطر يلمع في ذهن الواهم ويتشكل مكونًا تصورات وربما سلوكيات تتراوح في القوة والضعف بناء على درجة إيمان الواهم بما يتوهم.
8 –الجهل: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه. واعترضوا عليه بأن الجهل قد يكون بالمعدوم وهو ليس بشيء، والجواب عنه أنه شيء في الذهن، فالجهل والوهم يحدثان في الذهن إلا أن الجهل لا أساس له ليستند عليه في حين أن الوهم يستند إلى جزئية محسوسة في عالم الواقع.
9 –الهوى: ميلان النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع. فالهوى أحد العوامل المعينة على ميلان الواهم من حالة إلى حالة، بمعنى أن الوهم يكون عند رجحان احتمال على آخر وقد يكون هذا الرجحان ناجمًا عن رغبة في موافقة الهوى والميلان النفسي للشيء الموهوم.
10- الشعور: أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته وتتميز. فالشعور يتداخل مع الوهم في أن الخطوة الأولى لإحداث خاطر الوهم هو الشعور به؛ لأهميته أو لتمكنه من مخاطبة شيء من اهتمامات الإنسان وحاجاته.
11-اللَّبس: اضطراب الأمر على الإنسان.. والتباس حقيقة الحقائق بالصور الإنسانية. فاللبس وعملية الاضطراب الناجمة عنه هي ذاتها التي تتحصل في الوهم فتؤدي إلى خلق وتكوين تصورات جديدة ينجم عنها معتقدات وسلوكيات تتنافى مع المعتاد فينجم عن الاختلاف بين ما كان من تصورات وسلوكيات وبين ما صار من جديد التصورات والسلوكيات خلاف من مظاهره الاضطراب والالتباس.
مصادر الوهم وأسبابه:
مصادر الوهم موجودة ذاتيًا عند كل إنسان بناء على طبيعة حواسه وفكره ونفسه، أو طبيعة اللغة التي تحمل المعاني والأفكار أو تفسر في ضوئها. غير أن هذه المصادر لا تنفرد بإحداث الوهم، إلا إذا اجتمعت معها الأسباب الخارجية الناتجة عن كسب الإنسان وسعيه، وإرادته في تنمية الطبائع وتزكيتها، أو الارتداد بها.
ويشير ابن القيم إلى هذا التداخل فيقول: «ويكون سبب الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين، أو عرفيتين أو شرعيتين، أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما، فيعنى أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما على الآخر، إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وأما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى، فيعنى به معنى يحتمله باطنا بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته، لعرف خاص به أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته»، ويتضح تفصيل ذلك في الآتي:
مصادر الوهم:
1. الحواس: للحواس قدرات محدودة جدا، فالبعد المكاني وتشابه المظاهر السمعية والبصرية يوقعنا في الوهم، كما أن الاكتفاء برؤية المظاهر هو أحد أسباب الوهم حيث تُرينا حواسنا الواقع على غير ما هو (الوهم الإدراكي) فالوهم إذًا، إدراك مشوه تقوم به الحواس.
وهذا ما حدث في موقف بني إسرائيل من سحرة فرعون حيث خيل إليهم أن العصي ثعابين تتحرك فلما كان ما كان من معجزة سيدنا موسى عليه السلام تبين للجميع حال وهمهم وأدرك السحرة الفجوة الحقيقية بين الوهم (سحرهم) والحقيقة (معجزة العصا) فرعبوا وأدركوا الفرق فأنابوا إلى خالقهم وآمنوا.
2. الفكر أو الذهن: للفكر مطباتُه وتعقيداتُه وفخاخه. فالفكر يحفظ الذكريات والصور ويجمدها. كأن الواهم يتلاعب بسلوكياته بحيث في لحظة معينة. ويحبس حقيقةً ما في سجن العقيدة (يجعلها خادمة لمعتقد آمن به سلفا، ونستدل على ذلك بموقف المرائي في الدين الذي قد يموت في أرض المعركة ظنًا منه أنه خادم للدين في وقت هو فيه حقيقة خادم لمعتقدات تقوم على العجب وحب الذات)، عن أبي موسى قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى االله عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل االله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة االله هي العليا فهو في سبيل االله».
3. اللغة: قد تسهم اللغةُ في الوهم أيما مساهمة بتشويهها الواقع من خلال إعطائها معلومات ناقصةً أو خاطئةً. فكما ترى العين في بعض الأحيان الواقع على غير ما هو عليه، كذلك تُصور اللغةُ الواقع على غير حقيقته. وفي كثير من الأحيان يأتي الخطأُ والوهم من قُصورِ لغوي من خلال عدم قدرة مرسل الرسالة على التعبير أو عدم قدرة متلقِّي هذه الرسالة على الفهم أو عجز اللغة نفسها عن التعبير.
4. النفس: تَستخدم النفس الوهم أداةً لكي تُحافظَ على بقائها ولكي تتحقَّقَ، فالرغبةُ أحد أسباب الوهم؛ ذلك أن الإنسان لديه استعداد لتقبل أي شيء يقترح ويسبب دهشة وإعجابًا يرضي الذهن إلى حد يجعله يستسلم لهذه الانفعالات السارة، حتى لا يعود لديه مجال للاقتناع بأن لذته قد لا يكون لها أي أساس.
والوهم يرينا العالَم كما نرغب نحن أن يكون، يقول فرويد: «الوهم هو انتصار الرغبة على الواقع»، ويقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون: «الوهم منسوج من الرغبة ومن الجهل»، فالوهم، بالإضافة إلى أنَّه انحراف معرِفي، هو انجِراف عاطفي، فالوهم انحراف وانجراف وعدم اعتراف، والواهم في وضع مزدوج: فهو، من جهةٍ يعتبر ضحيةُ وهمه، ومن جهة أخرى يعتبر متواطئٌ مع وهمه برفضه التحرر منه. والنفس إذا أحبت شيئًا سعت فالوهم يسجن الإنسان في المظاهر- كما يرى أفلاطون- في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضا مذموما وفعل ذلك كان آثما مثل أن يبغض شخصا لحسده له فيؤذي من له به تعلق إما بمنع حقوقهم، أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم أو ما هو مأمور به من قبل الله فيفعله لأجل هواه لا الله، وهذه أمراض كثيرة في النفوس، والإنسان قد يبغض شيئا فيبغض لأجله أمورا كثيرة بمجرد الوهم والخيال. وكذلك يحب شيئا فيحب لأجله أمورا كثيرة؛ لأجل الوهم والخيال. وهذا يعني أن الإنسان ونتيجة لتعلق وجوده بحاجات معينة- رتبها ماسلو في سلم الحاجات الإنسانية- يستخدم الوهم كأداة قادرة على صناعة الحاجة من خلال الاكتفاء بوجودها عن طريق تأملها شعوريًا أو فكريًا فتصير لدى الواهم وكأنها حقيقة موجودة فعليًا يسعى إلى تنفيذ متطلباتها في أرض الواقع، وقد يصطدم الواهم بمواجهة حقيقية مع الواقع تحدث له صدمة من شأنها إيقاظه مما هو فيه من غفلة التوهم.
أسباب الوهم:
تشير النصوص القرآنية إلى أن الوهم يمكن أن يعود إلى الأسباب الآتية:
- التقليد: ويعنى به: إتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدًا الحقيقة فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول غيره أو فعله قلادة في عنقه فيقبله بلا حجة ولا دليل. وقد يكون التقليد في الفكر أو السلوك بمعنى أنه قد يكون داخليًا متعلقًا بالفكر والشعور، أو ظاهريًا متعلقًا بحركات الجوارح، وقد واجه الدعاة والمفكرون عقبات كبرى في سلوكهم طريق مخاطبة الآخر والتأثير عليه حيث أن أبرز التحديات التي تقف عائقًا في سبيل تغيير وتعديل السلوك الإنساني التقليد كظاهرة متمكنة من البشر وموجهة للكثير من تصرفاتهم وتوجهاتهم، فقلد المشركون آباءهم في عبادة الأصنام توهمًا منهم أنها المعبود المستحق للعبودية، وانتقل هذا المظهر السلوكي التقليدي كظاهرة تعبدية مصرح بها من جيل إلى جيل (فإذا فقد المشركون كل حجة ودليل على صحة ما ذهبوا إليه من عبادة الأصنام، أنهم وجدوا آباءهم يعبدونها فعبدوها واتبعوهم في ذلك مقتدين بهم لأنهم يعتقدون أن آباءهم أرجح منهم عقولًا وأصح أفهامًا فلا يمكن أن يكونوا في عبادة الأصنام على ضلال).
2 - التعجل وعدم القدرة على ضبط الانفعالات: فالعجلة تؤدي إلى عدم تفحص الأمور وتمحيصها فتتكاثر الاحتمالات وتتنوع الخيارات المنبثقة عنها دون إدراك حقيقي لإمكانيتها على أرض الواقع، فتكون العجلة بذلك تربة خصبة لنشوء أفكار واتجاهات موهومة.
3- الجهل: فالاستمرار بالجهل والإصرار عليه من خلال رفض الحق والإعراض عنه سبيل إلى إتباع الوهم وتمكنه من العقل والنفس والشعور. فالوهم تقتله اليقظة، واليقظة تتحقق بالمعرفة المقتبسة من مصادرها الصحيحة. لذلك نجد أن رسالة الإسلام قامت منذ بدايتها على دعوة صريحة إلى العلم والتعلم وكأنه ركيزة أساس من ركائز الدين التي لا يقوم الفهم الصحيح للإسلام إلا عن طريقها. والكثير من البعثات التبشيرية والإلحادية وغيرها تستند إلى الجهل في سبيل نشر الكثير من أفكارها الوهمية لأنها تعلم أن الوهم ينبت حيث الجهل موجود.
4 -إتباع الهوى: الهوى يشكل المراد الخفي لما نحب ونرغب، كما أنه يستلذ بوجود ما يعزز ويؤكد تمكنه من الشخصية ومن ذلك الأوهام، فكلما ازداد الهوى تمكنا من صاحبه كلما ازدادت مساحة الأوهام عمقا في الفرد ، كأن الهوى يمنح الفرد مبررات تجيز ظهور هذه الأوهام وتمنحها مبررات تجعلها سهلة التسلل من النفس إلى الفكر إلى السلوك.
5 - الكبر والغرور: وقد بينه الرسول -صلى االله عليه وسلم- بأنه رفض الحق، فالكبر يجعل الفرد يضخم أوهامه التي تستند إلى تقديره العالي لذاته فلا يستطيع أن يدرك أي رسالة اتصالية من غيره فهو المرسل والمستقبل وصاحب التأثير لذلك فهو كمن يدور في دائرة مغلقة ضيقة الأفق لأنه وببساطة لا يتقن التلقي فمصدر معلوماته ذاته الموهومة بحب الظهور والسيطرة، وما دام تفاعله متصفا بالجمود فإن إمكانية تعديل أو تغيير أوهامه متصف بالجمود أيضا. وقد يكون المال أو الجاه او الولد وغير ذلك من دواعي الكبر والغرور التي تحيق بصاحبها وتغرقه في الأوهام حتى يستبعد معها أي اعتراف بالحقائق.
وغالبًا ما تكون المجادلات الكثيرة التي لا تلين مع الحجج والدلائل نابعة من وهمِ متمكن في الشخص المجادل وغايته النصرة للذات لا إظهار الحق، فهو يرى من خلال ما يعتقده من أوهام أن ما يؤمن به من أفكار ومشاعر حدسية إنما هي تمثل الحقيقة بمطلقها، وغيرها باطل لا صدق فيه فتراه يتشنج غضبا ويرفض كل رأي مخالف لرأيه متبعا وهمه ومكتفيا بتقييمه الفردي لذاته وما يصدر عنها.
6 - غياب الحقيقة: وهذا الغياب للحقيقة سواء أكان مقصودا أم عرضيا يفتح المجال أمام تساؤلات عدة، وبما أن مصدر الحقيقة غير معلوم أو غير موثوق به فإن الإجابات لا تحقق المراد المطلوب فتكثر الأسئلة وتتنوع لتزيد المساحة المعتم عليها أو المشوهة وبالتالي لا يتحقق الإيمان الكامل بالفكرة المعروضة. ونجد في مقابل ذلك أن الإسلام قد قدم إجابات شافية لجميع تساؤلات البشر فيما يتعلق بالكون والحياة والإنسان مما يحقق للفرد سكينة وطمأنينة تمنحه إمكانية التصالح مع ذاته وغيره وخالقه.
7 - ضعف الحجة والبرهان وغياب الدليل والمنطق: وهذا يعني أن عرض فكرة معينة دون الاستدلال عليها بدليل قوي وحجة دامغة سيمنح الآخر المستقبل لهذه الرسالة الاتصالية أن يتوهم في تحليله لهذه الرسالة وذلك بسبب عدم الإحاطة بالفكرة بصورتها الكاملة منذ البداية.
8 - البيئة والظروف الاجتماعية: فالبيئة الاجتماعية تشكل أحد وسائل التوجيه والضغط على المقيمين في هذه البيئة والمتعرضين لمؤثراتها، فالإنسان بطبعه يميل إلى الجماعات وهذا يعني أن اجتماع فئة معينة على وهم معين- أيًا كان نوعه- يمنح الوهم قبولا مجتمعيا أوليًا ومن ثم ونتيجة لتضافر بقية الأسباب المعينة على تشكل الوهم قد يصير القبول المجتمعي للوهم أكثر عمقًا وشمولًا، ومن جهة أخرى فإن القهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، والظلم والخوف من المجهول واليأس من التغيير إلى الأفضل، والحرمان والإحساس بالعجز، وسيطرة الفكر الذي يسلب الإنسان حقه في أن يكون إنسانًا فاعلًا مؤثرًا، يصيب ويخطئ، يحوله إلى إنسان خائف مذعور، ويقنعه أنه مجرد شيء لا حول له ولا قوة، كل هذا وغيره يعد أسبابًا لسيطرة الخرافات والأوهام، وانتشارها، وتحولها من مجرد عبارات تقال، أو ممارسات عارضة، إلى سلوك حياتي ونمط تفكير، ومن ثم تنشأ مؤسسات تساعد على انتشارها، وتستخدم ما في جعبتها من وسائل وأساليب وطرق تؤكد بها شرعية ما ذهبت إليه.
وأمثلة هذا كثيرة في الإعلام المضلل ويتمثل أحدثها في ولاء كثير من العقول إلى ما يذيع في العالم عن أوهام (النظام العالمي الجديد) المزعوم .
أنواع الوهم وأساليب معالجته:
- وهم التخيل: ومما توضحه هذه الآيات الكريمة وصف حالة التوهم وسحر أعين الناس التي أصابت بني إسرائيل لما جاء سحرة فرعون بسحر عظيم في التمويه والتخييل وبلغ من شدته أن موسى خاف منه فقد انقلبت حبالهم وعصيهم في أعين الناس حيات ضخمة، عند ذلك أدرك االله تعالى موسى وقال له: ألق عصاك على سحرهم فألقاها فإذا هي حية أعظم تبتلع كل ما كانوا يكذبون به على الناس ويوهمونهم أنه حقيقة، عند ذلك بطل ما كانوا يعملون من السحر وثبت الحق في أن موسى صادق في أنه رسول من عند رب العالمين وغلب فرعون وقومه وألقي السحرة ساجدين فمعرفتهم بالحق أرغمتهم على الخضوع له والتسليم لرب موسى رب العالمين.
2 - وهم التنبؤ: ومن ذلك ما يدعيه السحرة والمشعوذون من قدرتهم على معرفة الغيب وقراءة المستقبل والتنبؤ ببواطن الأمور وما فيها من نفع أو ضر وما ذاك الادعاء إلا من ضرب التوهم.
3 - وهم العظمة: حيث يتوهم الإنسان لنفسه ما لا يقره عاقل كما حصل لنمرود بن كنعان مع سيدنا إبراهيم عليه السلام: فقد توهم وتخيل ثم ظن فضل عن معرفة نفسه وعن معرفة الحق ووقع في أمور لا يقبلها أي عقل سليم..ولقد كان احتجاج إبراهيم عليه السلام على الطاغية الذي يدعي الربوبية بأن الله هو الذي يحيي ويميت فتجاهل الطاغية معنى الحياة والموت وحرف الكلم عن مواضعه مدعيا قدرته على الإحياء والإماتة فلوى خليل االله عنقه حتى أراه عجزه عن تغيير نظام الكون فيما يتعلق بالتحكم بجهة حركة الشمس، فما كان من هذا الطاغية إلا أن يصاب بالبهتان أمام قدرة االله عليه وعلى الجميع.
4 - وهم المرض: وقد يكون الحسد بذرة مؤسِّسة له، بمعنى أن الحاسد يتخيل أن المحسود عدوه فيتآمر عليه وقد يجتهد في تدميره بل ربما يقتله رغبة في إنهاء وجوده الذي يعد سببًا رئيسًا في رهبة الحاسد وتوتره، وقصة أخوة يوسف تشهد بذلك، حيث كان من الخيارات التي أتاحها وهمهم بتملك قلب أبيهم قتل يوسف.
الأساليب التربوية الإسلامية في معالجة الوهم:
الوهم مرض معقد التركيب، متعدد الأبعاد؛ لذا فإن معالجته تحتاج إلى تصحيح الفكر، وتزكية النفس من آثاره السلبية ليسلم بعد ذلك السلوك ويرد إلى الصواب، ونجد في التربية الإسلامية أساليب كثيرة في التعامل مع مرض الوهم منها الوقائي ومنها العلاجي، ومن هذه الأساليب:
- تنمية العلاقة مع االله وأثرها في الوقاية من الأوهام ومعالجتها: للوهم حالات نفسية خطيرة تبث في روع الواهم الخوف والقلق واليأس والحزن والإحباط والتردد والعجز والكسل.. وقد يقبع الإنسان سنوات طويلة في سجن أوهامه مشلول الإرادة ضعيف الإنجاز. والتربية الإسلامية إذ ذاك توجه إنسانها من بين ما توجهه- إلى ضرورة ديمومة اللجوء إلى االله سبحانه بالذكر والدعاء لما فيها من أثر في غرس الطمأنينة والسكينة اللازمة لتهدئة حالات الخوف من المخاطر والتي جبل عليها كل الخلق بلا استثناء.
فكل ما هو مجهول النتيجة بالنسبة للإنسان كالمرض أو الفقر أو عوارض المستقبل قد يتسبب بالمخاوف وأشكال القلق الجالبة للأوهام، ومتى أصاب الإنسانَ عارضٌ من هؤلاء اهتزت قدرته على العطاء بشكل أو بآخر وصار عجزه عن اتخاذ رد الفعل المناسب تجاه هذا الطارئ سببًا في انشغاله عن العطاء وبالتالي عن تحقق الكمال في مهمته التي لأجلها وُجد، مما قد ينعكس بتأثير سلبي على تقديره لذاته فضلًا عن بقية الحاجات الإنسانية، لذلك أمرنا سيدنا محمد صلى االله عليه وسلم بالتحصن يوميًا من خلال دعاء االله بأن ينجينا من هذه الآفات التي لو شغلنا بهاشعوريًا وفكريًا لأدى ذلك إلى جمود الحياة والتوقف عن التفاعل مع مكوناتها، فالدعاء ملجأَ عن الغوص في قلق الانتظار لا سيما أنه مرتبط بركن من أركان الإيمان اللازمة وهو الإيمان بما قدر االله وقضى.
2- تزكية القدرات العقلية وتنميتها بشكل دائم لتتوجه نحو (الصواب المعرفي): ذلك أن القدرات العقلية تتعرض لحالات العافية والمرض والموت: فهي تصح بالعلم والعمل، وتمرض بالوهم والخرافة، وتموت بالجهل المطبق. وتزكية القدرات العقلية تتحقق بتزكية مسار الفكر وذلك بتنمية القدرات العقلية على التوجه للأهداف التي خلقت لأجلها. وتزكية أشكال التفكير، حيث يدرب إنسان التربية الإسلامية على النقد الذاتي، والتجديد، والتفكير العلمي بدل الظن والهوى.. سيما وأن الإنسان لديه إمكان ذاتي وآخر مكتسب غير ما هنالك من وسائل التزكية المعرفية يؤهلانه للحصول على المعرفة والوصول إلى الحقيقة. ولما كانت بواعث الوهم ذاتية ومكتسبة- كما مر سابقًا- يأتي دور التربية الإسلامية مكملًا لما قد يصيب المتعلم من معارف ومسالك خارجية بيئية فاسدة رافضًا للوهم وسلطانه.
3- المسارعة إلى توجيه الفرد قبل أن يشرع في بناء الوهم: فقد روى الحاكم أن الشافعي كان في مجلس بن عيينة فسأله عن هذا الحديث فقال الشافعي: إنما قال لهما ذلك؛ لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة فبادر إلى إعلامهما نصيحة لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئا يهلكان به.. ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم إذا كان خافيًا نفيًا للتهمة ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء، ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه.
4- مواجهة الواهم بتحديد الوهم المعتقد فيه تحديدا دقيقًا: وهنا يتضح توجيه النبي- صلى االله عليه وسلم- لرؤية سيدنا عمر المتعلقة بمعيار الترف المادي الذي يرجو أن يكون عليه حال المسلمين ويجد أنه من المستلزمات الواجب توفرها في حياة رسول االله- صلى االله عليه وسلم-، في حين أن رسول االله- صلى االله عليه وسلم- يجد في الرضا بما هو آت الراحة الدائمة كما أن الترف الدنيوي ليس معيارا واجب التحقق في حياة المسلمين.
5- بيان خطر الوهم بتحديد العواقب المترتبة عليه: ومن الحديث يتضح موقف سيدنا أسامه لما قاده وهمه في تصور ما لم يكن فما كان من نتيجة ذلك إلا أن يوجه إليه خطاب حاد من رسول االله- صلى االله عليه وسلم- لدرجة أنه تمنى لو كان إسلامه عقب فعلته ليمحو ما تقدم، فمعرفة الإنسان تتقيد بما يظهره اللسان لا بما يتصور من خواطر وانفعالات تدور في قلب الآخر.
6- النظر إلى مبررات الواهم على أنها قناعات: ولا بد من التعامل معها بأسلوب عقلي قائم على الحجة والبرهان، فبالرغم من أن الواهم لا يعتمد على الحجج والدلائل في بناء أوهامه إلا أن الآخر يحتاج إلى الدلائل والحجج لدحض الركائز التي تقوم عليها أوهام الواهم، ومن ذلك موقف سهل بن عمرو مع النبي- صلى االله عليه وسلم- لما كُتب بين الطرفين شروط صلح الحديبية، فسهل لم يرض الاعتراف بمحمد بن عبد االله على أنه رسول من عند االله واعتبر ذلك وهمًا انقاد خلفه جمع من العرب وفي المقابل راعى رسول االله- صلى االله عليه وسلم- ما قدمه سهل من شروط من شأنها تحقيق مصلحة تجلب معها فيما بعد دلائل تدحض هذه الشروط وتثبت أنها أوهام ولو بعد.
7 - مخاطبة الواهم بأسلوب يعتمد على مخاطبة حاجاته الإنسانية: فحاجة الفرد إلى التقدير تعني أن يكون مقبولًا اجتماعيًا من الآخرين والقبول الاجتماعي يتحقق باحترام الإنسان لنفسه واحترام الآخرين له، فلو أن أحدًا عرف بسوء عرضه وانحطاط قيمه الأخلاقية فكيف سيحقق قبولًا وتقديرًا من نفسه قبل غيره!
وكما هو متضح من مضمون الحديث النبوي أن هذا الرجل جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي اعتقاده أن من حقه أن يكون له نصيب في عرض غيره ما دام وافقه واتفق مع هواه وهذا وهم حقيقي لأنه يتعارض مع الفطرة السليمة ابتداءًا ومع حقوق الآخر تاليًا، وقد ظن هذا الرجل أن هواه كافيًا لجعله صاحب حق فما كان من رسول االله -صلى االله عليه وسلم- إلا أن استمع لمبررات وهمه ثم دحضها بأسلوب اعتمد فيه على مخاطبة الآخر من خلال مواجهته بفطرته السليمة فما كان منه إلا أن تراجع عما توهمه من رغبة أدت به إلى محاولة رد حكم االله الواجب في حفظ أعراض الغير.
8- التعامل مع الأخطاء الإنسانية معاملة مركبة: قائمة على تصحيح السلوك ابتداء من تصحيح الفكرة والتصور وانتهاء بتصحيح السلوك ذاته، وهذا ما انتهجه النبي -صلى االله عليه وسلم- لما عدل سلوك النفر الثلاثة الذين غالوا في تعبدهم بصورة تخالف التصور الصحيح للعبودية، فالمسلم يستعين بالله من الوقوع في هذه الأمور من خلال الالتجاء إلى االله بالدعاء.
أثر الوهم في السلوك الإنساني ونماذج تطبيقية:
- الانحراف عن الاعتقاد الصحيح: كما هو حال المقلدين المتبعين-مثلًا- لمن سبقهم ظنًا منهم بصواب اعتقادهم ومن الأمثلة الأخرى كذلك الفهم المغلوط للكرامة وما تبعها من تصديق للسحرة والمشعوذين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، وتصديق دعواهم الموهومة بقدرتهم على العلاج من الأمراض المستعصية والتي لا حلّ لها إلا على أيديهم!
2. الانحراف العلمي: كما هو الحال في أوهام النظريات العلمية المبنية على انحرافات فكرية، ومثالها أوهام النظرية (الداروينية)، ومجمل النظرية تقوم على أن الوجود قام بدون خالق وأن الإنسان قد تطور من القرد وأن هناك تسلسلًا في الأجناس البشرية التي ترجع بالإنسان في أصله إلى القرد.
ونشر داروين مؤلفات يثبت فيها أن الإنسان جاء من سلالة القردة العليا معتمدًا على ما نتج سابقًا من اكتشافات علمية في مجال التشريح وعلم الأجنة وعلم وظائف الأعضاء ودراسة النشاط العصبي لدى الإنسان والقردة العليا وأيضًا على أساس بيانات وفرتها علوم (البليونتولوجيا) وعلم (البليو انثروبولوجي) وقد اتسع الأمر ليصير نظرية علمية تدرس في جامعات العالم ككل، وفيما بعد ونتيجة لتقدم التقنيات الحديثة تم اكتشاف مراحل تخلق الجنين والتي أثبتها القرآن الكريم سلفًا، فبالتحليل المعملي التجريبي أثبتوا أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها عناصر الطين، وهي ستة عشر عنصرًا، تبدأ بالأكسجين، وتنتهي بالمنجنيز، ثم إن كشف عوامل الوراثة- التي لم يكن دارون قد عرفها- تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطا على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع- حسب نظريات الوراثة- هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام.
فالإنسان الذي يؤمن بان أصله قرد سيظل في نظرته لذاته ضعف واهتزاز ودنو في التقدير ينعكس سلبًا على تعامله مع الآخرين وتقديره لهم. أما المسلم الذي يعلم أن االله خلق الإنسان خلقة فيها كمال تكريم لبني آدم عموما سيشعر بقيمته الإنسانية فيحترم ذاته ويقدرها، ويتعامل مع غيره معاملة قائمة على الاحترام وإنزال الناس منازلهم لا سيما وأن رب الناس كرم الخلق لما خلقهم في أحسن صورة.
لذلك نجد أن المسلم عمومًا يحترم آدمية الناس فلا يسوغ الدين الإسلامي قتل الناس إلا بالحق، ولا يجيز إذلالهم وإهانتهم أيا كان دينهم، فالإنسان يُحتَرم لإنسانيته، بل إن إنسانيته أكبر مدعاة لأن يكون المسلم مسؤولًا عنه مسؤولية مباشرة من أجل النهوض بمستوى إنسانيته وعدم السماح بانحطاطها نتيجة للتفلت من قيم الدين الذي ارتضاه االله سبحانه وتعالى لخلقه أجمعين.
3. الانحراف العملي: ويستوعب كل تطبيقات الانحرافات الفكرية والعلمية، كطاعة قوم فرعون له بعد أن أوهمهم بانه ربهم الأعلى ومن الأمثلة المعاصرة: تطبيقات أوهام النظرية الدارويينية- فراعنة العصر الحاضر-: فقد أنشأت هذه النظرية أجيالًا غربية نشأت عليها وتشربتها بجميع أبعادها بحيث صقلت جميع تصرفاتها في شتى مناحي الحياة لديها. ويبدو الأثر واضحا في تعامل تلك المجتمعات مع أجناس وشعوب العالم الأخرى والتي تعتبرها النظرية في أسفل السلالات البشرية الحد الذي جعلها تطلق مصطلح (دول العالم الثالث) كصيغة تميز بها أدبيا هذه (السلالات الهمجية المتخلفة).
كما أن النظرية هي أساس نظرة استعلاء الأوروبيين تجاه الأجناس الأخرى في كل القضايا؛ فتركيز داروين كان على تفوق الجنس الأوروبي (الأبيض) على غيره من الأجناس البشرية من جهة وإثبات التفوق الكبير لليهود (شعب االله المختار) وسياستهم المطلقة على البشر من الجنس الحيواني من جهة أخرى، وذلك دعما وتأييدا لمزاعم واعتقادات اليهود بأنهم هم شعب الله المختار وأن بقية الشعوب ما هي إلا حيوانات مسخرة لخدمة اليهود.
كما أن النظرية تبرر للأوروبيين والأمريكيين إضفاء صفة الحضارة والتمدن لكل ما يقومون بفعله وعمله وأن لهم الحق المطلق في نشره وإذاعته وتعميمه بين الشعوب بلا هوادة أو حس أو ضمير-عولمته-. كما أن لهم مطلق الحق في استعمارهم وسيطرتهم على الشعوب المختلفة بمختلف الوسائل سواء عسكريا أو ثقافيا، أو فنيا، أو اجتماعيا، دون الحاجة إلى وجود مبررات مقنعة بدعوى أن هذه الشعوب متخلفة وأهلها في أسفل السلسلة البشرية، حيث يقول داروين: «إن الأجناس المتقدمة لا يمكنها أن تعيش بسـلام حتى تقضي تمامًا على سلسلتين أو ثلاث من السلاسل البشرية في أسفل السلسلة وإن لم تفعل ذلك فستعيش هذه الأجناس عالة على الأجناس المتقدمة».
ومن آثارها الهامة أنها جعلت الأوربيين ينسبون مصدر الأمراض والأوبئة إلى هذه الشعوب المتخلفة ويخصون بالذكر الأمراض حديثة الظهور والشـائعة مثل مرض الإيدز ومرض الكبد الوبائي الفيروسي (C & B Hepatitis).
وتعد هذه النظرية الأساس في الإباحية الجنسية الحديثة والتي تسمت بمسميات مختلفة مثل (الغناء، الرقص، التمثيل، العشق) والشذوذ الجنسي الحديث بمختلف أشكاله وألوانه واعتباره نوعا من السلوك الغريزي الجنسي البديل والتي جميعها تحبذ وتنشر وتشجع أعمال الجنس غير المشروعة بين البشر وتضفي عليها صفة الطبيعة الغريزية وحرية الاختيار الفردية والجماعية.
خاتمة وتوصيات:
توصلت الباحثة في دراستها للوهم إلى جملة من النتائج أبرزها:
- الوهم حالة ذهنية إنسانية عامة قد يتعرض لها أي فرد دون استثناء، والأوهام لها سلطان قوي في النفس بل إنها مجبولة على إطاعتها، ما لم توجه وتعقل بالعلم والدين.
- الوهم ينبثق من ذات الإنسان فكره أو حواسه أو شعوره وانفعالاته، لذلك فهو يتحرك من الداخل إلى الخارج محدثا آثارًا سلوكية تتفاوت في قوتها وضعفها بناء على درجة إيمان الواهم بوهمه واقتناعه به، فهو ظاهرة مرضية تستلزم معرفة مصدر الوهم وسببه لبدأ مرحلة العلاج.
- تشكل التربية الإسلامية- بمنهجها المنبثق عن الوحيين، والفهم الصحيح لهما، وأساليبها المستنبطة من تطبيقات السنة الشريفة- المنهج الصحيح للتعامل مع الوهم.
- يستخدم الوهم كأداة من أدوات صناعة السلوك الإنساني وذلك من خلال دفع العقل لتبني الأفكار والسلوكيات والانفعالات الواهمة وبمجرد الإيمان بها ينقاد الفرد الواهم إلى تطبيق ما يتطلبه وهمه من أفعال تشعره بالطمأنينة تجاه ما يتوهمه ويتبناه.
وأبرز توصيات الدراسة:
- دعوة الباحثين إلى دراسة جوانب أخرى لهذه الظاهرة كالجانب الجماعي؛ أي دراسة أثر الأوهام على الأمة ودورها في التخلف الحضاري.
- توجيه القائمين على مؤسسات التربية والتعليم إلى ضرورة تنقيح المناهج والبرامج التعليمية والتثقيفية من الأفكار الموهومة التي تدرس على أنها حقائق علمية يقينية.
- ضرورة تنقية وسائل الإعلام من البرامج والرسائل الإعلامية الموجهة والمشتملة على أوهام فكرية وانفعالية من شانها إحداث تأثيرات سلبية في السلوك الإنساني.
.