تأتي دراسة الباحث محمد فوزي عبد المقصود لتركز على تحليل الفكر التربوي للإمام محمد عبده والذي يعد من أحد الرواد الذي امتدت حياته منذ منتصف القرن التاسع عشر حتي أوائل القرن العشرين (1849- 1905) ويعد من رواد التربية حيث آمن بأن أسلوب التربية هو أساس إصلاح المجتمع والارتقاء به.
إن فكر الأستاذ الإمام محمد عبده في مجال التربية والتعليم وجهوده في هذا الميدان لا تقل في قيمتها عن آراء رجال الفكر التربوي الغربي إن لم تتفوق عليها، بل كان له السبق عليهم في بعض قضايا التربية.
فالفكر التربوي للأستاذ الإمام محمد عبده فيه الجديد الذي يستحق البحث والتحليل والذي يساير الاتجاهات التربوية المعاصرة، ويجب أن يوضع في مكانه اللائق بين الأفكار والمذاهب التي تدرس في ساحات العلم ودور التعليم في مجتمعاتنا المعاصرة.
من خلال هذه الدراسة نحاول إزالة ما هو عالق في نفوس أبنائنا ممن نعدهم لمهنة إعداد وتربية الأجيال الناشئة من مفاهيم خاطئة ترى أن العقلية المصرية غير قادرة علي الإنتاج والابتكار في ميادين الفكر التربوي، كما تتيح لنا الاستفادة من الفكر التربوي لهذا الرائد في أمور حاضرنا وتنظيم مستقبلنا، فليست دراستنا للفكر التربوي لهذا الرائد مجرد دراسة بذاتها، بل يجب أن نعتبرها مصدرا للاستنارة الفكرية في حاضرنا وقوة حافزة نستند إليها في اندفاعنا للمستقبل، فالماضي كلما كان زاخرا بالأفكار الخصبة والاتجاهات المستنيرة، كلما كان ذلك باعثا للوعي لدي الأمم من أجل تطوير حاضرها والنهوض بمستقبلها.
قد استخدم المؤلف من خلال هذه الدراسة المنهج التاريخي، ذلك أن خصائص الفكر إنما هي دالة لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تسود مجتمعا معينا فتصبغها بلونها، وتشكلها باتجاهاتها، وتوجهها نحو تحقيق أهدافها مما يصبح معه أمرا حتميا بالنسبة للباحث في المجال التربوي وخاصة التاريخي، أن يقوم بعملية استكشاف واستطلاع للمسرح الذي سيبحث علي خشبته قضايا ومفاهيم معينة، فذلك يساعد علي دراستها بدرجة أدق وأعمق، كما استعان المؤلف بالمنهج الوصفي التحليلي، وهو منهج يهدف في دراستنا إلي جمع الأفكار التربوية الخاصة بالإمام محمد عبده والمتصلة بمواقف معينة مع محاولة تحليلها وتقويمها وتفسيرها لاستخلاص دلالتها وتحديد ما فيها من تجديد ومداه بالنسبة لظاهرة معينة، والتعرف علي الدوافع والأهداف التي يرمي إليها من مضمون آرائه، وتأثير محتوى فكره علي أفكار الناس، إن تحليل الفكر بوجه عام والفكر التربوي بوجه خاص لإحدى الشخصيات المتخصصة في هذا المجال يعد من أصعب صنوف التأليف؛ فهو يتطلب من مؤلفها أن يجمع بين قدرة المؤرخ وموهبة المحلل ليصبح قادرا علي تحري الحقيقة واستقصاء الشواهد، والتزام الحياد والإنصاف والبعد عن الهوى والتحيز. استعان المؤلف في دراسته بمصادر متنوعة، منها المقالات التربوية التي نشرها هذا الرائد في الصحف والمجلات وكانت بمثابة وثائق، فلقد حملت الصحافة وقتئذ الإنتاج الفكري لهذا الرائد قبل أن يحمله الكتاب المطبوع، وأذاعته علي المدى الواسع، وأبرزت اتجاهات التجديد التربوي لديه، وليس من شك في أن الصحافة كانت وقتئذ أرحب صدرا من الكتب الأكاديمية في التعبير عن الرأي العام وعن بعض القضايا والمواقف اليومية الملحة، وهي تمثل سجلا للأحداث ومرجعا يعتمد عليه المؤرخون بشرط أن يدققوا في اختيار مادتها والموازنة بين رواياتها للوصول إلي الحقيقة، كما اعتمدت الدراسة علي مؤلفات هذا الرائد المطبوعة والمؤلفات التي تناولته بالدراسة سواء كانت عربية أو أجنبية، فضلا عن الوثائق الرسمية من قوانين ولوائح ومنشورات وتقارير رسمية تعبر عن سياسة الدولة في التعليم وقتئذ، إلي جانب الكتب والمؤلفات التي تتعرض لتاريخ التعليم في مصر وواقعه خلال الفترة التي عاش فيها الأستاذ الإمام باعتبار أن فكره التربوي كان نتاج هذه الأحداث.
من خلال تتبع المؤلف للدراسات التربوية السابقة التي تتصل بتحليل الفكر التربوي للإمام محمد عبده أمكن العثور علي رسالة ماجستير بعنوان: الفكر التربوي عند الإمام محمد عبده من إعداد شاكر علي سالم الدولة، وقد عالجت هذه الدراسة الفكر التربوي للإمام محمد عبده من منظور إسلامي، حيث ذكر صاحب الرسالة في مقدمتها أن دراسته هي دراسة في التربية الإسلامية والتراث الإسلامي، لأنها تتناول آراء مفكر مسلم تعلم في ظل الثقافة الإسلامية.. ولذا كان تناولها للفكر التربوي للإمام محمد عبده في إطار محدود.
قد حصر الباحث أهداف التربية عند الإمام محمد عبده في إطار ضيق تمثل في التربية الروحية والتربية العقلية والتربية الخلقية بينما اتسمت أهداف التربية عند الإمام محمد عبده -كما تناولناها- بالشمول والتنوع، كما أنه خلط بين أهداف التربية ومجالات التربية لديه.
تخلو الدراسة من القضايا التربوية ذات الأبعاد الفلسفية والثقافية التي عالجها الإمام محمد عبده وتناولناها بالتفصيل في دراستنا، كقضايا الطبيعة الإنسانية، ونظرية المعرفة، والقيم، والوسطية في التربية الإسلامية، والأصالة والمعاصرة، والتجديد اللغوي، والحوار الثقافي مع الآخر، والنقد ومنهجه، فضلا عن أن الدراسة لم تتطرق إلي المنظومة التعليمية وآليات تطويرها عند الإمام محمد عبده، ولم تتناول بالقدر الكافي بعض قضايا التعليم الهامة التي أثارها الأستاذ الإمام كتعميم التعليم وتعليم المرأة والتعليم الأجنبي. لم تتعرض الدراسة للجهود التربوية للإمام محمد عبده من خلال مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لتعليم أبناء الفقراء، مع أن جهود الرجل في هذا المجال التربوي تعد علامة مضيئة ينبغي أن تنال حظها من الدراسة الوافية.إذا كانت دراسة الباحث متصلة بالتربية الإسلامية كما ذكر في مقدمة بحثه. فلم يتعرض لمنهج الأستاذ الإمام في إعداد الدعاة وجهوده في مجال الدعوة الإسلامية وتصديه لرجال الفكر الغربي الذين حاولوا الإساءة للإسلام، وهو ما قمنا بإبرازه في دراستنا. إن من الظلم أن نحصر الفكر التربوي للإمام محمد عبده في الإطار الإسلامي، فالرجل كان موسوعي المعرفة، متنوع الثقافات، ومن ثم كانت دراستنا للفكر التربوي لديه من منظور شامل ومتكامل.
.