Business

وقفات تربوية حول سنة الاختلاف

 

إن الله - جلَّ وعلا - لما خلق آدم عليه السلام، جعل ذريته مختلفة في ألوانها وأشكالها وأجناسها، وذلك لحكم كثيرة، لعل من أظهرها: أن هذا التنوع يلبّي حاجات أكثر مما لو كان هناك لون واحد للحياة.

ولهذا اقتضت سُنة الله - سبحانه وتعالى - أن يكون هذا الخلاف موجودًا بين الناس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 118-119).

وفي هذه الدراسة، يرى الباحث همام بن عبدالرحمن الحارثي، أن هذا الخلاف الذي لابدّ أن يكون موجودًا في حياة الناس لا بدَّ أن يكون لنا معه وقفات يستفيد منها المسلم في حياته مما يجعله يعيش متناغمًا في هذه البسيطة.

  • الوقفة الأولى:

أنه ليس كل خلاف يجب أن نسلِّم به، وأن نقبله وألا نردَّ عليه أو نعارضه، بل ما كان خلاف في الحقيقة هو الذي يقبل من صاحبه، ويرحب بقائله، ولهذا قيل: فليس كل خلاف جاء معتبرًا  إلا خلاف له حظ من النظر.

لهذا لا بدَّ لنا ألَّا نأخذ هذا الخلاف بظاهره، وهذا يربي فينا أن نعلم ما وراء الخلاف، أو ما الدوافع من هذا الخلاف؟ دون تجسس أو تتبع أو تقول على شخص ما لم يقل.

  • الوقفة الثانية:

الخلاف يربي في المسلم أن في كل إنسان جانب خطأ وجانب صواب، فما كان صوابًا قُبل منه، وما كان خطأً لا يقبل منه، مع الأخذ بحق النصح للأخ، وتبيين الحق والصواب له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.

وقد قال الله - عزَّ وجلَّ - لنبيه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاَغُ} (الشورى: 48) وقوله - جلَّ شأنه -: {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية: 22).

  • الوقفة الثالثة:

الخلاف يربي فينا ألَّا نجبر أحدًا على اتباع ما عندنا إن كان الخلاف له مساحة من الأخذ والعطاء، أما ما كان من المسلّمات ممَّا جاء في الوحي والسنة وإجماع علماء المسلمين فهذا لا يناقش فيه، لأنه لا يقبل إلا قولًا واحدًا، كأمور العقيدة وما اتفق عليه علماء المسلمين من الأمور الفقهية: كوجوب الصلاة، والصيام وغيرها.

ومن ذلك حديث عبد الرحمن بن يزيد: « صلَّى عثمان بمنى أربعًا، فقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله بن مسعود صلى أربعًا. قال: فقيل له: عبتَ على عثمان ثم صليتَ أربعًا قال: الخلاف شر.

  • الوقفة الرابعة:

الخلاف يربي المسلم على تعدد الخيارات التي يراها، فيعلم أن هذا الدين جاء ليكون دينًا خالدًا صالحًا لكل زمان ومكان؛ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فما كان عندنا قد لا يصلح لغيرنا، وما كان لغيرنا لا يصلح لنا، وكله من صلب ديننا العظيم، مع التنبيه أن هذه الخيارات ليست للانتقاء، ولا بحسب الهوى، بل هي مذاهب وأقوال للعلماء - رحمهم الله - توصلوا إليها باجتهادهم: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} (الفرقان: 43).

والراجح في حال تعدد الأقوال من كلام علماء الأصول: أن المؤمن يرجع إلى من يثق بدينه وعلمه من أهل العلم المعتبرين إذا كان مقلدًا.

ولعل من أظهر الأمور التي اختلف فيها الصحابة ولم يثرب عليهم الرسول حادثة بني قريظة، فقد جاء عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة).

فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ثم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحدًا منهم.

  • الوقفة الخامسة:

الخلاف يربّي في المسلم احترام الطرف الآخر، وعدم إقصائه، وتبين الحق له لعل الله - عزَّ وجلَّ - ينقذه على يديك، فقد روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: اجتمعت قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يردُّ عليه.

فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك.

إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرَّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.

أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) إلى أن بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13) فقال عتبة: حسبك. أما عندك غير هذا ؟ قال: لا.

فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئًا ممَّا قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك، يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال. قال: لا والله ما فهمت شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة.

  • الوقفة السادسة:

الخلاف يربي عند المسلم الحرص على المنهج الحق، سواء أكان في التلقي أم الاستدلال أم الاستنباط، فهو حين يرى الناس قد اختلفوا في هذه الحياة، وربما ضلَّ بعضهم عن الطريق المستقيم. هذا كله يجعل المسلم أشدَّ يقينًا، وأعظم إيمانًا.

  • الوقفة السابعة:

الخلاف يربي في المسلم اتباع الجماعة، وهضم حق النفس، فقد يخالفك كثير من الناس؛ لأن الرأي السائد خلاف ما تبين لك من الحق، فتجبر نفسك على اتباع الجماعة، وترك ما كان لك من أجل هدف أعلى وغاية أسمى وهي: اجتماع الكلمة وعدم الفرقة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103).


 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم