كان الصحابي الجليل فضالة بن عبيد واحدا من أولئك الصحابة الذين اعتنوا كل العناية بالفقه والتعلم، فكان يداوم على حضور مجالس النبوة، ويشارك في الغزوات، ويناقش غيره من الصحابة فيما سمعوا- في غيبته- من النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
وكان يجمع إلى التفقه والعلم، قوة الشخصية والحزم والشجاعة والورع والتقوى، ولكن تلك الصفات اجتمعت في كثيرين غيره من الصحابة، فماذا تميز به من بينهم؟
في رأينا أنه تميز بصفة المعلم المربي الذي يحرص على إبلاغ العلم لغيره، والحث على العمل به. وأدلتنا على ذلك كثيرة منها:
- أننا تتبعنا مروياته في كتب السنة فوجدنا مروياته يغلب عليها الطابع العملي. فهو من الذين نقلوا عن النبي الكريم ﷺ السنة العملية، أي أفعال النبي ﷺ التي شاهدها فضالة.
- أن كثيرا من الأحاديث التي رواها أو رويت عنه كانت ذات صبغة تعليمية. فكثير منها يبدأ بقول أحد تلاميذه: سألنا فضالة عن كذا وكذا، فقال: كذا وكذا.
أن سلوكه- في بعض أحاديثه- كان سلوكا عمليا، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره، فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها. والنسائي في سننه أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها.
ومن مواقف فضالة التربوية ما رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: غزونا مع فضالة بن عبيد- ولم يغز فضالة في البر غيرها- فبينا نحن نسرع في السير، وهو أمير الجيش، وكانت الولاة إذ ذاك يسمعون ممن استرعاهم الله عليه، فقال قائل: أيها الأمير، إن الناس قد تقطعوا، قف حتى يلحقوا بك. فوقف في مرج عليه قلعة، فإذا نحن برجل ذي شوارب، فأتينا به فضالة، فقلنا: إنه هبط من الحصن بلا عهد، فسأله فقال: إني البارحة أكلت الخنزير، وشربت الخمر، فأتاني في النوم رجلان فغسلا بطني، وجاءتني امرأتان، فقالتا: أسلم، فأنا مسلم، فما كانت كلمته أسرع من أن رمينا بالزبار فأصابه، فدق عنقه، فقال فضالة: الله أكبر، عمل قليلا، وأجر كثيرا. فصلينا عليه، ثم دفناه (الزِّبار - بتشديد الزاي المكسورة -: نوع من الحجارة الصغيرة).
ففي هذه الرواية درسان تربويان كبيران، أولهما: ما أشار إليه راوي القصة من حسن قيادة فضالة وتبسطه في الحديث مع رجاله، واهتمامه بالاستماع إلى آرائهم والعمل بها إذا وافقت الصواب.
والدرس الثاني: هو سرعة بديهته وحسن تصرفه فور مصرع الرجل، فقد علق على إسلام الرجل الذي جاء سريعا وموته الذي أعقب إسلامه بلسانه.
ومن مواقفه التربوية التي تكشف عن صفة بارزة ينبغي للمعلم والقاضي والحاكم أن يتحلى بها وهي: سعة الأفق، وحسن التصرف، ما روي عن ابن هشام الغساني قال: حدثني أبي عن جدي قال: وقعت من رجل مائة دينار، فنادى: من وجدها، فله عشرون دينارا، فأقبل الذي وجدها. فقال: هذا مالك، فأعطني الذي جعلت لي. فقال: كان مالي عشرين ومائة دينار، فاختصما إلى فضالة، فقال لصاحب المال: أليس كان مالك مائة وعشرين كما تذكر؟ قال: بلى، وقال للآخر: أنت وجدت مائة؟ قال: نعم، قال: فاحبسها ولا تعطه، فليس هو بماله، حتى يجيء صاحبه.
.