المعلومة الخاطئة والخرافية ظاهرة تكاد تكون منتشرة فى جميع الأسر والمجتمعات والطوائف والشعوب والأمم، وقد شاع ذلك منذ زمن بعيد وفى مجالات عديدة لكن الغريب هو استمرار الخرافة في جميع المجتمعات فى عصرنا الحديث الذي يتسم بالعولمة والسرعة والانفتاح، فيما يصل إلى درجة على التلوث الفكري ورغم أنها لا تمت إلى الحقيقة بصلة، لكنها وللأسف ما زالت تطبق وتمارس عند كثير من الأسر فى مجتمعاتنا الإسلامية المنوعة.
وفي هذه الدراسة، تقول الباحثة مليكة محمد الحامدي، إن الخرافات ما زالت موجودة في كثير من المعتقدات والممارسات الإنسانية المعاصرة وهي منتشرة بشكل يدعونا إلى وقفة تأملية عميقة، وإلى مراجعة ذاتية لطريقة حياتنا وتربيتنا ومعتقداتنا لمعالجة هذه الظاهرة.
الخرافات في حياة أبنائنا
تعرف التنشئة الاجتماعية بأنها العملية التي يكتسب الأطفال من خلالها خبرات متنوعة تضبط سلوكهم باتجاه إيجابى أو سلبى فى ضوء تلك المكتسبات.
ومن المعروف أن التفاعل الأمومي يجعل الطفل فى شهوره الأولى شديد الالتصاق والتأثر بوالدته، فتعد هي المحطة الأولى التي تتم من خلالها عملية الاكتساب، ثم فيما بعد يصبح شديد التعلق بوالده، فيشكل له هذا الثنائى محور الحياة، وتبدأ عملية تقمص شخصيتهما منذ السنوات الأولى من عمره، فيقلدهما فيما يفعلانه، ويصدقهما في كل ما يقولانه، ويخزن في ذاكرته صورًا ومواقف كثيرة لهما ويطبقها فى سلوكه، حتى وإن أبدى فى إحدى مراحل حياته تمردا عليهما واستقلالية عنهما، إلا أنه لا إراديًا ينصاع لنمط تربيتهما.
ومن الأسهل على الأطفال أن يتقمصوا نماذج أبوية عديدة، ثم نماذج من الراشدين، ثم نماذج من أترابهم وخاصة عند دخولهم المدرسة، ولأن الأطفال لا يميزون ولا يقدرون الفروقات التربوية فيتم من خلال النماذج الثلاثة (الآباء – الراشدون – الأتراب) إدخال معايير وأنماط سلوكية مختلفة، إيجابية أو سلبية، واقعية أو خيالية إلى مخزون الذاكرة وساحة اللاشعور، فيتأثرون بها تأثيرًا بالغًا ويمارسونها بقناعة كبيرة إذا لم يتلقوا الإرشادات السليمة والمستمرة من أولياء أمورهم.
فإن تم اكتساب أصول من التربية الصحيحة المعتمدة على الأفكار العلمية الدقيقة فإن ذلك من فضل الله تعالى.
وإن تم العكس فتلك الطامة الكبرى، حيث تعمل المعلومات المشوشة والخرافية فى نفوس الأطفال عملها السلبى فى أوانها وعلى المدى البعيد من حياتهم، وربما تستمر حتى كهولتهم، إذ يتشربون عقيدة دينية خاطئة، ويتبنون ثقافة اجتماعية وسياسية واقتصادية مهشمة ومهمشة، ويتصرفون إزاء المواقف المهمة من حياتهم بكثير من الاستهتار المبطن بالقلق والشكوى والضياع، وهناك الكثير من المشكلات النفسية والجسدية والذهنية التى يعانيها أبناؤنا قد تعزى إلى الخرافات والمعلومات الخاطئة التى ندخلها إلى عالمهم الفطرى دون أن نلقى لها بالا، ومنها: السلوك العدواني إزاء شخص ما أو إزاء مقتنياته، وكره الذات والإنفلات الاجتماعي، وقد يصاحب ذلك السلوك تشنجات عصبية واضطرابات فى النوم وسوء الهضم والقلق، والخوف من أبسط الأمور: كالظلام والأصوات المرتفعة والتجول على انفراد حتى فى الأماكن الآمنة، فضلا عن التأثير السلبى على الأداء الدراسى والإدراكى والحركى.
وإن استمرت المعلومات الخرافية فى أخذ مجال أوسع وصولا إلى سن الرشد دون تصحيح أو تنبيه إلى عدم مصداقيتها، فإنها قد تأخذ بسلوك الراشد إلى منحى أسوء، حيث تؤدى به إلى الانعزال الاجتماعي التام، وربما إلى الجنوح والشذوذ، وممارسة نشاطات غير إنسانية؛ كالسرقة والاحتيال والخيانة ونثر الأكاذيب وبث الإشاعات و.... الخ.
وقد يتخذ أحيانا الوجه الآخر، فينحو نحو الدين ويتشبث به فى كل صغيرة وكبيرة، إلى أن يصل إلى حد التصوف اللامعقول والتعصب له، والزهد فى الحياة، كل ذلك مرده إلى التناقضات التى يعايشها بشكل مباشر وغير مباشر، وتنمو استجابة للإحباطات والمعاناة فى الطفولة.
وتلك السلوكيات تتم بدافع الانتقام من ذلك العالم الذي حرمه العيش بأحضان الحياة بصدق وشفافية وعلاقات مباشرة مع ذاته ومحيطه ومدارك حواسه بشكل طبيعى.
خلاصة
إن التربية السليمة تهدف إلى جعل السلوك القويم للفرد هو منطلق النجاح والتميز والسمو بالمجتمع من خلال الانفتاح الفكرى المرتكز على أسس علمية دينية أخلاقية، والمربى... سواء كان الأب أو الأم أو الأخ أو المعلم، هو العنصر الفاعل فى العملية التربوية، ويكون أثره مرهونا بما يحمل فى رأسه من عمل وفكر، وما يحمل فى قلبه من إيمان وصبر، وحتى يحصد ثمرة نجاحه فى التربية، عليه أولا إزالة كل الشوائب المعلوماتية من فكره، ثم يسعى جديًا بالقضاء عليها بالتوعية الإرشادية الدائمة للأسرة والمجتمع والمدرسة، وزرع المعلومات العلمية الدقيقة فى عقول ونفوس أبنائه، مع مراعاة بث روح التفاؤل والرضا، وتجنب الحديث عن الأشياء المخفية، كالموت والجرائم وما شابه ذلك.
وهنا أذكر أنه على المربى أن يسرد لأبنائه قصصا من الخيال الواقعى يحثهم من خلالها على القيم الأخلاقية والعلمية والدينية الاجتماعية، ويبتعد عن السرد الخيالى اللاواقعى وينبههم دوما إلى أن معظم ما يشاهدونه اليوم من أفلام الرسوم المتحركة، وأفلام "الأكشن" الخيالية إنما هو عالم لا وجود له، وليضبط مده زمن متابعتهم لها.
ويسد حاجتهم إليها بشيء مفيد ونافع لهم، كممارسة الرياضات والهوايات التى يحبذونها، وتعليمهم بعض المهارات الفكرية واليدوية، ومن الأهم أن يقتطع ولى الأمر جزءا من وقته بشكل يومى ولو بضع دقائق للجلوس مع أبنائه، والغوص إلى عالمهم الفكري ليكتشف جوانب خفية من مكنوناتهم تساعده على إرشادهم وتوجيههم للأصوب، مما يزيدهم إحساسا بالأمان ورفع مستوى الفاعلية الفكرية والإبداعية فى جميع مجالات حياتهم.
.