Business

الجوانب التربوية في حياة الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)

إن المتأمل في أوضاع المسلمين اليوم وما آلو إليه من المهانة والذل رغم كثرة عددهم وتعدد مواردهم يدرك بوضوح ضرورة مراجعة الأمة الإسلامية لتاريخ السلف الصالح في الصدر الأول من الإسلام، عصر القوة والعزة والمجد للإسلام والمسلمين، للبحث عن أسرار تلك القوة والعزة التي حققها المسلمون في هذا العصر.

إن مصدر قوة المسلمين وهو كتاب الله وسنة رسوله ما زال موجودًا في أيدي المسلمين كما كان موجودًا في عصر الراشدين، وحال المسلمين اليوم كما نرى يتردى من سيء إلى أسوأ، وهذا من شأنه أن يدفع الباحثين المسلمين إلى معرفة: كيف طبق الراشدون الإسلام بالشكل الذي حقّق للإسلام والمسلمين في عهدهم من القوة والازدهار والانتشار ما لم يحدث في أي عصر من عصور التاريخ الإسلامي إلى اليوم.

ولما كانت حياة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) تشمل جوانب تربوية وتعليمية هامة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم، وواقع المسلمين اليوم يقتضي ضرورة مراجعة تاريخهم وسيرتهم، فإن كل هذا يبرز موضوع البحث الذى أعدّته د. رحاب بنت عبد السلام عبد المؤمن مكي، والذي يدور حول رصد وتحليل الاجتهادات والممارسات التربوية والتعليمية في حياة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، باعتبارها التطبيق العملي للتربية الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة.

 

جوانب تربية الشخصية المسلمة في حياته

  • التربية الجسمية:

عُني أبو بكر رضي الله عنه بالتربية الجسمية كأحد الجوانب الأساسية في تربية الشخصية المسلمة، لأن الجسم القوي هو عدة المسلم التي تمكنه من أداء الفرائض الأساسية والتكاليف الشرعية كالعبادات والجهاد في سبيل الله وكسب القوات من طريق العمل الحلال.

وتبدت عناية أبي بكر رضي الله عنه بالتربية الجسمية سواء على مستوى القول أو على مستوى الممارسة والتطبيق في بعض المظاهر الهامة، كالحث على إعطاء الجسم حقه من الغذاء والنظافة والملبس والشهوة، والأخذ بالقواعد الصحية السليمة في المأكل والمشرب، والتداوي من الأمراض والبعد عن الأماكن الموبوءة والأشخاص القابلين لنقل العدوى، وممارسة الرياضة البدنية بأنواعها المختلفة كالسباحة والرماية وركوب الخيل والمصارعة.

ولعل مما يؤكد عناية أبو بكر رضي الله عنه بالتربية الجسمية للمسلمين في عصره ولاسيما المجاهدين توافر القوة المادية التي حملت الإسلام إلى الآفاق وحققت أكبر الفتوحات في التاريخ الإسلامي.

ولم يكن اهتمام أبو بكر رضي الله عنه بضرورة حصول جسم المسلم على حقه من الطعام والنظافة والملبس والشهوة يعني أن يطلق الإنسان المسلم لنفسه العنان في المأكل والمشرب والشهوة دون توجيه، وإنما حرص أبو بكر رضي الله عنه سواء على مستوى الأقوال أو على مستوى الممارسة والتطبيقات على إبراز بعض الضوابط الإسلامية الخاصة بتوجيه الإنسان المسلم في غذائه وملبسه وشهوته، ومن هذه الضوابط أن يكون ما يتغذى به الإنسان المسلم حلالًا طيبًا، وألا يفرط في الطعام، وأن يكون إشباعه لشهواته من طريق الحلال، فقد روي أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه رفض أن يبقى في جوفه شيئًا من طعام أكله ثم لم يعلم مصدره أحلال أم حرام؟

ومن مظاهر عناية الصديق رضي الله عنه بالتربية الجسمية الأخذ بقواعد الصحة البدنية وممارسة العادات السليمة في المأكل والمشرب كنظافة الأيدي ونظافة الأواني المستخدمة الطعام وكيفية المحافظة عليه واختيار الثياب الصحية، وبدا ذلك في حياة أبي بكر رضي الله عنه في حادث الهجرة، حيث روي عنه أنه وهو في طريقه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة رأى راعي غنم، فطلب منه أن يجلب له شيئًا من لبن، يقول أبو بكر رضي الله عنه فيما رواه البخاري: «فأمرته- أي راعي الغنم- فاعتقل شاة من الغنم، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا؟ ضرب بإحدى كفيه الأخرى، فحلب كثبة من لبن، قد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله».

ومن مظاهر اهتمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالتربية الجسمية عنايته بالرياضة البدنية وحثه على ممارستها لما لها من أثر في قوة الجسم وقدرته على القيام بوظائفه العبادية والجهادية والمعيشية، ومن ألوان الرياضة البدنية التي مارسها الصديق وحث المسلمين على ممارستها السباق بالأقدام والمسابقة بالخيل والسباحة والمصارعة والرماية، فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يمارس السباق بالأقدام والمسابقة بالخيل، كما كان فارسًا بالشجاعة وثبات القلب، حتى وصف بأنه أشجع الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  • التربية العقلية:

يتبدى اهتمام أبي بكر رضي الله عنه بالعقل فيما أثر عنه من الأدلة التي تبين قدره وأنه أصل المرء ودليله وأغنى ما يملك وخير صاحب له، ومن هذه الأدلة له روي عن عائشة أنها قالت: «ما شرب أبو بكر خمرًا في الجاهلية ولا في الإسلام»، وروي عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشربت الخمر في الجاهلية؟ فقال أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: «كنت أصون نفسي وأحف مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعًا في عرضه ومروءته»، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن يكن لك عقل فلك مروءة».

واستخدم أبي بكر رضي الله عنه في تربية العقل عدة وسائل: منها طلب العلم، وقد سار أبي بكر رضي الله عنه على منهج القرآن العظيم وسنة الرسول الكريم في الدعوة إلى العلم والحث على طلبه، وتبدى ذلك في حرصه على تحصيل العلم وطلبه، وأن من كان يفوته مسألة لم يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن أخاه قد سأله عنها، فقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: تمنيت أن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجينا مما يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال أبو بكر: قد سألته عن ذلك فقال: «ينجيكم من ذلك أن تقولوا ما أمرت به عمي عند الموت أن يقوله فلم يقله». وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الوسائل التي استخدمها أبي بكر رضي الله عنه لتربية العقل ممارسة الاجتهاد، فالاجتهاد جهد عقلي في جميع خطواته وأنواعه لاستنباط أحكام تفصيلية مستوحاة من نصوص القرآن والسنة ومن روح الإسلام وأهدافه لمقابلة وقائع الحياة وأحداثها المتجددة.

  • التربية الأخلاقية:

كان لأبي بكر رضي الله عنه تلميذ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه اهتمام واضح بالأخلاق والتربية الأخلاقية، تبدى هذا الاهتمام في عنايته بتربية الشخصية المسلمة على القيم والفضائل وحسن الخلق وضرورة تطابق النية مع السلوك والقول مع الفعل حتى تكون الشخصية المسلمة شخصية خيرة تحقق السعادة لنفسها ولغيرها.

والقيم والفضائل الأخلاقية التي دعا إليها الصديق هي قيم وفضائل الإسلام التي جاءت في القرآن والسنة، حيث يحث الإنسان المسلم على التحلي بالقيم والفضائل الأخلاقية كالصدق والحياء والعفو والصبر وكظم الغيظ، وتجنب أضداد هذه الفضائل وهي الرذائل كالكذب والفجور والانتقام والتهور، فهو يحذر من الكذب ويحث على الصدق فيقول: «إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان»، ويدعو إلى الحياء فيقول: «استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فأقنع رأسي حياء من الله».

ومن ثم فإن الشخصية المسلمة عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه مطالبة بالالتزام بالأخلاق والقيم الأخلاقية حتى في الأعمال العسكرية أو الحربية، وهذا ما نص عليه أبو بكر حين خاطب جيش أسامة وهو يودعه قائلًا: «قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكله...».

  • التربية السياسية:

يمكن القول بأن التربية السياسية كما بدت في حياة أبي بكر هي: اجتهادات أبي بكر وممارساته فيما يتعلق بإكساب أفراد المجتمع المسلم مبادئ الحياة السياسية سعيًا وراء تثبيت دعائم الدولة الإسلامية في ضوء المقومات الأساسية التي جاءت في القرآن والسنة.

والتربية السياسية كما بدت في حياة أبي بكر تقوم على عدة دعائم أو مقومات أرستها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعزز أبو بكر من نموذجية تطبيقها في فترة خلافته، وهذه الدعائم هي المساواة والعدل والشورى وحقوق المسلم على الحاكم وواجباته.

وقد بدت هذه الدعائم في خطبة الصديق أبي بكر رضي الله عنه التي خطبها عقب توليه الخلافة، والتي هي أول خطبة تبين منهج الحكم الإسلامي، وفي هذه الخطبة- كما أوردها ابن هشام- يقول الصديق بعد أن يحمد لله ويثني عليه: «أما بعد أيها الناس؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

ولعل من المبادئ الهامة التي قامت عليها خلافة أبي بكر مبدأ الشورى، لأنه يعد من أهم مبادئ الحكم أو سياسة الدنيا في الإسلام، وتعلم أبي بكر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالممارسة العلمية أن الأمر شورى بين ولي الأمر والرعية.

وفوق ما أرسته خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من دعائم أساسية للتربية السياسية فإن اجتهاداته وممارساته في مجال الحرية السياسية قد هيأت لعملية التربية والتعليم مناخًا رائعًا من الحرية الفكرية وحققت مزيدًا من النشاط والاجتهاد في مجال العلم والفقه.

ومن الإفادات التربوية للتربية السياسية في حياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه نلمس أهمية تربية الشخصية المسلمة المدركة لحقوقها وواجباتها والملتزمة بها في ممارساتها السياسية، وتوعية الأمة بحقها في معاونة الحاكم إذا أحسن وتقويمه ومحاسبته إذا أساء، وتعزيز حق الأمة في المشاركة السياسية وحرية إبداء الرأي عن طريق الشورى في إدارة الحكم، ولا تتم هذه المشاركة بوعي وفهم إلا إذا أعطيت الرعية حقها في التربية والتعليم.

 

أساليب تربية الشخصية المسلمة عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه

  • التربية بالقدوة

يعتبر أسلوب القدوة أكثر الأساليب حيوية في مجال التربية الإسلامية، ويستمد هذا الأسلوب حيويته من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جعلها الله قدوة دائمة ومتجددة على مر العصور والأجيال، قال تعالى مخاطبًا المسلمين في كل زمان ومكان: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

ومن ثم فقد بدت القدوة كأسلوب تربوي في حياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ثلاث جوانب: الجانب الأول هو اقتداؤه رضي الله عنه بمربيه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، والجانب الثاني إدراك أبي بكر رضي الله عنه لأنه موضع الاقتداء من جانب رعيته مما تطلب منه أن يكون قدوة حسنة للناس، والجانب الثالث انعكاس الاقتداء به رضي الله عنه في حياة الأمة الإسلامية.

وتتعدد الأدلة في حياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه والتي تدل على حسن اقتداءه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعلن في أول خلافته أنه متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرط لاتباع رعيته له، فيقول: «إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني».

  • التربية بالأحداث والممارسة

من الأساليب الهامة التي استخدمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تربية الشخصية المسلمة التربية بالأحداث أو بالممارسة، ويقوم هذا الأسلوب على استغلال أبي بكر لبعض الأحداث في حين وقوعها في تربية المسلمين على المبادئ والتعاليم والسنن الإسلامية، لأن الأحداث تثير في النفس حالة من التهيؤ، الأمر الذي يحقق للمغزى التربوي طريقًا في القلوب وقبولًا في النفس، ويروي في ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه «سجد حين فتح اليمامة» ليعلم المسلمين الشكر في موطنه عند دفع نقمة أو تجدد نعمة.

  • التربية بالترغيب والترهيب

استوحى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسلوب الترغيب والترهيب كأسلوب تربوي من آيات القرآن الكريم، وحث أبو بكر المربين على استخدامه، فقال: «ألم تر أن الله ذكر آية الرخاء عند آية الشدة وآية الشدة عند آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله غير الحق ولا يلقى بيده إلى التهلكة».

وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: «أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله، أن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {... إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ} (الأنبياء: 90).

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم