في مثل هذه الأيام التي تشرفت البشرية بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ حريٌّ بنا أن نتأمل في سيرته؛ فإنها تُبدِّل ظلام الأيام بشمس مشرقة بالأمل والبِشر، إنه طريق طويل في معاناته استغرق بجلال النبوة وتأييد وحي الله تعالى ثالثة وعشرين عامًا؛ فتحول واقع البشرية كلها من حال إلى حال، فانتشر النور وانزوى الظلام، وهُديت البشرية إلى صلاحها و كرامتها بعد ان أرهقها الظلم و الضلال، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا﴾ [الأحزاب : 45-46]. ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحديد:9].
أَشرَقَ النورُ في العَوالِمِ لَمّا … بَشَّرَتها بِأَحمَدَ الأَنباءُ
جاءَ لِلناسِ وَالسَرائِرُ فَوضى … لَم يُؤَلِّف شَتاتُهُنّ لِواءُ
أحمد شوقي
فكيف تحول الظلام إلى النور والتيه إلى طريق مستقيم ؟
هذا هو السؤال الذي احتارت فيه البشرية في القديم و الحديث، ولم تهتدِ له العقول بل ضلت وأضلت ؛ لأنه سؤال وجودي لا يُجاب عنه إلا بوحي ممن خلق ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [ الحجر : 86]. ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك :14].
فأنزل سبحانه وتعالي الوحي على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبيَّنه -صلى الله عليه وسلم- في أحداث أيام طوال، سجلها المسلمون، ولم يتركوا قولاً او فعلاً او تقريراً لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- إلا سجلوه بدقة العلماء، وعاطفة المؤمنين، بحروف من نور، واستفاضوا فيه تأملًا و شرحًا واستخراجًا للعبر والعظات والدروس، يوضحون طريق المؤمنين في السلوك والنصر والتمكين.{ عنْ عائشة رضي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ خُلُقُ نَبِيِّ اللَّه ﷺ الْقُرْآنَ}( رواهُ مُسْلِم)، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4]، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ (3) إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ﴾ [النجم:3- 4]. ومن هنا كانت أهمية دراسة السيرة النبوية الشريفة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيم﴾ [آل عمران:31].
أهمية دراسة السيرة النبوية.. الاقتداء والتأسي
قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾ [الأحزاب:21].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى.}( صحيح البخاري ).
وعن علي بن الحسين -رضي الله عنه - قال : " كنا نُعلَّم مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم -كما نعلم السورة من القرآن ". وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة ". وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه -يقول : " كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها ".
أهداف دراسة سيرة رسول الله صلى عليه وسلم
- التعرف على منزلته وشرفه وعصمته -صلى الله عليه وسلم - من الناس ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب :56]. ﴿ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء:79].
- تقوية الإيمان واليقين في قلوب المسلمين، ومعرفة عظمة الإسلام وقوته وأنهم منصورون ؛ فأرسى - صلى الله عليه وسلم - قواعده وأحكامه، وعدل موازين القوى، وقدم نموذجاً حضارياً قوياً مازال عطاؤه مستمراً حتى يومنا هذا، { تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي} (رواه مالك في الموطأ). ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9 ]. ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم : 47 ].
- تعلم دروسٍ نبوية في تربية الأفراد، وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة ؛ من خلال مواقفه مع أصحابه الذين رباهم ، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا ؛ عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا و جهادًا ، وكذلك من خلال الحركة بالدعوة والتعرف على مراحلها ووسائل كل مرحلة، والتعرف على حياة الصحابة الكرام؛ ومن ثَمَّ محبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم. ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]. وقال صلى الله عليه وسلم : {عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدِينَ الهادِينَ عَضُّوا عليها بالنواجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ} (رواه أحمد وأبو داوود).
- تعلم سنن الله سبحانه وتعالى، وفنون إدارة الصراع : معرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول ، وكيف تعامل معها صلى الله عليه وسلم ، والبراعة في إدارة كل مرحلة من مراحل الدعوة ، وفي الانتقال من مرحلة إلى أخرى، وكيف واجه -صلى الله عليه وسلم- القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصاري ، وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله –تبارك وتعالى- والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور :55-56].
- فهم كتاب الله تعالى والأحاديث النبوية ؛ لأنها (السيرة النبوية) من العلوم المهمة لتفسير القرآن الكريم، وفهم الأحاديث النبوية التي في ظاهرها شيء من التعارض، والوقوف على كثير من الأحكام الفقهية. ﴿وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَ ٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا﴾ [ النساء:113].
وأخيرًا
في ظل هذه الأحداث الجسام من حولنا نحتفل بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم؛ فليكن احتفالنا بمولده؛ دراسة سيرته وأخذ الدروس التي ترسم لنا طريق المستقبل. ورحم الله الإمام مالكًا يوم قال: لن "يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء}، يعني الجنة للغرباء والسعادة للغرباء وطيب السعي للغرباء، قيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: {الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي اللفظ الآخر: {ويصلحون ما أفسد الناس}.
يقول الأستاذ البنا -عليه رحمة الله تعالى- موجهًا كلامه للشباب: « أول واجباتنا أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة لا زيادة فيها ولا نقص بها ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل بها، وذلك هو الجزء العملى في هذه الفكرة.
وعمادنا في ذلك كله كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، والسيرة المطهرة لسلف هذه الأمة، لا نبغي من وراء ذلك إلا إرضاء الله وأداء الواجب وهداية البشر وإرشاد الناس.
وسنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا وسندعو الناس جميعا إليها، وسنبذل كل شىء في سبيلها، فنحيا بها كرامًا أو نموت كرامًا، وسيكون شعارنا الدائم: الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، و الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا». ( رسالة إلى الشباب).
وأول الطريق تزكية النفس والعلم النافع ثم العمل الصالح الصحيح المنتج، ثم الأمر بعد ذلك لله عز وجل؛ فلنتعرف على رسولنا وليكن قدوتنا وعهدنا معه صلى الله عليه وسلم ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل:97].
في ذكريات رسول الله قد ظَمِئت..... هذي القلوب لأمجاد تروِّيها
أرادها الله للأجيال قاطبــــــة...... صقلا وعمقا وتذكيرا يربِّيها
يا سيد الرسل جند الله لن يهنوا....... آجالنا في يمين الله يوفِّيها
(جمال فوزي)
بعض مراجع السيرة العطرة التي يمكن الرجوع إليها ودراستها:
- نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ الخضري.
- السيرة النبوية للعلامة ابن هشام.
- الرحيق المختوم للشيخ المباركفوري.
- والسيرة النبوية للدكتور علي محمد الصلابي.
- إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع للعلامة المقريزي.
- فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي.
- فقه السيرة النبوية للأستاذ منير الغضبان .
- محمد رسول الله .. محمد الصادق عرجون.
- السيرة النبوية للدكتور طارق سويدان ( تسجيل صوتي )
- فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد.
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ