صبري عرفة الكومي.. نموذج التربية الحي

التاريخ الإسلامي مليء بسير العلماء المصلحين الذين كان لهم أثر كبير في صناعة التاريخ والتأثير على المجتمعات حتى بعد مماتهم.

وقد رحل عنا أمس أحد المصلحين الذين تركوا في التربية دروبًا سار عليها أجيال وثبتوا في وجه الطغيان لا يضيرهم من خذلهم، إنه المجاهد صبري عرفة الكومي.

واحد من الرعيل الأول للإخوان المسلمين، امتاز بالشجاعة والدقة والهدوء والصمت والصرامة، ولعل الصفة الأخيرة اكتسبها من عمله كضابط احتياط بالجيش، هذا طبعًا إلى جانب خلقه الإسلامي.. وهو العضو السابق بمكتب الإرشاد والأمين السابق للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وقائد تنظيم 65 لفترة قبيل تولى سيد قطب زمامه.

حكم عليه بالإعدام شنقًا هو وستة آخرين من بينهم سيد قطب في قضية إحياء تنظيم الإخوان المسلمين عام 1965 ثم خفف عنه الحكم إلى المؤبد.. واستمر في صفوف الحركة يعمل لنصرة دينه حتى وفاته أمس 27 يونيو 2020م الموافق 5 ذو القعدة 1441هـ.

 

بداية الرحلة

ولد الأستاذ الفاضل صبري عرفة الكومي عام 1930م بمركز أجا في محافظة الدقهلية، وظل مقيما بها إلى أن انتقل وعائلته في عام 1938م إلى المنصورة، وفيها التحق بالمدرسة الابتدائية، ثم الثانوية، وبعد نجاحه وحصوله على التوجيهية حاول الالتحاق بكلية الزراعة في جامعة فؤاد الأول [جامعة القاهرة] لكن مساعيه لم تكلل بالنجاح، ليوفق بعد ذلك بفضل الله في الالتحاق بها في شبين الكوم.

وبعد حصوله على بكالوريوس الزراعة عام 1952م، التحق بالمعهد العالي للمعلمين لمدة عام كامل، ثم عين مدرسا بمدارس الغردقة وظل بها مدة سنتين لينتقل بعدها إلى أسيوط معلما في إحدى مدارسها.

وفي عام 1956م تم استدعاؤه كضابط احتياط في الجيش لدخول حرب 56، وبعد الحرب تم إنهاء خدمة الاحتياط ليعود مجددا للعمل في سلك التربية والتعليم حيث عين مدرسا للكيمياء والأحياء بإحدى المدارس الثانوية في المنصورة بالدقهلية، كما أعير للعمل مدرسا في المملكة العربية السعودية عام 1960م لمدة ثلاث سنوات.

 

وسط الإخوان

نشأ الأستاذ الفاضل صبري الكومي نشأة ريفية تميل إلى التدين، وقد ساعده هذا الأمر على أن يرفض الانتماء إلى كثير من الأحزاب ذات التيارات الفكرية المخالفة للفطرة السليمة والتي كان أصحابها دائما ما يدعونه إليها بكل الوسائل والسبل.

وظل دائما يبحث عن الطريق الصحيح الذي يسير فيه ليصل في منتهاه إلى الهداية والنور، حتى كانت البداية حين التحق بكلية الزراعة بشبين الكوم والتي كان طلابها ذكور فقط، وفي عامه الأول لفت نظره مجموعة من الطلاب أصحاب سمت إسلامي واضح، يساعدون كل من يحتاج المساعدة خاصة الطلبة الجدد.

وكان بعضهم ذهب للجهاد في فلسطين ثم عاد ليحدث إخوانه وزملاءه عن هذه القضية الفاصلة في حياة المسلم، فانشرح صدره لهم وبدأ يلازمهم ويستمع لهم، وبدأ أيضا بالعمل في النشاط الجامعي مع هؤلاء الشباب الإخوان الأخيار حتى تعرف على أخ اسمه صلاح الشربيني - كان أكبر سنا منه وكان من المنصورة أيضا - وهذا الأخ كان يتميز بحسن الخلق وجميل المعاملة وطيب الكلام؛ فأحبه الأستاذ صبري ولازمه بعض الوقت، وكان لذلك تأثير محوري فاصل في حياته، حيث قرر ضرورة الانتماء والانضمام لهذه الجماعة.

غير أن الوقت الذي قرر فيه الانضمام لهذه الجماعة المباركة كان وقت محنة لهم، فقد صدر حكم المحكمة العسكرية في عام 1950م بإغلاق كل شعب الإخوان، واعتقل الكثير من أبناء الجماعة، ثم كان نبأ استشهاد الإمام حسن البنا من قبل، غير أن كل هذا لم يثنه عن تنفيذ ما كان قد عزم عليه من أمر الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وفي عام 1951-1952م بدأت عودة الشعب، وبدأ التدريب في معسكرات التدريب الإخواني، فدعي إليها، وفي ذلك يقول الأستاذ أحمد عبد المجيد:

«ومن باب استكمال اللياقة البدنية وتفريغ جزء من طاقات الإخوان، بدأنا التدريب على بعض أنواع الرياضة البدنية، كالمشي وتمرينات السويدي والمصارعة اليابانية، والقيام بالرحلات، وكان يشرف على هذا الجانب الأخ مجدي عبد العزيز وعلي عشماوي.

وفي هذه الفترة تم عمل معسكرين للتدريب والترويح للأخوة على ساحل جمصة بمحافظة الدقهلية، وآخر بمنطقة نائية في بلطيم بمحافظة كفر الشيخ على البحر كذلك.

وكانت هذه الترتيبات معينة للذهاب والعودة والإقامة، واستعمال كلمة سر وأسماء مستعارة، وغير ذلك من احتياطات الأمن اللازمة.

وكان نظام المعسكر روحيًا من ناحية العبادات بالليل والنهار، وإلقاء المحاضرات التثقيفية، والتدريب على الحراسة مع ممارسة أنواع مختلفة من الرياضة البدنية، مثل السويدي والجري والقفز والسباحة والمصارعة اليابانية، وغيرها، وكذا التدريب على الاعتماد على النفس مثل الغسيل والطبخ وما إلى ذلك.

عمل صبري عرفة كمسؤول طلبة في محافظة القاهرة وبدأ في تنظيم اللقاءات.. كما تولى أيضا مسؤولية الطلبة في المنصورة، وعمل نائبا لمسؤول الدقهلية وقائما بأعماله.

وفي عام 1962م عاد من المملكة العربية السعودية، ليشارك بعد ذلك فيما يسمى بتنظيم 65 وكان تحت قيادة الأستاذ عبد الفتاح الشريف، وفي عام 1963م تولى قيادة وسط وشرق الدلتا وعين مسؤولا عن الدقهلية والغربية ودمياط وكان وقتها مدرس كيمياء للثانوي من المنصورة، وذلك خلفا للأخ فتحي رفاعي الذي كان قد سافر إلى الجزائر.. كما تولى قبيل القبض على التنظيم قيادة مجموعة 65 وهم ( الخمسة الكبار الذين كانوا يمثلون المحافظات حينها وهم عبد الفتاح إسماعيل، ومجدي عبد العزيز، وأحمد عبد المجيد، وصبري الكومي، وعلي عشماوي).

 

في السجن

ألقي القبض على الأستاذ صبري وسيق مع غيره إلى ساحة التعذيب بالسجن وتربى مع هذا الرعيل في مدرسته.. فكان صاحب نفس تملؤها العزيمة والتصميم والتضحية.. وقد كان ثباته وإخوانه في أسرهم نورا وضياءً للأجيال..

حوكم ضمن محاكمة صورية أصدرت عليه الحكم في البداية بالإعدام وكان كعادته صادعا بالحق مزاحما للباطل فقد تعرض أثناء المحاكمة لهجوم قاس وتهكم وسخرية من القاضى "الدجوي".. وكان يقابل تحديه بتحد أكبر.. ولم يستغرق مناقشته سوى دقائق ولكن القاضي كان خلالها قد أصدر حكمه على الذى تجرأ ورد عليه.. فكان الحكم بالإعدام.. ثم عدل فيما بعد للسجن المؤبد.

وشمل هذا الحكم السبعة الذين اعتبروا قادة التنظيم آنذاك إلا أن التعديل إلى المؤبد بعدها كان له ولكل من:

 علي عبده عشماوي.

 أحمد عبد المجيد عبد السميع.

 مجدي عبد العزيز متولي.

ثم تم نقل ثلاثة منهم إلى السجن الكبير مع باقي الإخوان وانضموا معهم في الطابور وهم صبري عرفة الكومي، م. مجدي عبد العزيز متولي، أحمد عبد المجيد عبد السميع أما على عشماوي فقد عزلوه عنهم..

عاش الأستاذ صبري المحنة مع الإخوان وكان ما تعلمه من جهاد وجلد وصبر في مدارس الإخوان سببا لثباته بفضل الله تعالى ومرت فترة السجن كمنحة تربى فيها تربية عالية وألزم نفسه التقوى وكان من بدايتها صلبا حريصا على عزة المؤمن محبا للشهادة.

 وفي ذلك يذكر على عشماوي أن حوارا دار بينه وبين أحد الضباط.

فسأله على أي أساس تم تخفيف الحكم؟

فرد قائلًا: إنه تم بناء على أمرين:

الأول: أنكم صغار السن كانوا أقل من 30 سنة.

الثاني: أنها أول مرة يشتركوا فى مثل هذا العمل، وأما الثلاثة الباقون الذين أعدموا فقد اشتركوا مرتين قبل ذلك.

فقال صبري للضابط حينها بكل شموخ وإباء: أنا سنى أكثر من 30 عاما.. ليظهر في هذا الموقف مدى الإيمان وحب الشهادة لدى هذا الرجل وشاء الله له أن يعيش بعدها ليذكر للأجيال قصص هؤلاء الأبطال الذين رحلوا في هذه المحنة والذين جمعهم حكم الإعدام وفرقهم تنفيذه.. وبعد خروجه زادت صلابته صلابة، فخرج من السجن لينتظم في صفوف الدعوة كأنه لم يدخل السجن لحظة واحدة.

كانت هذه هي أهم العلامات والمراحل في حياة الأستاذ صبري عرفة الكومي جلها في خدمة دعوته ليعطي من نفسه القدوة العملية للتفاني والتجرد فأينما تطلبه الدعوة وجدته وإذا سمعته يتكلم عن فترة السجن سمعت حديث الرجل الصابر المحتسب..

 

جوانب من التربية

 كتب م. أحمد شوشة يذكر جوانب من التربية عند الأستاذ صبري عرفة الكومي فيقول:

إن هذه الخواطر والمشاهد السريعة لن تفي هؤلاء الرجال القدوة حقهم، ولكن لعلَّها تفي لنا ببعض الزاد التربوي الذي يزيدنا ولاءً وثباتًا وحبًّا لهذه الدعوة المباركة، أو توضح لنا بعض معالم طريق الدعوة والجهاد في سبيل إقامة هذا الدين، أو تزيدنا يقينًا بحتمية التمكين لدين الله في الأرض، أو لعلَّ هذه الخواطر تكون دافعًا للإخوة؛ لأن يكتبوا عمن عايشوهم من إخوانهم، فتكون زادًا لنا، ولمن بعدنا على طريق الدعوة إن شاء الله.

التلميذ والأخ المقرب للشهيد سيد قطب عليه رحمة الله، كان من مسئولي تنظيم الإخوان في الستينيات من القرن الماضي بتوجيه من الشهيد سيد قطب وتكليف من الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين عليهما رحمة الله، اعتُقل عام 1965م؛ ليدخل محنة من أشد المحن التي مرَّت على الدعوة الإسلامية, ويحكم عليه القضاء الاستثنائي بالإعدام مع الشهداء سيد قطب، ومحمد هواش، وعبد الفتاح إسماعيل؛ ولكن لحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ ولدور ما زال في علم الغيب يُخَفَّف الحكم إلى المؤبد، ويدخل السجن فيؤدي دوره الذي أُعِدَّ له كمعلم ومربٍ؛ فيحتضن إخوانه برفق ويَعْبُر بهم محن السجن بسلام والتي كانت أشدها "محنة التكفير" التي تصدَّى لها حتى عاد كثير من الشباب إلى الفكر الإسلامي الوسطي للإخوان، كما تعلَّموه من مدرسة النبوة الكريمة، ويخرج أستاذنا في بداية السبعينيات ليربي جيلًا بل أجيالًا كاملة على الإسلام والدعوة إليه والتضحية في سبيله، رزقنا الله سبحانه وإياه الثبات اللهم آمين.

 

تربية ربانية في مدرسة القرآن والسنة ومقاصد الشريعة

أستاذنا الفاضل المربي الجليل، صبري عرفة الكومي مدرسة ربانية ربَّت أجيالًا على مائدة القرآن الكريم والسنة المطهرة ومقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، فأنارت عقولًا وزكت أنفسًا، وأسست حركةً دعويةً دقيقةً واعيةً.

تعلَّم تلامذته من خلال تفسيره لآيات القرآن الكريم العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، والحلال والحرام، وانتماءهم إلى ركب الأنبياء والصالحين من عباده عليهم السلام،

وكيف تحرَّك هذا الركب بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ مؤصلًا فقه الدعوة الإسلامية في عصرنا هذا، كما نادى به الإمام الشهيد حسن البنا عليه رحمة الله تعالى.

تعلم تلامذته تزكية النفس، وكيف يتخلى المسلم عن الأخلاق غير الحميدة؟ وكيف يتحلى بالأخلاق الطيبة؟

وذلك من خلال مواعظه القيمة من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي عليه رحمة الله.

أما الفقه فقد كان يعلمه عن طريق الحكاية والمواقف بما يقرِّب المعنى ويركزه في الذاكرة فيصعب نسيانه.

 

تربية متوازنة

لقد كان وإخوانه وتلامذته نجومًا تتلألأ في سماء التربية، بهرت بضوئها الساطع جلاديه، حتى إن أحدهم صفوت الروبي أو شمس بدران يوجه إليهم أقذع الكلمات لتفوقهم الدراسي، وتقاريرهم الوظيفية والمهنية الممتازة، ودرجاتهم العلمية المميزة، وثناء رؤسائهم وإشادتهم بتفانيهم في العمل، حتى إنهم يعملون في أوقات الإجازات المستحقة، فضلًا عن رفضهم الحصول على إجازات استثنائية، متعجبًا من هذا التوازن بين تمسكهم بالدين والتضحية من أجله، والتفوق الوظيفي والاجتماعي، وغاب عن هذا المسكين أن هذا هو الإسلام.

 

تربية شاملة متدرجة عملية

تلك التربية الشاملة المتدرجة العملية المؤثرة في جميع مجالات الواقع الإنساني عمادها المعايشة الكاملة، فتراه إما زائرًا أو مُزارًا، يجالس الإخوان ويؤاكلهم ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم على غير تكلف، كأنه واحد منهم وهو الأستاذ المربي.

فلم تكن تربيته معلومات تُسكب في العقول ولكن أداء عمليًّا متلازمًا مع المعرفة لا يسبق أحدهما الآخر، فلا المعرفة تسبق الواقع ولا الواقع يتخلف عن المعرفة.

 

تربية أساسها المعايشة

ولذلك كانت تربيته أساسها معايشته لإخوانه وتلامذته كواحد منهم في تواضع الأساتذة العظام، يتعرَّف على تلامذته عن قرب، ويناقشهم في واقعهم العملي الحياتي والدعوي، يرشدهم ويصوبهم إلى الذي تُرْشِد إليه الشريعة.

فهي تربية عمادها معايشة المربي لتلامذته؛ تأسيًا بمدرسة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين من بعدهم عليهم رضوان الله.

لم يتأخر يومًا عن تلبية دعوات إخوانه وتلامذته بل أحيانًا يفاجئهم بزيارته لهم؛ ليتعرف عليهم عن قرب، وليقضي معهم أوقات لطيفةً، يؤلف القلوب، وينثر بذور الحب والود، فتنبت إخوة دونها الدنيا وما فيها، وتفتح في الوقت نفسه القلوب والعقول للتوجيه والإرشاد.

أما إخوانه الذين توفاهم الله سبحانه أو استشهدوا فكان راعيًا لأسرهم، يتعرف على مشكلاتهم، ويستطلع أحوالهم مقدمًا لهم النصح والعون.

هكذا وجوده مع الإخوان جميعًا في معايشة لا تمل ولا تتراخى مهما كانت الظروف.

 

تربية أساسها الثقة المتبادلة

وهي كذلك تربية أساسها الثقة المتبادلة؛ فإنك إن جلست إليه أشعرك أنك صاحب الدعوة ومسئولها، فيرتفع بك إلى آفاق رحبة تنطلق فيها داعيًا إلى الله على بصيرة في همة وعزيمة.

فإذا ذهبت إليه تعرض عليه أمرًا من الأمور؛ لتعرف رأيه ابتدرك بسؤالك عن أحوالك العلمية والاجتماعية والمهنية وغير ذلك، ثم يستمع إلى ما جئت من أجله، فإذا عرضت عليه الأمر كان أول ما يبدأ به التعرف على وجهة نظرك ثم يدير حوارًا معك، حتى يصل بك إلى الرأي المناسب.

وبهذه الطريقة يرتفع بك من درجة الأخ الأصغر إلى درجة الأخوة التي يتناصح من خلالها أخوان ليصلا معًا إلى الرأي المناسب.

وبذلك يربي إخوانه على متابعة أحوالهم بعضهم بعضًا، وكذلك تربيتهم على طريقة التفكير العلمية لحلِّ المشكلات، وكيف يكون التفاهم وإدارة الحوار، وأيضًا غرس الثقة في أنفسهم، وبناء شعور قوي لديهم بأنهم رجال الدعوة المشغولون بها، والذين يفكرون لها، وأنهم هم أصحاب القرار.

فإذا وصل معك إلى الرأي وكوَّن هذا الشعور لديك كنت في قمة الثقة بالنفس، وقمة العاطفة التي تطلق طاقات التنفيذ بكلِّ قوتها الكامنة داخل النفس البشرية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم