إعداد: محمد الغنام
تشكل هذه التطبيقات القسم الثاني العملي من النظرية التربوية عند الكيلاني، وهي تتكون من العناصر التالية:
1- المنهاج:
المنهاج بمعناه البسيط هو: مجموع الخبرات المربية التي تهيئ المؤسسات التربوية لإنسانها التفاعل معها؛ لتحقيق المقاصد والأغراض التي تحددها الفلسفات والأهداف التربوية التي سبق استعراضها.
وينقسم المنهاج إلى قسمين رئيسين هما: (المنهاج الظاهر) الذي يشتمل على الخبرات الظاهرة المحسوسة، ويتألف من مواد دراسية وأساليب ووسائل تستعمل لتوصيلها أو تقويمها، و(منهاج مستتر) غير ظاهر للعيان، وتجسده النشاطات التعليمية، والممارسات الإدارية، والعلاقات الجارية المرافقة للمنهاج الظاهر.
وقد عرّف هنري جيرو المنهاج المستتر بأنه: المعتقدات والقِيَم والعادات غير المدوَّنة التي يراد تسريبها إلى أشخاص الطلبة، من خلال القوانين والإجراءات التي تنظم عمل المدرسة والعلاقات الاجتماعية فيها.
والغاية من (المنهاج المستتر) هي ترويض الطلبة على مفاهيم وأنماط سلوك يراد أن يحيوها في المستقبل، وأن يتقبلوا المواقع الاجتماعية والأدوار المقررة لكل منهم، والمنهاج بهذا الشكل قد يكون نافعًا ينبه الطلبة ويدربهم لحياة اجتماعية أفضل، وقد يكون ضارًّا يكرِّس الخنوع والظلم وعدم المساواة.
و(المنهاج المستتر) في التربية الحديثة يكرِّس مفاهيم العمل الصناعي والتجاري، وقِيَم الاستهلاك وعاداتها، من حيث أداءُ العمل والانضباط، وطاعة الأوامر وغير ذلك، وهو يصنف المعرفة إلى درجات، ويغرس في نفوس التلاميذ تفوق المعارف التي تحقق المكاسب المادية على غيرها، ويعمل على تهيئة أبناء الفقراء الذين يدرسون في المدارس العامة للأعمال المهنية، وتهيئة أبناء الطبقة الوسطى الذين يدرسون في المدارس الخاصة للإدارة والوظائف العليا، كذلك يعمل (المنهاج المستتر) على تحديد مفهوم الطالب عن نفسه وذاته؛ حيث إن فشله في المنهاج الصعب أو غير المناسب يجعله يلقي اللوم عن نفسه، وتتكوَّن لديه صورة متدنية عن ذاته، وفي المقابل فإن مَن يسهل المنهاج نجاحه يكوِّن عن ذاته صورة متعالية تجعله ينسب النجاح لقدرات متميزة فيه؛ أي: إن المدارس في التربية الحديثة تطور عادة (لوم الضحية) و(مكافأة المستغل)[1].
ويرى (بولو فرير): أن المنهاج المستتر المصاحب للمنهاج التربوي الرسمي الظاهر في العالم الثالث كان من الأدوات الرئيسة لضمان (ثقافة الصمت) عند مَن لا يملكون، ولدمج الناشئة في النظام الاجتماعي القائم، وجعلهم يقبلون منطقه المأساوي، ويسهمون في المحافظة على استمراره[2].
ويؤخذ على المناهج المطبقة في غالب الأقطار العربية عدة أمور هي:
1- الفصل بين العلمي والأدبي؛ مما يفرز ثنائية اجتماعية متناقضة التفكير والولاء.
2- في فترة ما قبل العولمة التركيز على تاريخ الماضي وعلومه؛ مما يصرف عقول الطلبة عن الاهتمام بحاجات الحاضر وتحدِّياته، ويشغلهم بالجدال حول تفاضل الماضين ومفاخرهم أو نواقصهم، وفي فترة ما بعد العولمة يركز المنهاج على (اغتراب) الإنسان العربي والمسلم عن ثقافته وهويته، وتحويله إلى (عامل) لا ينتمي إلا لمكان العمل الذي يقدم له الغذاء والكساء والمتعة الجسدية.
3- التركيز على التلقين النظري أكثر من التطبيق العلمي؛ مما يغرس فيها عادة الرضا بالأقوال دون الأعمال.
4- التركيز على مهارات العمل كاستعمال الحاسوب، ويهمل علوم الاجتماع والدين.
5- الاكتفاء بالإلقاء النظري الجاف دون توفير البيئة والقدوة المفرِحة؛ مما يدرِّب الطلبة على الصبر على حياة الضنك، والرضا بالواقع المأساوي[3].
2- المؤسسات:
تتعدد المؤسسات التربوية بتعدُّد حلقات السلوك في الفرد، ومع تعدُّد الحاجات والتحديات التي يواجهها المجتمع خلال مسيرة التغير الإنساني، ولذلك يبقى عدد هذه المؤسسات وأنواعها ومسؤولياتها في تطوُّر مستمر طبقًا لحاجات كل عصر وتحدياته، ولكن يمكن تصنيف هذه المؤسسات بشكل عام إلى خمس مؤسسات هي:
1- مؤسسات التنشئة، ومحورها الأسرة.
2- مؤسسات التعليم، ويبدأ محورها من المدرسة وينتهي بالجامعة.
3- مؤسسات الإرشاد، ومحورها دور العبادة ومؤسسات الثقافة.
4- مؤسسات التوجيه، ومحورها مؤسسات الإعلام.
5- مؤسسات البيئة العامة، ومحورها مؤسسات الإدارة والأمن.
وكما لا يمكن الفصل بين حلقات السلوك؛ أي: حلقات الخاطرة، والفكرة، والإرادة، والتعبير، والممارسة، كذلك لا يمكن الفصل بين عمل المؤسسات المذكورة إلا ما يستدعي التنظيم مع المحافظة على التكامل والتفاعل؛ طبقًا لتخطيط علمي يحدد الأدوار وينظم قنوات التواصل.
وخطورة هذا الفصل أنه يقتل فاعلية هذه المؤسسات جميعها، وفي المجتمعات العربية، أدَّى عدم التكامل بين المؤسسات التربوية إلى تمزيق شخصية الإنسان العربي وتقلبها؛ لأن كل مؤسسة تتعامل مع هذا الإنسان بشكل يختلف عن المؤسسات الأخرى، ابتداء من طفولته حتى شيخوخته.
3- الأساليب والوسائل:
تتحدد قيمة الأساليب والوسائل وفاعليتها بمقدار إسهامها في بَلْوَرة هوية الإنسان المتعلم، واستخراج قدراته وفضائله، وتمكينه من تسخير بيئته المحيطة، وإمداده بالوعي بتقسيمات الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لتكون محصلة ذلك كله تسنُّمه المركز (الكريم) في درجة العوالم المحسوسة.
ولكن يؤخذ على أساليب التربية الحديثة أنها في الوقت الذي أسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدُّم العلم والتكنولوجيا، فإنها انتقصت إنسانية الإنسان وركَّزت عملها على ترويضه وتأهيله لمكان العمل والإنتاج.
4- إنسان التربية:
الإنسان الذي تتطلَّع نظريات التربية إلى إخراجه هو الذي يقوم بالعمل الصالح كاملاً، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف تعمل التربية على إخراج الإنسان الصالح الذي يقوم بالعمل المشار إليه؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ من أمرين: الأول: تعريف العمل، والثاني: كيف يتولد العمل؟
أما عن الأمر الأول فإن التربية الإسلامية تطلق اسم "العمل" على كل حركة مقرونة بهدف: ((إنما الأعمال بالنيات))، ولما كان الهدف خاصًّا بالإنسان فقد أطلق على أعماله اسم (العمل)، أما الحركات غير الهادفة كحركة الشمس والقمر والرياح، فقد سماها جريانًا.
والعمل هو ثمرة عدد معين من العمليات التربوية التي تتكامل حسب نسَق معين يمكن أن نوجزه في المعادلات التالية:
العمل الصالح = القدرة التسخيرية + الإرادة العازمة.
القدرة التسخيرية = القدرات العقلية + الخبرات المربية.
الإرادة العازمة = القدرات العقلية + المثل الأعلى[4].
وفيما يلي تعريف موجز لكل من هذه المكونات للعمل:
القدرة التسخيرية: هي ثمرة تزاوج القدرات العقلية مع الخبرات المربية؛ أي: إن القدرة التسخيرية تتولد من خلال النظر العقلي السليم في تاريخ الأفكار والأشخاص والأشياء؛ بغية اكتشاف قوانينها، ثم الاستفادة من هذه القوانين لتسخيرها والانتفاع بها.
الإرادة العازمة: تعرف الإرادة بأنها قوة التوجُّه نحو الهدف المراد، وهي ثمرة تزاوج القدرات العقلية مع المثَل الأعلى؛ أي: إن الإرادة تتولد من خلال النظر السليم في مستويات المثَل الأعلى، التي تتضمَّن نماذج الحاجات التي تجلب للإنسان النفع أو تدفع عنه الضرر.
القدرات العقلية: في الإنسان قدرات عقلية كامنة يستطيع من خلالها تدبير أمور معاشه، والتعرُّف على الكون المحيط بمكوناته والبيئة المحيطة بأحداثها، وتتفاوت القدرات العقلية قوة وضعفًا طبقًا لأنظمة التربية ومتغيرات البيئة.
المثل الأعلى: يعرف بأنه نموذج الحياة المعنوية والمادية التي يراد للإنسان المتعلم أن يحياها، وللأمة أن تعيش طبقًا لها، في ضوء علاقات كل منهما بالمنشأ والكون والإنسان والحياة والمصير.
والمثل الأعلى يمدُّ الإنسان المتعلم بالأهداف التي يعيش من أجلها، ويمنح الأمة مبررات وجودها، وينقسم المثَل الأعلى إلى ثلاثة مستويات هي:
المستوى الأعلى: وهدفه الارتقاء بالنوع الإنساني.
والمستوى المتوسط: وهدفه بقاء النوع الإنساني.
والمستوى الأدنى: وهدفه تلبية حاجات الجسد البشري.
ويطلق القرآن الكريم على المثَل الأعلى المتضمن في آياته اسم "المثَل الأعلى"، وعلى ما تفرزه عقول غير المؤمنين اسم "المثل السوء"، ويتوعَّدهم بالفشل والعذاب.
الخبرات المربية: الخبرة هي عمل وأثر، ولا بُدَّ من تكامل الاثنين وحصولهما، فإذا حصل العمل ولم يترك أثرًا في نفس الإنسان وحياته لا يسمى خبرة، والأثر له مستويان: مستوى مادي، وهو ما يحدث في حياة الإنسان من تقدُّم حضاري في أدوات الحياة مثل خبرة نيوتن، ومستوى معنوي وهو ما يتكوَّن لدى الإنسان من وعْي بمقاصد الحياة وغاياتها، مثل خبرات الأنبياء والمصلحين"[5].
5- القياس والتقويم:
القياس والتقويم هما البحث العلمي أو الموضوعي في نتائج العملية التربوية في ضوء الأهداف التربوية المتبناة؛ للوقوف على درجة حصول التغييرات في السلوك أو الأوضاع، ثم تقييم هذه التغييرات استنادًا إلى قِيَم ممثلة في الأهداف التي تحققت.
ولقد كان التقويم في التربية الحديثة قبل القرن العشرين لا يأخذ في اعتباره النتائج العملية للتربية؛ لأن منهاج الدراسة كان يسبغ صفة الكمال على المادة الدراسية ولا يتناولها بالتحليل، وإنما يقتصر على امتحان قدرة الطالب على استظهارها، وإذا لم يستطع الطلبة هذا الاستظهار فإن اللوم يُوَجَّه إليهم وحدهم، وتعزى أسباب الفشل إلى أشخاصهم وأساليب دراستهم.
وفي الوقت الحاضر أخذ مفهوم التقويم يشمل كلَّ مكونات النظرية التربوية، ابتداء من الأصول التربوية، ومرورًا بالفلسفة والأهداف التربوية والمؤسسات والمناهج والأساليب، حتى ينتهي التقويم بالتقويم نفسه، وصار معيار النجاح مقدار ما تحقق من المعادلات العملية للأهداف، وليس مقدار ما استظهره الطالب من مادة دراسية.
[1]- Bennet & Lee Compte، How Schools Work، ( New York : Longman Lnc. 1990 ) p. 188.
[2]- Bennet & Lee Compte، Op. cit Pp. 188 – 191.
Paulo Freire، Padagogy Of The Oppressed، (New Yuork : The Seabury Press، 1968 ) Pp 10-11.- [3]
[4] - جودت سعيد، "العمل قدرة وإرادة"، طبعات متعددة.
[5] - لمعرفة تفاصيل هذه المكونات الخمس راجع كتاب "أهداف التربية الإسلامية"؛ للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، ص 119- 137.
.