الخطاب التربوي الإسلامي هو ذلك الخطاب المكتوب (المقروء) أو المسموع (الشّفَهِي) الذي يتناول قضايا التربية والتعليم من منظور إسلامي، والذي يؤثر على العمل التربوي فى مجال التطبيق داخل العملية التعليمية والتربوية.
وفى دراسة للباحث التربوي الدكتور عبد الرحمن النقيب، بعنوان (الخطاب التربوي الإسلامي فى مصر)، يرى أنه رغم أن مصر بلدًا إسلاميًا بحكم الدستور، وشعبها شعب مسلم فى غالبيته العظمى، فما زال الخطاب التربوي الإسلامي فيها يخوض معركة البقاء، فضلًا عن السيادة والقيادة والتوجيه داخل ميدان التربية والتعليم فى مصر خاصة على المستوى الرسمي، وعدم السيادة الكاملة للخطاب التربوي الإسلامي على المستوى الرسمي والشعبي سيظل من أخطر القضايا التى تستحق الدراسة والمناقشة والتأمل من المصريين عامة ومن التربويين خاصة.
وليس هذا مجال مناقشة أسباب عدم سيادة الخطاب التربوي الإسلامي فى مصر، سواء على المستوى الرسمي، أو على المستوى الشعبي الذي يمثله المهتمون بالتربية والتعليم من أفراد الشعب، والذين يعبرون فيه عن رأيهم الخاص فى مجال التربية والتعليم. إذ لا يخفى على الكثير منا الظروف التاريخية التي مرت بالأمة وأرغمت الإسلاميين أن يتركوا مكان القيادة والتوجيه لكل شئون الأمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والاكتفاء بأن يكونوا في نطاق العقيدة والعبادة، وليس في نظام الدولة والثقافة والحضارة.
ورغم تلك الظروف التاريخية الصعبة لم يفقد الإسلام وتعاليمه قدرته على أن يكون مصدر إلهام ومحرك عقول تبحث عن هداية الإسلام التربوية وتعاليمه فى حقل التربية والتعليم بحثًا عن الإجابات الإسلامية للأسئلة والمشكلات التربوية مثل: لماذا نربى؟ وما أهداف التربية من منظور إسلامي؟ هل نربى الإنسان ليكون مواطنًا مصريًا؟ أم مواطنًا عربيًا؟ أم مواطنًا مسلمًا عالميَّـا، يتمثل فى الإنسان الصالح العابد المستخلف فى الأرض؟ هذا الإنسان الصالح العابد المستخلف فى الأرض لابد أن يختلف قطعًا عن المواطن الذي يقتصر ولاؤه على الوطن، أو يكتفى بالانتماء للقومية الضيقة. الإنسان العابد لله الذى تحرر من عبودية سواه من البشر و الأفكار والأيدولوجيات الوضعية القــاصرة.
الإنسان المستخلف من قِبَل الله فى الأرض ليملأها عمرانًا وحبًا وعدلًا وسلامًا. إنه بإيجاز (إنسان القرآن والسنة) والسعي للوصول بالإنسان لأقصى كمال إنساني ممكن؛ حتى يكون بالفعل كما أراده الله أن يكون عبدًا صالحًا مستخلَفًا فى الأرض. وهذا الإنسان القرآني قد وُجد بالفعل فى عصر الرسول ــ-صلى الله عليــه وسلم-، ووُجد بالفعل فى عصر الصحابة -رضوان الله عليهم-، ووُجد بالفعل عبر التاريخ الإسلامي كله، وإن كان بدرجات متفاوتة من الكمال والاقتراب من الصورة المثلى للإنسان كما يريده الله ورسوله، بل هو يمكن أن يكون الآن وغدًا، وإلى أن تقوم السـاعة ما وُجدت التربية الإسلامية الصحيحة التي تهدف بالفعل لإيجاد الإنسان الصالح العابد المستخلف فى الأرض، أي (إنسان القرآن والسنة).
تحقيق أهداف التربية والتعليم كما يراها الإسلام
ولكي تتحقق أهداف التعليم والتربية -كما يراها الإسلام- فلابد من إعادة صياغة محتوى التعليم ومناهجه؛ ليحتل القرآن والحديث مكانهما من المنهج، ولتُعاد صياغة العلوم والمعارف صياغة إسلامية تزيد الطلاب معرفة بالله من خلال فهم القوانين المادية والاجتماعية التى تحرك الكون المادي والاجتماعي، ولكي يزداد علمًا بتلك القوانين التي هي أصلًا من صنع الله.
هذا فضلًا عن الاهتمام باللغة العربية وتاريخ الأمـة الإسلامية وحاضرهـا ومســتقبلها ومشكلاتها، وكيف تحل تلك المشكلات حلولًا إسلامية أصلية غير مستوردة من هنا أو هناك، إن طالب اليوم للأسف الشديد يهتم بلغة غيره أكثر من تاريخه وحضارته، ولا يكاد يعرف شيئًا عن مشكلات المسلمين فى فلسطين والفلبين والهند وكشــمير وقطانى وإرتيريا والاتحاد السوفيتى سابقًا وجنوب شرق آسيا، فضلًا عن أوروبا والأمريكتين. ولا يكاد يدرك أن الأمة الإسلامية أمه واحدة. وهي غنيـة بثرواتها وأفرادها وإسلامها، قادرة على الانبعاث والتحضر إذا عادت إلى ربها، فبالإسلام كـانت، وبالإسلام يمكن أن تكون من جديد.
و (إنسان القرآن والسنة) لن يوجد فى هذا العصر مع وجود نسبة الأمية العاليـة بين المسلمين، إذ الأميـة والإسلامية ضدان متنافران، ويكفي أن أول سورة أنزلت فى القرآن هي سورة اقرأ {اقـرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1) وأن العلم والتعليم ضرورة إسلامية. ولابد أن تجند كل القوى والمؤسسات من أجل تعليم الأمـة: المساجد، والمدارس، والمعــاهد، والمكتبات، والتعليم النظامي، وغير النظامي، على أن يعاد النظر فـى هيكـل التعليم وسلمـه، بحيث يكون التعليم نظامًا مفتوحًا يسمح للطالب أن يتعلم ما يحب فى الوقت الذي يحب وفى المكان الذي يحب وعلى يد الأستاذ الذي يحب.
إن تجربة المسلمين فى التعليم المفتوح open system الذى لا يتقيد بسن لبدء الدراسة أو سن للانتهاء منها، ولا يتقيد بتشعيب مفروض: علمي أو أدبي، ويتيح للطالب تعليمًا حرًا مفتوحًا شاملًا comprehensive أقول إن هذه التجربة الإسلامية تحتاج إلى تأمل ودراسة إذا أردنا بالفعل أن نطور نظامنا التعليمى بما فى ذلك تعليم الفتى والفتاة.
إن التعليم غير الصفي non-graded schools والتعليم المنفصل Separated Education والتعليم بعض الوقت Part time Education وتســريع التعليم Acceleration of Education والمجموعات الخاصة Special grouping Education وغيرها من صيغ التعليم المعاصرة، والتي يمكن أن نجد لها نظـائر ومتشـابهات كثيرة فى تاريخنا الـتربوي الإسلامي يمكنها أن تساعدنا على إيجاد بنـًى وهياكل تعليمية أكثـر مرونة واستجابة لمتطلبات تعليمنا الإسلامي المعاصر.
كذلك فـإن (إنسان القرآن والسنة) يحتاج إلى نوعية جديدة من المعلمين القدوة، الذين يجمعون بين اتقان مـواد التخصص والدراية الكاملة بالإسـلام ومبادئه وقيمه، بحيث يمكنهم أن يقدموا العلوم والمعارف فـى ضوء الإسلام وتعاليمه، وبحيث لا يكون المعلم مجرد ناقل معرفة، بل هو بجوار ذلك وقبل ذلك مثقف وقائد ومرشد للأجيـال القادمة، ولابد أن يؤهل للقيام بهذا الدور وأن يُمَكّن علميــًّا وماديــًّا من النجاح فى أداء تلك الرسالة. إن معلم اليوم الذي فقد تمكنه فى مادة تخصصه، وحرارة الإيمان بتعاليم ديـنه، والظروف المادية الطاغية لإشباع حاجاته الضرورية غير قـادر على إيجاد الأجيال الصالحة العابدة المستخلفة لله فى الأرض.
وأخيرًا، فإن الطالب المتعلم لا ينبغى أن تكون الشهادة الدراسية مبلغ همه ولا غاية علمه، بـل إنه يعلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن طلب العلوم عـبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله، وسواء كانت العلوم شرعية أم اجتماعية أم طبيعية، فهي كلها أدوات إصلاح وعمران فـى الأرض. والمتعلم المستخلف (هو ذلك الإنسان الذي يسعى لصـلاح نفسه وتزكيتها بالعلم حتى يعبد الله حـق عبادته، ويعمر الأرض وفق شـريعته، ويسخرها لخدمة العقيدة وفق منهجه) وحتى يتحقق ذلك فلابـد أن تسـود المؤسسـات التربويـة روح إســلامية صحيحة، سـواء أكانت مؤسسـات تربوية نظاميـة: مدرسـة أو معهد أو كليـة.. إلخ، أم مؤسسات تربوية غـير نظامية: وسـائل إعلام، دور عـبادة، أحزاب.. الخ.
التجربة التاريخية الإسلامية فى إدارة التعليم وتمويله
أمـا عن إدارة التعليم وتمويله، فـإن التجربة التاريخية الإسلامية قـد أكـدت على أن إدارة هذا التعليم لابد أن تكون إدارة قوية أمنية، تعمل من أجل إيجاد وتربية الإنسان الصالح العابد المستخلف بالدرجة الأولى بكل ما يتطلبه ذلك من جهد وعمل وإخلاص. والتمويل قـد يكون رسميَّا وقد تكون شعبيًّا جماهيريًّـا، ولكنه فى جميع الحالات يتحول إلى أوقاف وهبات يقدمها الناس حكامًا ومحكومين؛ من أجل إقامة المؤسسات التربوية ورعايتها حسبة وقربة لله تعالى، بحيث يكون كل ما يناله الطلاب والمعلمون من أجور وأعطيـات لا يتضمن أي قيد على حريتهم الأكاديمية والمهنية، وهي حرية ينبغي ألا تحدها حدود فمن يعطى ويهب حقيقة هو الله، الذي ينبغي أن يكون هو المهيمن والموجه لكل أمور التربية والتعليم.
هذه بإيجاز مكثف أهـم ملامح الخطاب التربوي الإسلامي البارزة كما تعكسه المؤتمرات التربوية الإسلامية العالمية، وكما ترد خلال رسائل الماجستير والدكتوراه المقدمة فى مجال التربية الإسلامية بكليات التربية، وكـذا بعض البحوث والمؤلفات التى قام بعض أساتذة التربية والمهتمين بميدان التربيـة الإسلامية والتي قدر للباحث أن يطلع على بعضها. وإذا كان لنا من وقفة هنا أمام هذا الخطاب التربوي الإسلامي على مستوى التنظير فلابد أن نؤكـد على أن هذا الخطاب ما زال خطابًا فرديًّـا فى معظمـه، ولم يتحول إلى خطاب مؤسسى بعد. إذ لا توجد حتـى الآن فى مصر مؤسسة واحدة تتبنى هـذا الخطاب ودراسات وبحوث هـذا الخطاب.
ورغم وجـود الأزهر قلعة الإسلام الشامخة فى مصر، إلا أن كلية التربية جامعة الأزهر ما زالت صورة ثانية من كليات التربية فى سائر الجامعات المصرية، ولا يتمثل الخطاب الـتربوي الإسلامي داخلها إلا هامشًا ضيقًا من اهتماماتها.
وقد تجلى ذلـك فى قلـة المؤتمرات العلميـة التى تعقد من منطق تربوي إسلامي مقارنـًا بالمؤتمرات التربويــة العديدة التى تعقد بمصر كل عام ويكون صوت الخطاب التربوي الإسلامي أقل الأصوات حضورًا فيها. كذلك لا توجد دوريـة تربويـة واحـدة حتـى الآن متخصصة تقدم هذا الخطاب التربوي الإسلامي للجهات الرسمية والشعبية، ومن ثم يظل هذا الخطاب محـدود الشيوع والانتشار داخـل فئــة قليلـة محدودة من المهتمين بـه، فـإذا أضفنا إلى ذلك كله أن عدد رسائل التربيــة الإسلامية ما زال عددًا قليلًا، وكذا عدد المؤلفات التربوية التى تنحو نحوًا إسلاميًّا فى تأليفها ما زال محدودًا، وأن عدد الإسلاميين من بين أساتذة التربية ما زال فى مرحلة النمو أمام تخوف الدولـة من هذا الاتجاه الإسلامي، مما يحول قطعًا دون نمـو هـذا الخطاب التربوي الإسلامي، ويحول دون فرص ذيوعـه وانتشاره. إلا أن تلك العوامل لا ينبغى أن تخفى حقيقة أن القائمين على هذا الخطاب ما زال أمامهم طريق طويل كي يقدمـوا البدائـل التربوية الإسلامية لمشكلات الأمة، وأن معالم هذا الخطاب التربوي الإسلامي ما زالت فى حاجة إلى مزيد من التوضيح والخروج من دائرة العموميات إلى دائرة التفاصيل الدقيقة والمشاريع المحددة.
وما زال أمام الخطاب التربوي الإسلامي أن يوجد المؤسسة العلمية الشعبية التي تحتضنه وترعاه، والتي توجِد له منابره العلمية، ومؤتمراته السنوية، ودورياته الشهرية، ورسائله العلمية، وبالتالي أرضيته الواسعة بين المتخصصين والجماهير، بمـا يتيح له الذيوع والانتشار، وبما يجعله بـالفعل قـادرًا على توجيه العمل الـتربوي الإسلامي داخل مصر وخارجها.
فإذا انتقلنا الآن من الخطاب التربوي الإسلامي على مستوى التنظير إلى الخطاب التربوي الإسلامي على مستوى التطبيق، إذ التنظير دون التطبيق يكون كلامًا أجوفًا، كما أن التطبيق بدون تنظير عميق يكون جهدًا عشوائيًا. وسوف أترك هنا الخطاب التربوي الإسلامي على مؤسسات التعليم الرسميــة أو الحكومية، وكـذا مؤسسات التعليم الأجنبية، وأكتفى بالإِشارة إلى المدارس الإسلامية الخاصة، التي زاد عددهـا خلال السنوات العشرين الماضية زيادة محسوبة، ولكنها مطردة على كل حـال.
المدارس الإسلامية فى مصر
والمدارس الإسلامية فى مصر مدارس خاصة تهتم بالعربية والإسلام، وتحاول أن تهيئ للتلاميذ داخل المدارسة بيئة إسلامية صالحة من حيث: العقيدة، والخلق، والسلوك، وقد زاد عدد تلك المـدارس فى مصر من سبع مدارس ابتدائية عام 70/ 1971 إلى أربع عشرة مدرسـة عام 80/ 1981 إلى خمسين مدرسة عام 88/ 1989. ومن مدرستين إعداديتين عام 70/ 1971 إلى تسع مدارس عام 80/ 1981، بينما زادت المدارس الثانوية من مدرسة واحدة عام 70/1971 إلى ثلاث مـدارس عام 80/ 1981 إلى خمس مدارس عـام 88/ 1989، أي بواقــع إجمالي 73 مدرسة عام 88/ 1989 مقابل عشر مـدارس عـام 70/ 1971. وهـى زيادات مهما كانت محدودة إلا أنها تعكس رغبـة القـائمين على تلك المدارس، وكذا رغبة أوليـاء الأمـور فى إعطاء أولادهم جرعة إسلامية مناسبة لا تتوفر لهم فى مدارس الدولة أو المـدارس الأجنبية الخاصة.
ورغم أن تلك المدارس ملزمة بمناهج الوزارة ومقرراتها إلا أنها استطاعت من خلال إضافة بعض المواد: اللغة الأجنبية، والكمبيوتر. وحفظ القرآن، وكـذا من خلال الأنشطة اللاصفيــة والمناخ المدرسى أو المنهج الخفي أن تحقـق بدرجات متفاوتة تعليمًا متميزًا داخل تلك المدارس الإسلامية. إلا أنـه من الصعب أن نقول أن تلك المدارس قد ارتفعت بالفعل فى مجال التطبيق إلى المستوى النظري الذي يطرحه الخطاب التربوي الإسلام. ويحلو للقائمين على تلك المدارس أن يبرروا إخفاقهم فى الوصــول إلى المستوى الإسلامي اللائق بالظروف الصعبة التي تعمل ضدهم، سواء على المستوى الحكومي أو على المستوى الشعبى. ولكن العملة الرديئة دائمًا على المدى الطويل، وعليـه فإنه ما زال أمام تلك المدارس الإسلامية شوطًا طويلًا، حتى تحسن من مستوى أهدافها ومناهجها وفصلها وطالبهـا وإدارتها وتمويلها، وحتى تكون بالفعل المدرسة الإسلامية القـادرة على إيجـاد الإنسان الصالح العابد المستخلف فى الأرض. ومهما كانت العقبات التى تحول دون هذا الخطاب التربوي الإسلامي، سواء على مستوى التنظير أو على مستوى التطبيق، فليس أمام أصحابه إلا العمل بإخلاص وصدق من أجل تحسين هـذا الخطاب وتعميقه وإثبات صلاحيته على مستوى الفكر والتطبيق معًا. وفى النهاية فلن يصح إلا الصحيح: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض} (الرعد : 17).
.