بقلم: هالة حساني
هذا ملخص من كتاب (آليات إعداد القادة.. تأصيل شرعي) للدكتورة هالة الحساني، وتقول الدكتورة في المقدمة:
«إنّ كل تنظيم يعتمد على تجميع الناس للعمل معًا، يدرك أن تنمية القيادات هي من أهم المشكـلات التي تواجهـه، فهي دعامتـه ورصيده إلى النجاح».
«لقد اهتم الإسلام اهتمامًا بالغًا بالإعداد القيادي، إن الإعداد والتأهيل أصل من الأصول الثابتة بالنسبة لجميع الرسل والأنبياء. وبالتالي فهو مقوم من مقومات القيادة الواجب على الجماعات الحرص عليها حتى يتسنى لها إنتاج قيادات إستراتيجية ناجحة».
وفي هذا الكتاب سيتم التطرق إلى بعض أهم آليات الإعداد والتنمية القيادية؛ نظرًا لأهميتها في استكمال الشخصية القيادية النموذجية الناجحة، وذلك من خلال خمسة مباحث، هي:
المبحـث الأول: آليـة المعايشـة
المبحـث الثاني: آليـة الممارسـة
المبحـث الثالـث: آليـة التفويـض
المبحـث الرابـع: آليـة المشاركـة
المبحـث الخامـس: آليـة التدريـب
المبحـث الأول: آليـة المعايشـة
إنّ المعايشة من أهم آليات الإعداد القيادي لما فيها من تأثير على شخصية المرشح للقيادة نظرًا للاحتكاك الدائم والاتصال المباشر والتلقي المستمر والتربية الموقفية والملاحظة الدقيقة للممارسة القيادية، وأداء أدوراها باختلاف ألوانها وأشكالها في إطار السياسة المرسومة.
المطلـب الأول…آليـة المصاحبـة
إن مصاحبة القيادة ومرافقتها ومعايشتها وملاحظة أعمالها وتصرفاتها في جميع الأحوال، واختلاف الظروف وتنوع المواقف في الشدة والرخاء، في الحلم والغضب، في اللين والحزم، في العام والخاص، يتعلم من خلالها المرشح للقيادة عدة أمور هامة يحتاجها في حياته القيادية المستقبلية، منها:
- تعلم فن القيادة واتخاذ القرارات والمواقف.
- تنظيم شبكات علاقاتية اتصالاتية، وكيفية تكوين بنك معلوماتي فعال.
- توزيع الأدوار، وتوظيف الطاقات، وتنظيم الهيئات.
- تجاوز العقبات، وتذليل الصعوبات، ومواجهة التحديات، وحل المشاكل ووضع البدائل.
- وضع الخطط وتنفيذها، ورسم السياسات والاستراتيجيات وتنفيذه.
- إدراك عوامل النجاح، وتعلم آليات الارتقاء على جميع المستويات.
- تقديم مصالح الجماعة على المصالح الشخصية، وتجسيد المبادئ والقيم.
- فنون التعامل والاستقطاب، والاستيعاب، وكسب المحبة وتعميق الولاء والانتماء والثقة.
- القدرة على إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، وتحقيق طموحاتهم، والتأثير في اتجاهاتهم وقناعاتهم، وتوحيد أهدافهم، وتنمية مهاراتهم المختلفة سواء القيادية أو الإنسانية أو الفنية أو الإدارية.
- التمكن من ممارسة العملية القيادية ككل بنجاح وتفوق وكفاءة.
غير أن لهذه الآلية مزالقها، مثل:
أ – الارتباط الشخصي بالقيادة المعايشة.
ب – تقصر القيادة المعايشة في الاهتمام بالفرد وإعداد، وتحويله إلى مجرد تابع.
ج – عدم ربط الأعمال بمبادئ الجماعة وأهدافها بل بشخص القيادة المعايشة.
د – إلقاء كل أعباء وأعمال القيادة على كاهل الفرد المرشح بدون توجيه وإرشاد وركون القيادة الأصلية إلى الدعة والراحة مما يعطل أعمال الجماعة والمنظمة.
هـ – تعلم عادات وممارسات سيئة أكثر من تعلم الحسنة، إذا كان النموذج القيادي الذي يعايشه ويصاحبه، ويحتك به نموذجًا سيئا.
لذلك من المهم تدقيق الجماعة في اختيار القيادة المعايشة.
الأنبياء عليهم السلام وتربيتهم من خلال المعايشة
والجدير بالذكر أن الله عزوجل أتاح فرص تواجد بعض الأنبياء والمرسلين في بلاط الحكم والقيادة، ليتعلموا فنونها وآلياتها وأساليبها وأدوارها وعوامل نجاحها. وكذلك لمعرفة صالحها من فاسدها، فيتمكنوا من ممارسة القيادة الناجحة بحق، وتجنب سلبياتها، ومخاطرها، وانزلاقاتها وسقطاتها، وانحرافاتها، ومواجهة تحدياتها، وكذلك التصدي للقيادات الفاسدة منها.
فيوسف عليه السلام القيادة النبوية المعدة إعدادًا إلهيًا الحاملة لرسالة التوحيد، المكلفة بتقلد منصب وزارة المالية والاقتصاد لقيادة الناس من خلاله، قد يسر الله له معايشة ومصاحبة العزيز ليتمكن من معرفة طبيعة القيادة ومتطلباتها، وتحقيق أهدافها الربانية.
أما موسى عليه السلام القيادة النبوية المكلفة بأداء رسالة التوحيد. ومواجهة فرعون القيادة الفاسدة الكافرة، فقد هيأ الله له معايشة فرعون ليعرف أيضًا طبيعة قيادته وأسسها ومقوماتها وأساليبها بهدف تحديد عوامل نقض عراها، وقيادة بني إسرائيل نحو عقيدة التوحيد بنجاح، وتوجيه رباني وتأييد إلهي، وتربية على عينه سبحانه.
الصحابة رضوان الله عليهم ومعايشتهم للنبي صل الله عليه وسلم
إنّ الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم عايشوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، ومراحل حياته ودعوته، فرباهم ليكونوا قادة استراتيجيين مثاليين، ونجحوا فعلًا في أن يكونوا كذلك، والسيرة النبوية مليئة بالشواهد المؤكدة لذلك، منها:
- أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان له السبق في الاقتباس من مشكاة النبوة، والصحبة الوثيقة، والاتصال المباشر، والتأهيل القيادي الذي أعدّه به الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الذي مكنه من تقلد منصب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مباشرة، وأمدّه بكل عوامل النجاح في ممارسة القيادة.
- الفاروق عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه خلّفه الصديق رضي الله عنه؛ إن الاسم الذي لقب به الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على امتلاكه لشخصية قيادية مؤثرة، عمل صلى الله عليه وسلم على تنمية قدراتها ومواهبها وتقوية طاقاتها، وتجديد معارفها، وتصحيح مفاهيمها، وترقية مهاراتها، وصياغتها الصياغة الإيمانية الربانية التي تؤهلها لتكون قيادة إستراتيجية نموذجية.
- عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي اختاره المسلمون بعد وفاة عمر رضي الله عنه فكان الخليفة الراشد الثالث المتجرد لله، الذي جعل هذا التجرد هو ميزان السمو، والقيم والتفاضل. وما ذلك إلا لأنه رضي الله عنه تربى في المدرسة النبوية وحظي بصحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم من بداية الدعوة وفي جميع مراحلها، فصار بعد ذلك قيادة راشدة في أحلك ظروف الأمة الإسلامية، وأشد محنها لما امتثله من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته وأساليب قيادته.
- علي بن أبي طالب رضي الله عنه القيادة الراشدة الرابعة التي أعدت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ صباه إذ كان الصبي الأول في الإسلام الذي دامت صحبته ومعايشته للمصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن توفاه الله، فرسخت فيه المبادئ والقيم وتعاليم الإسلام وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم حتى صنع منه قائدًا ليس ككل القادة.
المطلـب الثاني… التربية والتعليـم
إن القائد الإستراتيجي هو الذي تدفعه الرغبة الشديدة في الابتكار، واكتشاف الأساليب والآليات والوسائل الجديدة، ليتمكن من عملية التغير نحو الأفضل في ظل ارتقاء مستوى التعليم والثقافة والتكنولوجيا والعلوم وتعدد المهارات. ولا يتسنى له ذلك دون:
أ - تعلم الفنون اللازمة والعلوم المتخصصة والثقافات الشاملة والمعلومات الضرورية، وتوظيفها.
ب - امتلاك القدرة على تبني نظرة جديدة للظروف المتغيرة.
ج – امتلاك قوة الإرادة والتمرين المستمر والتعلم والتربية الدائمين، وحب التفوق والتميز، والثقة بالنفس.
د – امتلاك القدرة على التعايش مع الأخطاء والفشل، والتعلم منهما باعتبارهما:
– جزء من خبرات تربوية
– آلية من آليات التربية بالمواقف الموصل إلى النجاح.
التربية بالمواقف
إنّ التربية بالمواقف تربية عملية تقوم في واقع الحياة الملموس، ولم تكن مجرد محاضرات أو دروس نظرية، وإنما ترتكز على الواقع ومعطياته التطبيقية. ومما يزيد من أهميتها خصائصها الهامة، والتي منها:
أ – الاستفادة من تجارب السابقين، فهي خبرات عملية.
ب – أنها تحول المفاهيم إلى حركة، وإلى واقع ملموس معاش.
جـ – أنها بطيئة وئيدة الخطى، تحتاج إلى الجهد الكبير، والوقت المديد؛ فترتقي من حال إلى حال حتى تصل إلى حدّ التمام والكمال.
لذلك يمكن القول إن صناعة القيادة لا يمكن أن تتم إلا إذا وظفت التربية بالمواقف، والتعليم كآلية أساسية من آليات الإعداد القيادي والتنمية القيادية، ليصير القائد قدوة يحتذي حذوه، ورائدًا في ثورة التعلم وحرب المعلومات.
قيمة العلم
كما أن الله عزوجل رفع من قيمة العلم فوق قيمة القيادة؛ لأن الملك والقيادة دون علم لا يمكن أن يستمرا، أو ينجحا، نظرًا لحتميته وضرورته في العملية القيادية وأداء أدوارها. فقال الله عزوجل:
﴿وَلَقَدْ اٰتَيْنَا دَاوُ۫دَ وَسُلَيْمٰنَ عِلْمًاۚ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذ۪ي فَضَّلَنَا عَلٰى كَث۪يرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِن۪ينَ﴾.
إنّ إعداد القيادة يتطلب التعلم المستمر، إنهم يبحثون باستمرار عن طرق لتحسين أنفسهم ومؤسساتهم. إنّ الجماعة الواعية، والقيادة الناجحة هي التي تتخذ المعرفة كطريقة للحياة لكل فرد فيها، وخاصة من تسعى إلى إعداده قياديًا، ولتحقيق ذلك لابد من:
- تغيير صورة المتعلم في ذهن من تسعى القيادة إلى إعداده للقيادة.
- غرس روح التعلم في المرشح وبعث الرغبة الشديدة لذلك.
- إقناع المرشح بأن التعلم المستمر يعني اللحاق بالركب الحضاري.
- تعلم التطور الذي يمكن من تعميق الحصيلة المعرفية الخبراتية السابقة وإثرائها.
- إدراك أن آلية التعلم هي العامل الأساسي لاستكمال الإعداد القيادي.
- تضمين أساليب تنمية الابتكار والتفكير الإبداعي في العملية التعليمية.
- التحكم في عملية التربية والتعلم والتعليم، التي تجعل التعلم سهلًا وممتعًا، وكذلك تحديد الطرق المستخدمة في التعلم، وأخذ الفروق الفردية بعين الاعتبار لاختلافها باختلاف الأشخاص.
إنّ القرآن والسّيرة النبوية مليئان بالشواهد المؤكدة لضرورة التربية والتعليم في إعداد القادة، منها:
- تربية الله عزوجل ليونس عليه السلام عندما يئس من إيمان قومه فهجرهم. قال الله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ اِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ اَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادٰى فِي الظُّلُمَاتِ اَنْ لَٓا اِلٰهَ اِلَّٓا اَنْتَ سُبْحَانَكَۗ اِنّ۪ي كُنْتُ مِنَ الظَّالِم۪ينَۚ ﴿٨٧﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُۙ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّۜ وَكَذٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِن۪ينَ﴾ (الأنبياء:٨٧-٨٨).
- تربية الله عزوجل لموسى عليه السلام عندما استعجل لقاء ربه، وغادر قومه قبل اكتمال نموهم العقدي والتربوي والتعبدي. ففتن قومه من بعده. قال الله تعالى: ﴿وَمَٓا اَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسٰى ﴿٨٣﴾ قَالَ هُمْ اُو۬لَٓاءِ عَلٰٓى اَثَر۪ي وَعَجِلْتُ اِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضٰى ﴿٨٤﴾ قَالَ فَاِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَاَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ (طه:٨٣-٨٥).
- تربية الله عزوجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم عندما وعد قريش بالإجابة على أسئلتها، والسّهو عن ربطها بمشيئة الله. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ اِنّ۪ي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَدًاۙ ﴿٢٣﴾ اِلَّٓا اَنْ يَشَٓاءَ اللّٰهُۘ وَاذْكُرْ رَبَّكَ اِذَا نَس۪يتَ وَقُلْ عَسٰٓى اَنْ يَهْدِيَنِ رَبّ۪ي لِاَقْرَبَ مِنْ هٰذَا رَشَدًا﴾ (الكهف: ٢٣-٢٤).
- تعليم الله عزوجل للصحابة عن طريق جبريل عليه السلام: «قال عمر بن الخطاب كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته. ثم قال: يا محمد ما الإيمان؟ قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قال: فما الإسلام؟ قال: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ». قال: فما الإحسان؟ قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قال: في كل ذلك يقول له: صدقت. قال: فتعجبنا يسأله ويصدقه قال: فمتى الساعة. قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال: فما أماراتها. قال: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ أَصْحَابَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ». قال عمر: فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بثلاث فقال: «يَا عُمَرُ هَلْ تَدْرِي مَنِ السَّائِلُ ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالِمَ دِينِكِمْ».
إنّ آلية المعايشة والصحبة والتربية والتعليم مهمة جدًا في عملية الإعداد القيادي. لما يترتب عليها من تشكيل للتصورات، وتكوين للخبرات، وصياغة للشخصية فكرًا وروحًا وسلوكًا ونفسًا.
شاهد باقي أجزاء السلسلة:
.