Business

"تعليم المقهورين".. في فلسفة التربية والتغيير

ترتكز أهمية كتاب "تعليم المقهورين" في أمرين؛ حيث يقدم "تربويا" نظرية جديدة في أساليب التعليم وبخاصة تعليم الكبار، بالإضافة إلى أنه يحدد المعالم الرئيسة في فلسفة التغيير التي تستهدف تحرير الانسان وتوجيه طاقاته نحو تغيير العالم الذي يعيش فيه، وهو آخر ما كتب صاحبه " باولو فرايري"، وأول كتاب ينشره في الولايات المتحدة.

 

واقع متناقض

ويرى الكاتب أن "تعليم المقهورين" مبني على أوضاع حقيقية؛ فهو يصف موقف العمال والطبقة الوسطى التي لاحظها بصورة مباشرة أو غير مباشرة خلال تجربته التعليمية. وأن بعض المقهورين خلال مرحلة النضال بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هى صورة القاهر لأن هذا هو المعنى المتجسد لمفهوم الإنسانية في تصورهم، وتفسير ذلك أن المقهورين في مرحلة من مراحل حياتهم يحسون بشىء من التوافق مع قاهريهم. حيث أفعمت تصوراتهم بحقيقة الاضطهاد الذي يعانونه في كل يوم بدرجة جعلتهم لا يشعرون بضرورة النضال من أجل تغيير التناقض القائم بينهم وبين مضطهديهم. إنهم لا يطمحون في هذه المرحلة في تحرير أنفسهم بل يكتفون بتمييزها كطرف اخر من العملية، وهكذا فإنهم لا يستطيعون رؤية الانسان الجديد الذي سيولد من إزالة التناقض القائم بسبب وضعهم الحالي.

ويعتقد أن "الخوف من الحرية هو الذي يجعل المقهورين راغبين في انتحال أدوار القاهرين وهو الذي يجعلهم قانعين بدور المقهورين". لافتا إلى أن "الحرية تقتفي أن ينزع المقهور صورة القاهر من قلبه ويحل مكانها ذاتيته الخاصة وإحساسه بالمسؤولية فهي تنتزع ولا تمنح ولأجل أن تبقى فلا بد أن يتعهدها الإنسان بالرعاية المسؤولة ، فالحرية ليست مطمحا يعيش خارج الإنسان أو فكرة تتحول إلى أسطورة وإنما هي في الحقيقة ضرورة لا غنى عنها من أجل كمال الإنسان".

 

التغلب على ظروف القهر

ويشير الكتاب إلى أنه حتى يتغلب الإنسان على ظروف القهر فإن عليه أن يتعرف على أسبابه حتى يتمكن من تطوير موقف جديد يحقق فيه إنسانيته الكاملة، كما أن على المقهورين مسؤولية نضالية من أجل استعادة إنسانيتهم المفقودة وذلك أمر لا يستطيعه القاهرون لأنهم لوثوا أنفسهم باضطهاد الآخرين.

ويؤكد الكاتب أن "تعليم المقهورين" نوع من التعليم حري بأن يصاحب المقهورين خلال نضالهم المستمر من أجل استعادة إنسانيتهم، معتمدا على تجلية القهر أمام المقهورين حتى يتسنى لهم النضال من أجل اكتساب حريتهم. لافتا إلى أن هذه الطريقة سوف تولد مرات ومرات خلال عملية النضال.

ويفرق " باولو فرايري" بين التعليم النظامي الذي لا يمكن تغييره الا بواسطة القوة السياسية والبرامج التعليمية التي يقوم بها المقهورون خلال مرحلة تنظيم أنفسهم. ويلفت إلى أن "تعليم المقهورين" كممارسة إنسانية من أجل الحرية لا بد له أنه يمر بمرحلتين متمايزتين، في المرحلة الأولى يستجلي المقهورون عالم القهر ومن خلال ممارستهم للنضال يلتزمون بتغيير هذا الواقع ، وفي المرحلة الثانية أي بعد أن تتضع حقيقة القهر لا يصبح التعليم من أجل المقهورين فقط بل يصبح من أجل الرجال كلهم لأجل تحقيق حريتهم الدائمة، وفى كلتا المرحلتين فإن النضال وحده هو الذي يتصدى لثقافة التسلط".

 

ويلفت الكاتب البرازيلي إلى أن "العمل السياسي الى جانب المقهورين لا بد أن يكتسب صفته التعليمية ولا بد كذلك أن يتصف بالمشاركة القائمة على الثقة، وفي نفس الوقت يجب على الذين يناضلون من أجل الحرية الا يأبهوا للاعتماد العاطفي من جانب المقهورين ، فقد تعود المقهورون على هذا النوع من الاتكالية من خلال ظروف القهر التي عايشوها ولكن العمل من أجل الحرية لا يعترف بهذا اللون من الخنوع بل يعتبره نقطة ضعف لا بد من إزالتها عن طريق العمل والوعي ليصبح كل فرد من المقهورين مستغلا في إرادته".

 

التربية الثورية والمقهورين

ويلفت إلى أن "المقهور الذي أحيط بكل عوامل الموت أثناء القهر لا بد أن يتجدد أمله بالإنسانية والحياة من خلال النضال، ولايتم ذلك بأن يوفر لنفسه مزيدا من الطعام رغم أهمية الطعام بالنسبة له وأنما بأن يتجاوز تلك الظروف التي جردته من إنسانيته وحولته إلى مجرد شيء، وليس في مقدوره أن يفعل ذلك الا بأن يناضل كرجل من الرجال".

ويستطرد: " الوسيلة الوحيدة الناجعة لتحقيق الحرية هي التعليم ذو الصبغة الإنسانية الذي تقيم فيه القيادة الثورية نوعا من الحوار الدائم مع المقهورين. فمن خلال هذا الحوار لا يمكن أن تكون طريقة التعليم وسيلة يسيطر بها الأساتذة أي القيادة الثورية على التلاميذ، أي المقهورين، لأن هذه الطريقة تعبر عن ضمير المتعلمين أنفسهم".

ويستخلص من ذلك أن على القيادة الثورية أن تمارس نوعا من التعليم يقوم على المشاركة التامة بين القيادة والجماهير وأن تغذي هذه المشاركة بالتجربة العملية والا تكتفي بمجرد تعرية الواقع فهذه هى الوسيلة الوحيدة لنقد الواقع من اجل إعاده تشكيله وهى الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها المقهورون إعادة تشكيل واقعهم بطريقة فعالة.

 

التعليم البنكي المرفوض

وينتقد الكتاب مفهوم "التعليم البنكي" الذي لا يستهدف سوى السيطرة على عقول الطلاب بجعلها بنوكا لتخزين ودائع المعرفة، كما أنه حدد الوسائل التي يكرس بها القاهرون القهر وهى "الاستغلال والغزو الثقافي والاستلاب"، وتتجلى أهمية الكتاب، كذلك، في توضيحه للطريقة التي يتعلم بها المقهورون كيف يتجاوزون ظروف قهرهم. مشيرا إلى أهمية "التعليم الحواري" في الوصول إلى الثورة، وهو التعليم الذي يأتي حين يتبين الإنسان واقعه، ويدخل في علاقة حوارية مع نفسه وزملائه والعالم الذي يعيش فيه. وهي علاقة حوارية تخدم الوعي وتؤدي إلى الحرية وبالتالي إلى تغيير العالم.

وفي ضوء ذلك يتضح أن التعليم الذي يعالج المشكلات هو وحده القادر على حل التناقضات التي تحول دون تحقيق الحرية، ففي هذا النوع من التعليم ينقي وجود مدرس الطالب وطالب المدرس ويحل مكان هذه العلاقة علاقة أخرى جديدة هي علاقة المدرس والطالب والطالب والمدرس معا في حل المشكلات.

وفي فصل بعنوان "نظرية القهر ونظرية الحوار الثوري" يؤكد "فرايري" أن الحيوانات لا تملك أهدافا تسير عليها، أما الناس فانهم يختلفون بالضرورة لأنهم يستطيعون تحديد أهدافهم الخاصة التى يغيرون بها البيئة التي يعيشون فيها" وأن "دور المقهورين يقوم على تحمل المسؤولية والاطلاع بأعباء التنسيق خلال عملية النضال وقد يقومون في بعض الأحيان بدور الموجهين، أما اولئك الذين يجحدون دور المقهورين الحقيقي في النضال فإنهم يهزمون الغايات التي يسعون إلى تحقيقها".

ويشدد "تعليم المقهورين" على أهمية أن  يعمل القادة على تحقيق الوحدة بين المقهورين من جهد وبينهم وبين الناس من جهة أخرى وذلك من أجل أن يتمكنوا من تحقيق هدف التحرير ولا يمكن أن يتحقق هذا المستوى دون ممارسة.

كما يشير إلى أنه لا بد أن نضع في الحسبان أن النماذج الثورية الصادقة تضع في اعتبارها دائما احتمال الإخفاق في كسب الجماهير إلى صفها ولكن يجب ألا يؤدي ذلك إلى التقاعس لأن عملها ذو طبيعة ديناميكية.

 

الكتاب نشره "دار القلم" في بيروت. وصدرت طبعته الأولى عام 1980.

وكاتبه "باولو فرايري" فهو معلم برازيلي، ولد عام 1921، وانطلق من شمال شرق البرازيل ليحدث تأثيرا عميقا في مجال التعليم التربوي؛ حيث استطاع أن يصحح أسلوب تعليم الأميين بطريقة مبتكرة، يتمكنون من خلالها من نقد أوضاعهم الاجتماعية ويصبحون به قادرين على اتخاذ المبادرة من أجل تطوير المجتمع، وبهذا الأسلوب يكتسب التعليم قوته البناءة مرة أخرى.

كما أن للكاتب دور في تعليم النضال من أجل التقدم الوطني، حيث نشأ في ريسايف وهي واحدة من أكثر مناطق البرازيل بؤسا في دول العالم الثالث، ما جعله يشعر بطعم القهر والبؤس بشكل مباشر. واكتشف "فرايري" أن النظام التعليمي مكرس لخدمة " ثقافة الصمت"، فوجه اهتمامه إلى مجال التعليم وبدأ العمل فيه، إلى أن تمكن من إنتاج شيء جديد ومبدع في فلسفه التعليم، ومن خلال نضاله المباشر من أجل تحرير الرجال والنساء لخلق عالم جديد وصل بتجربته وفكره إلى كنه المواقف وفلسفتها المتداخلة". وعبر عن نظريته في الإصلاح التعليمي للمرة الأولى من خلال رسالته للدكتوراه عام 1959 والتي قدمها لجامعة "ريسايف"، ثم توالت إسهاماته عقب عمله مدرسا لمحو الأمية في نفس المدينة.

واضطهد " باولوفرايري" واعتبرت السلطات أن هذه طريقته تهديدا للسلطات فأودع السجن عام 1964 عقب الانقلاب العسكري، وقضى في السجن سبعين يوما سمح له بعدها بمغادرة البرازيل إلى "شيلي" التي قضى فيها 5 سنوات يعمل مع اليونسكو والمعهد "الشيلي" للإصلاح الزراعي وبرامج تعليم الكبار، ثم عمل مستشارا في كلية التربية بجامعة "هارفارد" حيث عمل بصورة مباشرة بالقرب من جماعة يختصون في التجارب الجديدة في تعليم المجتمعات الريفية والحضرية.

 

وتقوم نظرية "فرايري" في أنه "بمجرد أن يتغير أولئك الذين كانوا يعيشون على الهامش، فإنهم لن يقبلوا بعد ذلك الحياه كأشياء تستجيب للتغييرات التي تحدث حولهم، فالاحتمال الأكبر هو أن يقرروا تحمل مسؤولية النضال من أجل تغيير البنى الاجتماعية التي ظلت تمارس القهر عليهم".

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم