Business

مقاربة نفسية وتربوية معاصرة في سياسة العقاب "نحو منهج تربويّ بديل"

 

الناظر في التراث التربويّ الإسلاميّ يجد ثراءً معرفيًا، وعناية سامية بعالم التربية والتّعليم، وقد أيقن القدماء بمركزية التربية في بناء الإنسان جسديًا، ونفسيًا، وروحيًا، ومن ثم تعددت مقاربات القدماء لمعضلة التربية بوصفها مدخلًا طبيعيًا للتقدّم والتمدّن.

ولعل القارئ قراءة استكشافية لأبرز المقاربات التراثية لموضوع العقاب يجد أنها ركّزت على الأبعاد الفقهية، والتربوية، والروحية، بيد أن معالجة ابن خلدون اتّسمت برؤية جامعة للبعد النفسيّ والروحيّ، مسترشدًا بمفهوم المَلَكَة، وفعاليتها في تنمية الإدراك، والإحساس بالانتماء الحضاريّ، والريادة في السبق بين الأمم والحضارات.

لذا يستعرض الباحث التربوى الدكتور عزيز محمد عدمان، في دراسة له بعنوان " مقاربة نفسية وتربوية معاصرة في سياسة العقاب "نحو منهج تربويّ بديل"، آراء عدد من علماء التربية المسلمين في سياسة العقاب في رحاب أسئلة معاصرة متجددة بتجدد أساليب التربية والتعليم, والاهتمام العالمي المتزايد بعالم الطفولة في أبعاده العلمية والنفسية والروحية.

 

أولاً: مفهوم سياسة العقاب عند ابن خلدون:

بعد قراءة متأنية لآراء ابن خلدون في التربية والتّعليم بدا لنا أنه ذَكر مصطلح العقاب بمعنى الشدّة والقهر، والعسف في تأديب الأطفال، بيد أن التعمّق في هذا المفهوم يقودنا إلى الإقرار بأنه تجاوز هذا الإطار الاصطلاحيّ إلى ربط العقاب بالأبعاد النفسية والأخلاقية والسياسية.

وقد استقرّ في الفكر التربويّ قديمًا وحديثًا أن العقاب هو النتيجة الطبيعية لكل سلوك سلبيّ، إلا أن ابن خلدون قدّم قراءة تتخطى عتبة البعد السلوكيّ والاصلاحيّ إلى مفهوم السياسة بأبعادها الواسعة. وهو يقصد بها القيادة وحسن تدبير الأمور في مختلف مجالات الحياة وشؤونها، وهو المفهوم الذي تعلّق بأدبيات الاستبداد، وأبجديات الاستعباد مما تذكره كتب الاصلاح السياسيّ، ومنها ما ذكره الكواكبيّ بقوله: (إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة).

فمراتب سياسة الأمور وتدبيرها متفاوتة، وفي هذا التفاوت الطبقيّ ما يدلّل على اتساع دائرة إصلاح شؤون الرعية. فما هو مفهوم العقاب الذي رامَهُ ابن خلدون في تربية الوِلدان؟.
 

أ‌- التأديب في الصغر وعلاقته بسوء المَلَكَة:

ينطلق ابن خلدون في حديثه عن أثر الشّدة في المتعلّمين من منطلقات نفسية معيشة، ومشاهدة في تاريخ الأمم والحضارات، مستلهمًا هذا المفهوم من الفكر التربويّ التراثيّ. وقد اختار للفصل الأربعين العنوان الآتي: (في أن الشدة على المتعلّمين مضرة وذلك أنَّ إِرهافَ الحدِّ بالتّعليم مُضِرٌّ بالمُتعلّمِ سيّما في أصاغرِ الولدِ لأنّهُ منْ سوءِ المَلَكَة).

ومقتضى ظاهر كلام ابن خلدون أنه ربطَ العقاب الذي هو الشّدة بالصفة الراسخة الثابتة في المتعلّم، ذلك أن الإفراط في القسوة في مرحلة عمرية محددة هي أشد أثرًا باعتبارها مَلَكَة سيئة ملازمة له في مراحل حياته، ومصاحبة له لا تزايله ولا تفارقه مهما حاول الانفكاك منها تبقى راسخة في أعماق وجدانه.

ولا يستطيع ناظر أمين في شؤون التربية المعاصرة إنكار هذه الحقيقة النفسية. فكمْ من أستاذ، ومعلّم قسا على طلبته، وحرمهم من عطف الفضيلة العلمية والحنان التربويّ، بل تلذّذ بمعاناتهم وتسبّب في قطع أرزاقهم، لأنه نما في بيئة قاسية. وكمْ من حاكم مستبدّ ظالم جائر تشبّع من منابع الاستبداد والعسف فجاءت شخصيته صورة ناطقة بهذا المنبت الوخيم، معبّرة عن هذا القهر، والإكراه.

وقد درج الكثير من الآباء على اعتبار هذا التأديب من باب الاعتداء على حرمة الطفولة وقداستها. والتّحقيق أن جهل بعض الآباء بعالم الطفولة في أبعادها المعقّدة والمتداخلة والمتشابكة هو مصدر هذا التصور المختل لطبيعة العقاب الذي يوجّه الطفل نحو قيم الفضيلة الخُلقية، والشيّم النّبيلة.

وقد أدرك كثير من فلاسفة المسلمين هذه الحقيقة الثابتة، وأولوها عناية فائقة في مقارباتهم لمشكلات التربية والـتأديب.

ولا مِريَة في أن مرحلة الطفولة هي عالم شديد الحساسية النفسية، وفيه يُغتنم الغرس الطيبّ قبل أن تتسارع القيم المنحرفة إلى استدراج الطفل الذي لا يملك القدرة على التمييز والإدراك، فالفساد أسرع إلى الأطفال وأشد التحامًا بطبائعهم. وقد أدرك المشتغلون بالتربية الإسلامية من فلاسفة المسلمين خصوصية هذه المرحلة العمرية التي تمثل الوعاء الفارغ الذي يُملأ بمختلف القيم السلبية والإيجابية، وكأنّ الطفل حلبة سباق، ومصارعة بين هذه الفضائل والرذائل، واللبيب الأريب هو الذي يحوز قصب السبق وسعة الذرع، ورسوخ القدم في إرساء شريف القيم، وعظيم السلوك في نفس الولد. فلِم هذه المسارعة والتسابق في نشر السلوك التربويّ؟.

ويكشف ابن مِسْكويْه عن سبل بلوغ المراتب السامية والمقامات العالية في تربية الطفل من خلال الرغبة الصادقة في تحديد ملامح الشخصية المرغوبة، ولا يتأتى ذلك إلا بعنصر الفطرة النقية السليمة، والمَلَكَة التي تهيؤه لقبول سياسة تدبير شؤونه، وإدارة أخلاقه، وفي هذا المعنى يشترط ابن مِسْكويْه: (أن يعلم أن كل إنسان مُعد نحو فضيلة ما، فهو إليها أقرب، وبالوصول إليها أحرى، ولذلك ما تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر إلاّ من اتفق له نفس صافية وطبيعة فائقة، فينتهي إلى غايات الأمور وإلى غاية غاياتها، أعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها).

فالفوز بمعالي الأمور، قبل اكتمال الأسباب، والأدوات هو ضرب من الخيال والوهم، بيان ذلك أن تحقيق اللذة الروحية، والسعادة الأزلية موقوف على أمرين:

1. وجود المربي الذي يقف وراء استكشاف قدرات الطفل المعَدّ للمراتب الفاضلة.

2. صفاء سريرة المتعلّم وملكته التّامة ضروريان في تحقيق المطلوب من السعادة الأبدية والراحة الكبرى.
 

ب‌- مساوئ مسلك الشّدة، والقهر، والاستبداد، وأثره في المتعلّمين:

إن غياب وعي الدولة في إدارة أحوال الرعية، وممارسة القهر والإكراه في مجال التربية وغيرها مصدره التخلي عن وظيفة التّسديد التي تروم تحقيق سعادة المجتمع، ورقيّه المعرفيّ والحِرفيّ.

ولا جرم أن البيئة الصافية من أساليب القهر والاستنطاق هي بيئة صحية منتجة لكائن سوي نفسيًا وتربويًا، وخُلقيًا، وأغلب الظن أن المواقف السلوكية المشاهَدة في أوطاننا تزكّي هذه الرؤية.

وما الترهل العلميّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ، والاقتصاديّ الذي نشاهده في بعض المجتمعات العربية والإسلامية إلا صورة حقيقية لِمَرْبَى القهر والعسف، والإكراه الممارس على الفرد في طفولته.

ولا شك أن تداعيات الشدة التربوية والقهر تتجاوز الإطار النفسيّ إلى انتكاسة إنسانية الإنسان وآدميته، وقد جرّد من قيم الفضيلة والانتماء، ومبادئ الاجتماع، فغدا مسلوب الإرادة، تابعًا لغيره لا يقوى على البناء والتشييد. وأنّى له ذلك وقد فَقَد حرارة الوجود، وشعلة النهوض؟.

ثم إن هذه النتيجة المدمّرة للقيم الإنسانية، والمُهلِكة لطبائع البشر جاءت نتيجة استقراء ابن خلدون لتاريخ الأمم، والحضارات، ولم يهتد إليها من نظرة عابرة، أو إحساس غامض بمآل القهر والتسلّط.

إنّ نشأة الاستبداد والتحّكم لا تتوقف عند عتبة الشدة على المتعلّمين، بل تمتد آثارها إلى المجتمعات الإنسانية قاطبة، لدرجة أن الذي يتولى شؤون الناس بقبضة الضيم والجور لا يرفق بالرعية، مما يولد طبائع الخبث والمكر، والخديعة والافتراء، وضعف الحمية، وفتور الانتماء، وهي إفراز طبيعيّ لهذا المسلك الوخيم في كل الأمم والشعوب. وقد ساق ابن خلدون اليهود نموذجًا لهذا الواقع كما هو مقرر في القرآن الكريم، والسّنة النبوية، ومصادر التاريخ قديمًا، وحديثًا.

فنشأة الظلم تولّد مرارة الانتقام، وتشيع في الفرد الشّعور باللاانتماء، واللاإرادة، وتفقده الإحساس بقيم الفاعلية والحيوية الإنسانية. وللقضاء على مسبّبات هذا المنهج القبيح ينبغي توفير بيئة تعليمية صحية تقوم على الرفق واللين والإحسان.
 

ت‌- حاجة الصبيان إلى التدبير، والرِفد، والمعاضدة:

الطموح الإنسانيّ غريزة في البشر، والحرص على تحقيقها لا حد له، ولا نهاية، لأنه حاجة لا لغاية، ولو كان الطموح غاية لانتهى بقضائها، ولكن الدنو إلى الحاجات بعد السعي إليها ينشأ من الصغر، وهو أسهل على الأولاد لطبيعة نفسياتهم المرهفة الطموح إلى المراتب العالية، والمقامات السامية. وقد علّل ابن سينا لخصوصية عالم الطفولة من منطلق ضعف تكوينهم النفسيّ، والاقتصاديّ، وقلة من يسند ظَهرهم، ويحميهم، بخلاف ما نجده عند أبناء الملوك من رعاية وعناية، ولهذا: (يحتاج أصغرهم شأنًا، وأخفهم ظهرًا، وأرقهم حالًا، وأضيقهم عطنًا، وأقلهم عددًا، من حسن السياسة والتّدبير ومن كثرة التفكير والتّقدير ومن قلّة الإغفال والإهمال ومن الإنكار والتأنيب والتعنيف والتأديب والتّعديل والتقويم، إلى جميع ما يحتاج إليه المَلك الأعظم).

فالموجب لرعاية الأطفال، وعنايتهم هو رقّة الحال، وضعف المستند، ووهاء المعتمد. وقد ربط ابن سينا بين خصوصية رعاية الأطفال، والبعد الاقتصاديّ لتبيان أن الفقير الذي لا مال له أحوج إلى الحماية والإنفاق بخلاف أولاد الملوك والوزراء الذين هم في غنى عن المساعدة، والمعاضدة، والمساندة. ومن ثم دلّ أن الحاجة أو الفاقة أو العوز من موجبات الرعاية الخاصة.

وقِوام الأمر: أن مساندة الصبيان في الصغر تستوجبها ثلاثة دواعٍ متداخلة: تربوية، ونفسية، واقتصادية.
 

ث‌- مسوغات العقاب:

يرى ابن خلدون أنّ العقاب في الإسلام ليس غاية لذاته، وإنما وسيلة لتقويم السلوك المنحرف والأخلاق الذميمة. والمتأمل في فلسفة العقاب الإسلاميّ يجد أنها تستند إلى التوازن بين اللين والشدة، وهي وسطية تراعي آدمية الإنسان وكرامته، وهي امتداد لمفهوم الحصانة الذهنية، والنفسية، والإنسانية التي تمنع من سطو الخبث والمكر والخديعة بالصبيان، وتحول دون إفراغ النفس البشرية من قيم المدافعة والانتماء والانتساب والشعور بالمشاركة الحضارية.

فصون النّفس البشرية من مقاصد الشّريعة الإسلامية، ولعل في مراعاة حرمة المتعلّم والولد تجسيد لكرامة الفرد وصيانتها من العسف والقهر والاستبداد، الذي يشوّهُ وجه الإنسانية، ويجرح آدمية الإنسان، وبهذا الاعتبار دلّ أن العقاب المُذلّ، والجارح للشعور البشريّ هو مسخٌ لكينونة الإنسان، وسلب لإرادته.

فالغاية التربوية هي الوسيلة إلى نيل الفضائل، وأداة لشحذ الهمم. وينبغي للمعلّم أن يدرك هذه الغايات السامية لكي لا يحيد عن جوهر السلوك التربويّ.

ولا مرية في أنّ الغايات من العقاب تتعدد بتعدد المقاصد التعليمية، والتربوية، والأخلاقية. وقد ميّز التربويون بين الضرب الذي يفضي إلى تقويم السلوك التعليميّ، والضرب المؤدي إلى تصويب أخلاق المتعلمين، إذ: (أنّه يُرجع في الضّرب للاصلاح –كتكاسُله عن الحفظ، وتفريطه فيما علَّمه_ إلى ظنّه واجتهاده، وأمّا الضّرب لوُقوع فُحش منه –كَهَرَبه، أو إيذائه لغيره، أو نُطقه بما لا يليق_ فلا بدّ من تيقُّنه، أو من إخبار من يُقبل إخباره بأنّه فعل ذلك).

 

ثانيًا: حكم العقاب من منظور الفقه الإسلاميّ:

مراعاةً لحرمة الطفولة وقداستها وضع الشّارع جملة من الضوابط الفقهية التي توجه العقاب، صونًا لكرامة الأطفال والولدان، وحمايتهم من الاستبداد والغصب.

وقد يترتب عن الضرب تبعات شرعية ملزمة للمعلّم، ولعل وقوع بعض المعلّمين في خطأ العقوبة وتنفيذها مصدره الاعتقاد بالوصاية الكاملة على المتعلّمين، وهي وصاية غير مشروعة، لأنها لا تستند إلى الإذن بالضرب من ولي الأمر، ومن ثم يرى الفقهاء أنه: (لا يجوز الإقدام على الضّرب إلاّ بالتّصريح، فليس مجرّد الإذن في التّعليم إذنًا في الضّرب، لأنه لا يستلزمه، فسُكوته عنه يحتمل رضاه به وعدمه. ولا يجوز الاعتماد على العادة ونحوها، إذ العقوبات يُحتاط فيها وتُدرأُ ما أمكن كما أجمعوا عليه. فإذا وُجد الإذن المُعتبر: جازَ للمُعلّم الضّرب على كلّ خُلق سيّء صدر من الولد، وعلى كلّ ما فيه إصلاحٌ للولد).

والعقاب له ضوابط وأصوله وقواعده، التي يمكن إيجازها في النقاط الآتية:

1. الإذن أو التصريح بالضرب، وهذا يدل دلالة واضحة على أن استشارة وليّ الأمر في العقوبة واجب شرعيّ.

2. موافقة ولي الأمر على تعليم ابنه أو ابنته لا يستوجب الموافقة على ضربه، كما أن سكوته لا يعني قبول ضربه.

3. العقوبة إجراء احتياطيّ واحترازيّ لا يُلجأ إليه إلا لضرورة الإصلاح أو التربية أو التهذيب أو تقويم سلوك منحرف.

4. تقييد الإذن بالاعتبار، ومن ثم يُستبعد الإذن غير المؤسَّس على رضى أولياء الأمور، ومن ينوب عنهم شرعًا، وأغلب الظن أن الإذن المعتبَر هو الذي يستند إلى مراعاة واجب الأبوة، وحقوقها، وشروطها، وأحكامها.

5. جواز الضرب هو مرحلة أخيرة بعد استيفاء الشروط المنصوص عليها أعلاه.

 

 يقول أبو حامد الغزاليّ – رحمه الله – [ 505هـ] مبرزًا مقام المعلّم، ووظيفته الطاهرة المقدّسة: (والمعلّم متصرّف في قلوب البشر ونفوسهم، وأشرف موجود على الأرض جنس الإنس وأشرف جزء من جواهر الإنسان قلبه والمعلم مشتغل بتكميله وتجليته وتطهيره).

ولعل مقام تشريف الإنسان، وتكريمه هو الذي رفع من قدر المشرِف على جوهر هذا المقام ولبّه، وهو محل التشريف المقصود بالتحلية والتخلية. ولعلّو هذه المنـزلة، وشرفها وسمّوها صُدّق المعلّم على وليّ الأمر إذا ادّعى ضرب ابنه.

لا جرم أن المكانة العلية التي أقرّها الشرع الإسلاميّ للمعلّم، والثقة التي منحها إياه لا ينبغي أن تُفهم في إطار السلطة المطلقة التي تدير شؤون الأحداث بمقتضى القهر، بل هي سلطة معنوية مستوحاة من إقرار الإسلام بوظيفة التّعليم المقدسة، وهي سلطة محكومة بضوابط الشرع، ومن ثم دلّ على أن المعلّم الذي يسبب ضررًا ماديًا للمتعلم يستحق عقوبة القصاص كما ورد في الفقه الإسلاميّ، وفي هذا المقام يرى العلماء أنه: (إنْ ضربَه باللّوح أو بعصا فقتله فعليه القصاص، لأنّه لم يؤذن له أن يضربه بعصا ولا بِلَوْحٍ).

 

ثالثًا: نوع العقاب، وحدوده، وشروطه:

يجد الناظر في تراث علماء السلوك في الإسلام تباينًا واضحًا في آرائهم في طبيعة نوع العقوبة، ومقدارها، وحدودها، وشروطها، وإن أجمعوا على ضرورتها عند الحاجة الملحّة والضرورة القصوى. فهي وسيلة تهذيبية، لإدراك مقاصد جليلة، وغايات شريفة. فليست مقصودة لذاتها كما شاع في بعض المجتمعات العربية والإسلامية التي اعتمدت العقاب غاية لتقويم سلوك منحرف، كما أن بعض المجتمعات العربية والغربية منعتها مطلقًا، مما أدى إلى ظهور حالات من الاعتداء على الأساتذة لدرجة القتل العمديّ داخل الحرم الجامعيّ.

فعناية الإسلام بالطفل بلغت مبلغًا من الحرص، والرعاية لا نجده في الثقافات الغربية الأخرى، ويشهد على هذا الاهتمام الخاص أن بعض العلماء والفقهاء وسّعوا مجال النظر في أدوات العقاب، ووصفوها وصفًا في منتهى الدقة، مراعاة لآدمية الطفل، وحرصًا على حفظ كرامته من مختلف أشكال الإساءة الجسدية والنفسية.

لا شكّ في أن الغاية المثلى والهدف الأسمى من العقاب هي: الإصلاح، وتقويم الجانب الخُلقيّ من التربية، وأغلب الظن أن في عدم مراعاة هذه الضوابط تعدٍ على حرمة الطفل دون مسوّغ لهذا الاعتداء. وخليق بالإشارة أن التريث، والأناة، والرفق والتؤدة في العقاب مصدره خصوصية عالم الطفولة، وما يترتب عن العقاب من آثار نفسية في المجال التربويّ، من قتل لقيم الانتماء، والشعور بالغبن في الصبيان – كما تقدم تقريره عند ابن خلدون في صدر هذا البحث -، مما يورّث الوحشة، والانقباض، والنفور من التعلم، ولهذا يرى التربويّون: (أن للعقاب شروطًا يجب أن تراعى كي يكون مثمرًا، منها أنه يجب أن يتلو الذنب مباشرة وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو من الشّدة بحيث يشعر بالظلم أو من النوع الذي يجرح الكبرياء، ومنها أن الإسراف في العقاب يذهب بقيمته، كذلك الحال في التهديد دون العقاب).

ولحكمة التدرج، ومراعاة مراتب التأديب اعتبِر العقاب من باب التعزير الذي يردع الولد عن معاودة الوقوع في الخطأ، وبهذا الاعتبار يُعدُّ: (التعزير أخف في الحدّ في عدده فلا يجوز أن يُزاد عليه في إيلامه ووجعه).

فالعقوبة كما أقرّها الفقهاء وعلماء السلوك والتربية لا تخرج عن إطار الزجر، والإصلاح، ومتى تحققت الفائدة منها، وأدت الوظيفة التأديبية المنوطة بها أُجيزت بمقتضى ما وُضعت له.

وقد وُصفت العقوبة عند علماء المسلمين بالضرب المبّرِّح، وإن اختلف الفقهاء في طريقته، وحجمه وشدته، إلا أن الإمام الأنبابيّ _رحمه الله_ يرى أنه الضّرب: (الشّديد الإيذاء، بحيث لا يُحتمل عادة، وإنْ لم يُدْمِ البدن. فإذا ظنَّ أنَّه لا يُفيد إلاّ المُبَرَّح: فلا يجوز المُبرَّحُ إجماعًا، ولا لغيره على الأصحِّ، لأنّه لا يُفيد).

فالضرب الشديد غير جائز عند فقهاء الشريعة الإسلامية، لأنه يبتعد عن مقصد الزجر والإصلاح إلى غاية الانتقام، والقسوة والإكراه، بل إن العلماء لم يجدوا غضاضة في تحريم الضرب المبّرح، وإن كان الوسيلة الوحيدة المتاحة في تصويب سلوك الطفل بعد تطبيق كل أشكال العقوبات الرادعة، والواعظة، والمصلحة.

لا نزاع في أن الشّريعة الإسلامية السمحة شريعة إنسانية، كرّمت الفرد والجماعة وشرّفتهما أيّما تشريف، وبهذا المنطق الأخلاقيّ تُعدّ العقوبة الفظّة الغليظة تجريدًا للإنسان من إنسانيته وآدميته التي جعلها القرآن من مقاصده. فالرفق، واللين، والرحمة من مقوّمات التّشريع الإسلاميّ الذي راعى العقل بوصفه أعدل قسمة بين الناس. فكيف بمعلّم عاقل راشد ينهال بالضرب المؤلم على تلميذ لا يملك من وسائل الإدراك والاستيعاب ما يؤهّله لفهم مآل السلوك المرتكب وعواقبه؟.

إنّ الحفاظ على قدسية الطفولة، وحرمتها، ووقارها، وعذريتها مما يستوجب التأني في النـزوع إلى الإساءة الجسدية والنفسية، لأنها شكلٌ من أشكال: (العقاب الذي يجرح كبرياء الفرد؛ إذ أنه قد يولد في نفس المعاقَب الكراهية أو الشعور بالنقص أو فقْد الثقة بالنفس).

ولعل آثار الضرب الشّديد، وعواقبه الجسدية، والنفسية، والتربوية أفرزت بعض المناهج السلوكية في الفكر الإسلاميّ قديمًا دفعت ببعضهم إلى عدم التّعويل على العقوبة الجسدية، وأن يستبدل بها العقوبة الروحية التي تكتفي ببسط العذر، والتلطف، وعدم المكاشفة في التوبيخ، والتدرج في الترهيب، وغيرها من الآداب السّنيّة، والقيم المَرْضيّة الفاضلة.

ولِعِظم هذه الطرق التربوية وفائدتها _كما نعتقد_ عند شريحة واسعة من المتعلّمين دون غيرهم ممن استحكمتْ لديهم الأخلاق الذميمة، وأصبح العقاب هو العلاج الشافي والدواء الكافي لمن نشأ في بيئة يحكمها العنف الأسريّ، والقهر الاجتماعيّ، والاستبداد الأبويّ، فإنّ هذه شريحة محوجة لمداراة وعلاج طويلين.

 

رابعًا: كيفية الضرب:

حدّد الفقهاء طريقة الضرب العملية، وكيفياتها المختلفة. والناظر في هذا التحديد يلفي أنهم راعوا مقصد الوسطية في العقوبة من جهة، وتجسيد غايات الردع، والزجر، والإصلاح من جهة ثانية. وفي هذا السياق يفصّل الأنبابيّ طريقة العقوبة، شارحًا مراحلها قائلًا: (أن يكون مُفرّقًا لا مجموعًا في محلٍّ واحدٍ، وأن يكون في غير وجه ومَقتَلٍ، وأن يكون بين الضّربتين زمنٌ يَخفُّ به ألم الأوّل، وأن يرفع الضّارب ذراعه – ليثقل السّوط – لا عضده، حتى يُرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلا يعظم ألمه، ولا يضعه عليه وضعًا لا يتألّم به).
 

وجُمّاع الأمر في هذه الطريقة الإنسانية في العقوبة المراعية لشرف الطفل وآدميته، أربع نقاط:

* تفريق الضرب، وعدم تمركزه في منطقة واحدة من الجسم، توزيعًا للألم، وتفريقًا له.

* تجنب مناطق المهالك من الجسم كالوجه، ونحوه من الأعضاء التناسلية.

* مراعاة المهلة الزمنية المطلوبة بين الضربتين، لأن في توالي الضربات مزيد قسوة، وألم، وقهر.

* رفع الذراع دون العضد، تحقيقًا للهيئة الوسطى من الضّرب بين شدّة الألم، وخفةّ الأثر.

 

فالوسطية مطلب الشريعة في التعزير وغيره، ولا نعتقد أن شريعة من الشرائع السماوية رعت هذه التفصيلات المَرْضِيَّة، والوضعيات الشرعيةّ في العقاب، بخلاف الأمم الأخرى التي تجعل من العقوبة غاية انتقامية لا وسيلة إصلاحية رادعة. والمتأمل في كثير من التفريعات الفقهية الخاصة بالعقاب يهتدي إلى الاقتناع برحمة الدين الإسلاميّ، ومراعاته لحقوق الطفل النفسية، والجسدية، بل إن الفقهاء قد أجمعوا على عدد الضربات دون تجاوز العدد المطلوب الذي يحقق حسن التربية، وتقويم السيرة المضطربة. وفي هذا الصدد يرى العلماء أنه: (لا يجاوز بالأدب ثلاثًا إلاّ أن يأذن الأبُ في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا).

فتقييد العدد بثلاث ضربات مصدره عدم الانفلات من حدود الإصلاح وغاياته،كما أن أقصى ما تصل إليه العقوبة عشر ضربات وهي النهاية في الضرب. وقد علّل العلماء لتحديد هذا المجال بين [3- 10] بقولهم: (لأنّ عشرة غايةُ الأدب).

فالأدب موقوف على ثلاث، وغيره من الضربات إلحاق الأذى بالغير إن أذن الوليّ بعشر. وفي فلسفة العدد التي أقرّها الدين الحنيف ما يوحي بتفاوت الجرم المرتكب حجمًا، وطبيعةً.

 

الخاتمة:

الحاصل من هذه المقاربة النفسية والتربوية لسياسة العقاب أنها تؤصّل لمنهج تربويّ فريد يستشرف آفاقًا حضاريةً، ومعرفية تتجاوز الأطر التربوية الضيقة إلى فضاءات من الممارسة التعليمية الجادة والفاعلة والمثمرة، تنطلق من رؤية كونية لمفهوم آدمية الإنسان وحرمته وهيبته، في رحاب التربية الإسلامية المسدَّدة بمقاصد الوحي. ويمكن استخلاص النتائج الآتية:

1. التربية الأُسَرية هي مفتاح السعادة الأزلية واللذة الأبدية التي يستشعرها المتعلّم.

2. الشّدة على المتعلّمين تورّث المكر والخديعة، والتخابث، وتسلب المتعلّم روح الانتماء للأمة، وتضعف من مَلَكَة التّحصيل.

3. الرفق واللين بالمتعلّم يزيد من انبساطه، ويوسّع من نشاطه.

4. العقوبة ضرورة قصوى، لتحقيق غايات الردع، والزجر، والإصلاح دون جرح شعور المتعلّم، وخدش إنسانيته.

5. العقوبة تقدّر بقَدَرها من طبيعة الجرم المقترَف.

6. المنهج التربويّ البديل الطموح الذي يحرّك الرغبة في التعلّم، والاستزادة من القيم الفاضلة، والشيم الكاملة هو الذي يزاوج بين الثواب والعقاب، والأنس والوحشة، والإعراض والإقبال، والحمد والذّم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم