Business

الأفكار التربوىة عند الإمام ابن حزم الأندلسى

 

لقد تميز الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم -رحمه الله- بالأصالة والابتكار، واتسم إلى حد كبير بـالاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة، وكان ابن حزم قوي الحجة في الدعوى إلى أفكاره متحمسا لرأيه، ويظهر أنه لم يلتزم باللين مع أنه نصح الآخرين به في رسالته "الأخلاق والسير"، ولعل ثقته بنفسه واعتقاده أنه صاحب رأي صائب جعله يشعر بأنه لا مجال للالتزام باللين، خصوصا وأن الخلاف المذهبي كان حادّا في الأندلس، ومن ثَمّ رأى مواقف خصومه كأنها مكابرة في الحق.

 

-       التعريف بابن حزم الأندلسى

هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ولد بقرطبة في رمضان عام 384ه، لأسرة موسرة، وعاش سنواته الأولى في قرطبة، ثم تنقل هو وأسرته في أرجاء الأندلس، ومرت به مشكلات أدى بعضها إلى دخوله السجن وفي عام 414ه، صار وزيرا للخليفة الأموي المستصغر بالله، وكان ابن حزم يرى أن هذا المنصب قد يساعده في تحقيق أهدافه السياسية التي يتمثل في وحدة الأندلس، والوقوف صفا واحدا ضد مسيحى الشمال الأندلسي، لكن هذا الأمل تلاشى بسرعة حين قتل المستصغر بالله بعد أقل من شهرين من ولايته، وطورد ابن حزم من خصوم بني أمية، فعكف على طلب العلم والتفرغ له، وكان يناهز الخامسة والثلاثين من عمره.

وكانت اهتمامات ابن حزم العلمية واضحة منذ نشأته الأولى، وكان أبوه الوزير أحمد بن حزم حريصا على تنشئته على السلوك الإسلامي القويم، وكان يحيطه برقابة دائمة في سنوات الطفولة والصبا، ولذا لم يبرح قصر أبيه للتعلم في سنواته الأولى، فتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم ورواية الشعر داخل القصر.

وعندما بلغ الثانية عشرة صحب أباه إلى بعض المجالس العامة وساعدهم ما كان يتناقله الكبار من أفكار وقضايا على الإلمام بثقافة عصره، ثم سمع الحديث من بعض علماء عصره، وروى الشعر وكان اهتمامه به واضحا في شبابه.

وفي السادسة والعشرين من عمره بدأت دراساته الجادة في الفقه، ثم ازداد اهتمامه به في الفترة التي شهدت فشل مشروعاته السياسية، وكان مالكي المذهب في بداية أمره شأن الأندلسيين، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي وناضل عنه، وتعرض بسبب ذلك لمضايقات بعض فقهاء الأندلس حتى لقد اتهموه بالشذوذ في أفكاره، ثم اعتنق المذهب الظاهري، وطوره، ودافع عنه، ووضع الكتب في شرحه، وغدا صاحب اتجاها متميزا بين فقهاء الظاهرية وصار له أتباعا يعرفون بالحزمية.

وإلى جانب الفقه الذي نبغ فيه ابن حزم كانت له اهتمامات بالمنطق والفلسفة وعلم الكلام، وله فيها مؤلفات ذات طابع متميز في المنهج والمحتوى منه كتابه الشهير "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، و"التقريب لحد المنطق" يحاول به إيجاد منطق إسلامي.

وفي مجال التاريخ والسياسة كان مؤرخا دقيقا ثقة في أحكامه، وله جمهرة أنساب العرب، وغيره من المؤلفات، وهذا كله فضلا عن آرائه التربوية التي حفلت بها مؤلفاته الكثيرة، وهذه الاهتمامات العلمية على تنوعها كونت شخصيته الشديدة فيما يرى أنه حق، ولذا كان يجادل مخالفيه في صرامة وعنف لا يخفف من صرامته لين أو موادعة.

 

أفكاره التربوية

-        الأسس العامة في المنهج التعليمي

لابن حزم متطلبات خمس ينبغي مراعاتها في المنهج التعليمي الذي يقدم للتلاميذ: هناك مطلب ديني، ومطلب خلقي، ومطلب يتصل بنفع المادة التعليمية للمسلمين في زمانهم الذي يعيشونه، ومطلب يتصل بنضج المتعلم ومناسبة المادة له، ومطلب يتصل بطبيعة محتوى المادة التي نعلمها للتلاميذ.

أما ما يتصل بالمطلب الديني: فإن تعليم أمور الدين للتلاميذ مطلبا رئيس، فنحن ينبغي أن نهتم بالعلوم التي نبتغي بها مرضاة الله، والفوز بالجنة في الآخرة. وأصل العلوم ما أدّى إلى الخلاص في دار الخلود، ووصل إلى الفوز في دار البقاء.

وفيما يتصل بالمطلب الخلقي: يجب أن تساعد المواد الدراسية المتعلم على تكوين القواعد الخلقية التي تؤدي إلى تهذيبه، وتمسكه بالفضائل، فينبغي أن يتجنب من الشعر الأغراض التي تحث على الصباية، وتدعو إلى الفتنة، وتصرف النفس إلى الخلاعة، وربما دفعته إلى إهلاك نفسه في غير حق، وإلى خسارة الآخرة مع إثارة الفتن، وتهويل الجنايات، والأحوال الشنيعة...وتمزيق الأعراض، وذكر العوراء.

وأما فيما يتّصل بنفع المادة التعليمية: يوجب ابن حزم الاهتمام بالعلوم النافعة للمسلمين في زمانهم، فيقدمها على غيرها، فلكل زمنا علومه واهتماماته، ويجب البدء بالعلوم التي تعتبر وسائل أو أدوات لغيرها كالعلوم اللسانية.

وفيما يتصل بنضج المتعلم ومناسبة المادة التعليمية له؛ نجد سن بدء التعليم عند ابن حزم هي الخامسة، فالطفل عند هذه السن يكون قد حصل نوعا من النضج يساعده على التخاطب، ولذا يبدأ في تعلم الكتابة وتأليف الكلمات من الحروف، ثم يتعلم القراءة ويحفظ مع ذلك القرآن الكريم، ثم يعتمد على نفسه في الانتقال لمرحلة أخرى، فإذا نفذ في الكتابة والقراءة -كما ذكرنا- فلينقل إلى علم النحو واللغة معا.

أما فيما يتصل بطبيعة المادة التي نعلمها ومحتواها: فإنه يرى أن تكون المواد خاضعة لبراهين العقل ولملاحظة الحواس، وقابلة للتجريب فيما يستدعي ذلك فلا تدرس مادة تكون المعلومات فيها خارجة عن نطاق العقل والحواس؛ لذا رفض علم أحكام علم النجوم لأنه ليس برهانيّا، ولا يمكن التأكد من قضاياه حقّا أو باطلا، فالقضاء بالكواكب باطل لتعريه من البرهان، وإنما هو دعوة فقط، ولا نحصي كما شاهدنا من كذب قضاياهم.

 

-        المواد الدراسية بين القدماء والمحدثين

يقسم ابن حزم مواد الدراسة إلى مجموعتين: مجموعة تتغير من أمة إلى أمة، ومجموعة تتشابه في الحقائق والمحتوى عند جميع الأمم.

أما المجموعة التي تتغير بتغير الأمم فهي ثلاثة مواد: مواد الشريعة، واللغة، والأخبار، وإذا كانت لكل أمة شريعتها التي تحدد محتوى المواد المتصلة بهذه الشريعة، فإن الشريعة الإسلامية تقدم إلينا علوم القرآن، والحديث، والفقه، والكلام، ومواد اللغة العربية تشمل علم النحو، وعلم اللغة، وأما علم الأخبار - الذي يحتل علم الأنساب جزءا منه- فإن ابن حزم يجد أن تنوع مناهجه أو طرق معالجته أمر ذو مسحة عالمية، فالأحداث قد تعالج على أساس من معالجة الممالك، أو السنين، أو البلاد، أو الطبقات، أو أساس متنوع تمتزج فيه هذه الطرق.

وابن حزم يرى أن الأمم تتميز عن بعضها، وتتضح سماتها في هذه العلوم الثلاثة، ورأيه لا يزال مصيبا في ذلك، فهذه المواد تتصل بشخصية الأمة وقيمها، وطريقة تنشئة مواطنيها على أفكار، وفلسفات تتمايز فيها كل أمة عما سواها.

 

وأما المجموعة التي تتشابه في حقائقها ومحتواها عند جميع الأمم، فتتكون من أربع مواد: هي علم النجوم، وهو يشمل علمين: علم الهيئة "الفلك" وله براهينه، وعلم أحكام النجوم.

والمادة الثانية: علم العدد "الحساب"، والمادة الثالثة: هي علم المنطق والفلسفة، وينقسم هذا العلم إلى: عقلي وحسي. أما العقلي: فإلهي وطبيعي، وأما الحسي: فطبيعي فقط، والمادة الرابعة من المواد التي تتشابه عند جميع الأمم: هي علم الطب، وهي نوعان: طب النفس، وطب الجسم. أما طب النفس: فهو متصل بعلم المنطق ومجاله الأخلاق، وأما طب الجسم: فهو معرفة الطبائع الجسمية، وتركيب الأعضاء، والأمراض وأسبابها، والأدوية وأنواعها، وهو قسمان: طب وقاية، وطب علاج، وطب العلاج قسمان: علاج بالأدوية، وعلاج بالجراحة كالجبر والبط (الشق)، والكي، والقطع.

 

-        محتوى المنهج وأهدافه الخاصة

قدم ابن حزم مواد الدراسة وفقا لتدرجها في نظره، فبدأ بما يناسب طفل الخامسة، ثم انطلق مع نمو المتعلم دون أن يحدّد مراحل دراسية بطريقة مباشرة عند عرض محتوى المنهج.

أ- الكتابة

يوجه ابن حزم الآباء وأولياء الأمور إلى أن يبدءوا في تعليم أبنائهم عن طريق المؤدبين، عندما يجدون فيهم الاستعداد الجسمي والعقلي للكتابة، والفهم لما يقال لهم، وذلك يكون في نحو الخامسة من مولد الصبي، والمستوى الأدنى الذي يلتزم به المعلم هو وضوح الخط؛ ليقرأ بسهولة، وأما المبالغة في إتقان الخط وتزيينه فإن ابن حزم يعيبها؛ لأن ذلك قد يكون وسيلة لخدمة الملوك، الذين يستخدمون الخطاطين لكتابة رسائلهم، ونسخ كتبهم، والاتصال بالحكام عند ابن حزم مطيّة الظلم والظلال.

ب- القراءة والقرآن

ومستوى تعلم القراءة هو المهارة في قراءة ما تصل إليه يد المتعلم باللهجة التي تناسب بلده، وترتبط بإجادة القراءة حفظ القرآن الكريم؛ ليتدرب بقراءته على جودة النطق، وليستفيد المبادئ السامية التي يحتويها في تقوية إرادته؛ لمواجهة مشكلاته الحاضرة والمستقبلة.

جـ- النحو واللغة

ينتقل المعلم إذا أجاد المواد السابقة إلى تعلم النحو الذي يشمل قواعد الصرف، وضبط أواخر الكلمات؛ ليستعين به في مخاطبة الناس، وفهم كتبهم، ومع النحو يدرس علم اللغة الذي يقوم على دراسة الألفاظ، ودلالتها اللغوية، ويرى ابن حزم الاقتصار في النحو على ما يؤدي وظيفته، وما زاد على ذلك لا فائدة منه إلا للمتخصصين، أما علم اللغة فإنه يحبذ الإكثار من دراسته لأن الألفاظ ثروة لغوية حقيقية يستفيد منها المتعلم.

د- العدد

يأتي علم العدد بعد تعلم النحو واللغة، ويدرس المتعلم في هذه المادة الضرب، والطرح، والقسمة، والجمع، ويأخذ طرفا من المساحة، ويدرس كتاب إقليدس في الإرثماطيقي "طبيعة العدد". (طبيعة العدد)...

ويدرسه ابن حزم لهدفين: الأول للمنفعة العلمية فالمساحة تنفع في جلب المياه ورفع الأثقال وهندسة البناء، وإقامة الآلات الحكمية، والهدف الثاني: أنه يتخذ دراسة الرياضيات وسيلة لفهم ما بعد الطبيعة شأن أصحاب المنطق الرياضي.

هـ- المنطق والطبيعيات

وبعد أن يدرس المتعلم المواد السابقة يدرس المنطق، والعلوم الطبيعية، فيدرس في المنطق الأجناس، والأنواع، والقضايا، والمقدمات، والنتائج، والقرائن، وأساليب التفكير السليم؛ ليعرف ماهية البراهين، وما يتوهم أنه برهان، وليس ببرهان، ويدرس الطبيعيات وأحوال الجو، وتركيب الصناعات في المعادن والنبات والحيوان، ويقرأ كتب التشريح ليقف على محكم الصنعة، وتأثير الصانع، وتأليف الأعضاء، واختيار المدبر وحكمته.

و- علم الأخبار

اهتم ابن حزم بالتاريخ فوجّه المتعلم إلى دراسة أخبار الأمم الماضية، والحاضرة، وأخبار الملوك؛ سواء الظالمون أم العادلون، وهذه الدراسة ترغب المتعلم في الفضائل، وتنفره من الرذائل، ويرى أن يدرس التاريخ وقت الراحة والسلم من تعلم المواد الأخرى؛ لأن التاريخ سهل، ومنشط للنفس، ويجد فيه المتعلم لذة نفسية، وفائدة عقلية.

ز- ما بعد الطبيعة

وإذا أتقن المتعلم العلوم السابقة اللسانية، فالرياضية، فالطبيعية، فالاجتماعية كان مهيئا للبحث في العقائد، وما وراء الطبيعة، فيتناول البحث في علة وجوده في الحياة، ويبحث في الآخرة، ويقيم الأدلة على أن العالم مخلوق لله، وليس قديما، كما يتناول النبوات حتى يقر في النهاية بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

-        أساليب التعليم

يبدأ التعلم عند ابن حزم كما سبق القول في سن الخامسة، عندما تشتدّ أجسام المتعلمين، ويفهمون ما يقال لهم، ويقدرون على إجابة معلميهم، ولكل من المعلم والمتعلم دور هام عند ابن حزم. فأما المعلم فيجب عليه مراعاة أن تكون المادة التي تدرس للمتعلم مقبولة لديه؛ لتلقي استجابة منه، وأن يترقى بالمتعلم فيحاول التعرف على ما يناسب طبيعته واستعداداته، ويجب أن تكون وسيلة المعلم التشويق والتدرج، لا القسر والإرغام والملل، ويكون التشويق والتدرج مجديا إذا راعى المعلم ميول المتعلم واستعداداته.

ويجب على المعلم أن يكون قدوة لطلابه في سلوكه وتطبيقه للمبادئ التي يعلمها، وعليه أن يمارس الفضائل، وللتقليد دور هام في اكتسابها، وعلى المعلم أن لا يذم ما يجهل من العلوم، وأن لا يحسد غيره، وأن لا يحتقر من هم دونه، وعلى المعلم ألا يكتم علمه وألا يدرس علما لا يتقنه حتى لا يخزى، وعلى المعلم أن يكون أمينا مخلصا في عمله، حريصا على تنمية معارفه، قنوعا في مطالبه المادية، لا يأخذ أجرا على التعليم إلا إذا كان متفرغا له، ولم يكن له مورد آخر للرزق.

ويحذر ابن حزم العلماء من مجالسة الحكام، فالمعلم "إن ابتلي بمحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه".

ويكره ابن حزم للعالم الفاضل أن يشتغل طبيبا للسلطان أو يصحب السلطان بالنجوم؛ لأن من يصاحب السلاطين يظلم نفسه، وسوف يعيش مهددا من جهلهم، وهو ليرضيهم يكذب، ويكذب، ويتعاطى ما ليس في قوته الوفاء به، فهو دهره في كذب دائم".

ويوجه المتعلم إلى أن يطلب العلوم التي تناسب قدراته العقلية، فلا يدرس العلوم السهلة، وهو قادر على العلوم الغامضة (القوية) وعلى المتعلم أن يقبل برغبة ونشاط على طلب العلم، وأن يهتم بالسماع، والقراءة، ومصاحبة الكتاب، وعلى المتعلم أن يكون في بحثه موضوعيّا، محايدا في نظرته إلى المسائل العلمية، ويحذر المتعلم من التأثر بأهوائه عند النظر في القضايا العلمية، فلا يصدقها بلا برهان، ولا يرفضها بلا دليل قاطع، بل يقبل عليها ويفهمها؛ ليحكم عليها بالصواب أو الخطأ بناءا على الأدلة والبراهين.

وعلى المتعلم إذا أراد التخصص في مادة أن يلمّ أولا بالمبادئ العامة للعلوم؛ لتعلقها بسواها، ثم يتخصص في علم، أو اثنتين، أو ثلاثة على قدر استعداده، وطلبه، وانتظار التوفيق من الله.

وعلى المتعلم أن يتصف في طلب العلم بالصبر، وحسن الفهم، وقوة التحمل، والتواضع، وعليه أن يتخذ من العادات وأنماط السلوك ما يناسب البيئة العلمية التي توفر له خصوبة التفكير، وعليه أن يكثر من الكتب، وبدون ما يفهمه، ويتردد على العلماء، ويسكن حاضرة العلم، ويحضر الندوات والمناظرات، وإذا حضر أحد مجالس العلم عليه أن يستفيد منها، فيقبل برغبة صادقة في التعلم، وأن يلتزم بحالة من ثلاث: أن يسكت سكوت الجهال ليتعلم، أو يسأل سؤال المتعلمين لا المتعنتين، أو يناقش ويجادل جدال العلماء بالحجة والبرهان من غير لجاجة، أو عناد، فبهذا يحصل المتعلم على التعليم من هذه المجالس.

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم