تعد منظومة القيم في أي مجتمع هي المعبر الحقيقي عن قوته وتماسكه أو ضعفه وانهياره، والمجتمع المصري كان يتمتع بمنظومة قيمية قوية على مدار فترات طويلة من تاريخه، يتخللها فترات أخرى تهدم هذه المنظومة بفعل ممنهج للسيطرة عليه وعلى موارد البلاد.
ومن هذه الفترات الفترة الحالية التي بدأت منذ أكثر من 60 عاما يتم تغيير قيم المجتمع، وإضعاف مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية، وتجريف وتجفيف كل مصادر ومنابع الثقافة والتربية والتنشئة حتى تخرج أجيال بلا هوية أو قيم.
وفي دراسة فريدة متخصصة تم تسليط الضوء على هذه الكارثة التي تنذر بانهيار كامل للمجتمع تربويا وثقافيا وقيميا، حيث رصد الدكتور علي ليلة، أستاذ الاجتماع السياسي بجامعة عين شمس بمصر، مظاهر هذه الكارثة وتداعياتها وبعض وسائل الإصلاح والعلاج، من خلال دراسته: "الثقافة ومنظومات القيم في مصر خلال ثلاثين عاما".
وقد تناولت الدراسة ثقافة ومنظومات القيم في مصر خلال ثلاثين عاماً المنصرمة وسلبيات الواقع المصري المعاصر، ووضعت هذه السلبيات تحت المجهر، حتى نستنفر قدرتنا بحثا عن الأمل والإصلاح.
حقائق واقعية
بدأ الباحث بعرض طبيعة المجتمع المصري، إذ يكشف للمتأمل أوضاعه عن مجموعة من الحقائق الأساسية تتمثل الحقيقة الأولى في امتلاك هذا المجتمع القدرة على البقاء، وتشير الحقيقة الثانية لتميز هذا المجتمع وبأن قوته نابعة من ذاته دائما، فتخلفه وتقدمه صناعة محلية بحتة، بل نجده في أحيان كثيرة يفيض على من حوله ليسهم في تأكيد تطورهم وتقدمهم.
علاقة الثقافة ومنظومات القيم بالمجتمع
ومن خلال طرح علاقة الثقافة ومنظومات القيم بالمجتمع نلحظ أنها بدأت تفتقد تماسكها وقوتها، إلى جانب أنها تعاني من تآكل مناعتها الثقافية بفعل متغيرات عديدة، وقد نتج عن هذه الحالة أن ضعفت هذه الثقافة في القيام بدورها في ضبط التفاعل الإجتماعي، وفى توجية سلوكيات البشر في مختلف مجالات الواقع الاجتماعي.
بعض هذه المتغيرات يرجع إلى موقف النظام السياسي من عملية تحديث المجتمع والثقافة، بينما يرجع بعضها الآخر إلى طبيعة التحولات الاجتماعية والقوى الفاعلة في إطاره، على حين يرجع بعضها الثالث إلى أوضاع القوى الاجتماعية وحالة الضعف والانهيار الذي أصاب الطبقة المتوسطة وأخلاقها، يضاف إلى ذلك الضعف الذي أصاب مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتآكل الذي أصاب فاعليتها، وهي المتغيرات التي نعرض لها في الصفحات التالية. علما بأننا سوف نركز على التأثيرات السلبية لهذه المتغيرات في النصف الثاني من القرن العشرين.
النظم السياسية وإضعاف بنية الثقافة ومنظومات القيم
وأكدت الدراسة على دور النظام السياسي في إضعاف بنية الثقافة ومنظومات القيم، الأمر الذى دفع إلى انهيار البنية الثقافية للمجتمع ومنظومات القيم المتضمنة فيها لتخلي الساحة لثقافات انحرافية عديدة ابتداء من الثقافة أو القيم الانتهازية، وحتى ثقافة الفساد والرشوة، إلى جانب ثقافة الانحراف الاجتماعي والأخلاقي، وهي جميعها دفعت إلى نمو واتساع ثقافة عدم الانتماء، وشيوع ثقافة الاحتجاج في الشارع المصري، مما يدفع إلى حالة من الفوضى أو "الأنومي" الثقافية حيث افتقاد المجتمع للمعايير التي توجه سلوكيات البشر في إطاره.
إضعاف التحولات الاجتماعية للثقافة
ومع رصد الحصاد الثقافي أو القيمي الناتج عن التحولات الاجتماعية، التي خضع لها المجتمع المصري كشفت الدراسة عن مظاهر عديدة لحالة من الانهيار القيمي، تشير جميعها إلى مجتمع قد فقد قيمه، ومن ثم قواعده المنظمة للسلوك، فالسلوك في هذا المجتمع أصبح عشوائيا وأصبح يختلف في أحيان كثيرة عما ينبغي أن يكون عليه السلوك لغياب القيم الموجهة أو المنظمة لسلوكيات البشر، أو حتى لضعف أدائها وفعاليتها. لقد اختلط كل شيء حتى أصبح من الصعب أحيانا التفرقة بين الحلال والحرام، والخطأ والصواب، ولذلك أسبابه ومظاهره العديدة.
انهيار مؤسسات التنشئة الاجتماعية
إن أوضاع التنشئة الاجتماعية في مصر قد أصابها هي الأخرى قدرا من الانهيار أو عطب الأداء، وقد نجم عن هذا الأمر العديد من المظاهر، من أبرزها: تهتك النسيج الأسري، انهيار العملية التربوية والتعليمية، تحول الإعلام من داعم وبان لمنظومة قيم إيجابية إلى عامل هدم وتبديد لقيم الثقافة القومية.
ما الحل؟!
أكدت الدراسة أن الانهيار الثقافي الذي أصاب المجتمع المصري قد أصاب أخلاقه أيضا في مقتل، حيث انتشرت حالة من الفوضى الثقافية والاجتماعية، وهي الحالة التى تعد إخلالا بصيغة العقد الاجتماعي الذي ينظم تفاعل البشر في عيشهم المشترك، وإذا كان من الثابت علميا أن ثقافة المجتمع وأخلاقه قد تنهار وتتآكل في فترة زمنية وجيزة، فإن استعادة سلامتها وفاعليتها يحتاج إلى زمان أطول وجهود جادة وكبيرة ومخلصة، وهي حالة مرت بها مجتمعات كثيرة وصلت أخلاقها إلى حدود دنيا ثم برزت ظروف وعوامل أعادت الصحوة والفاعلية إلى ثقافتها وأخلاقها حتى أصبحت قادرة على ضبط التفاعل وتنظيمه وتوجيه البشر نحو هدف مشترك.
للإطلاع علي الدراسة كاملة
.