شهر رمضان، هو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام.
فالرجولة صفة يمتن الله بها على من يشاء من عباده، ونحن اليوم نعاني من انعدام صفة الرجولة في كثير من المسلمين، ولقد وقف الإسلام من الرجولة الحقيقية في الإنسان موقفًا آخر، فهي ليست بالوسامة، أو انفتال السواعد، وانبساط القامة وإنما توصف بمقدار الحزم، واتزان العقل. فهذا رسول الله ﷺ يقول: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (متفق عليه)، فالقوة إذا لم تجد لها عقلًا يسيرها تغلبت على صاحبها، فكانت عليه وبالًا كبيرًا، ومن أجل ذلك يقول الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
إن الرجولة في حقيقتها ليست إلا قلبًا يصفو، ونفسًا تطهر، وضميرًا يستيقظ. ومصدر ذلك كله الصدق، والوفاء، والمحبة، والإخاء، وخشية الله في السر والعلن.. هذه هي الرجولة الحقة التي يعمد رمضان إلى غرسها ورعايتها خلال الشهر وبعده.
فشهر رمضان بما يمتلك من أدوات التربية والصبر والتحمل ينبت في القلوب ثمارًا كتحمل المسئولية، والاعتماد على الذات، وكبت الشهوات، والبعد عن اللامبالاة، وعدم الانسياق وراء النفس في الرغبات، فمن يستطيع أن يلجم نفسه ويجبرها على أداء الطاعات في رمضان، فيقيم الصلوات، ويسارع إلى الخيرات، ويهزم النزوات؛ فقد غرس في نفسه معاني الرجولة التي يفقدها كل إنسان يعتبر شهر رمضان كغيره من الشهور والأيام، فلا يعظمه ولا يسعى لنيل رضا الله فيه.
إن الأمة لأحوج ما تكون إلى الرجال عند الأزمات، فقد تشتد الحاجة لوجود الرجال الحقيقيين الذين تبنى على عواتقهم دعائم الأمم، وشهر رمضان مصنع من المصانع الزاخرة التي تنتج هذه الرجولة الحقيقية في النفوس.
والرجولة التي تتحقق في مدرسة شهر رمضان– والتي حدَّدها القرآن تخالف ما يسبق إلى الأذهان من أفهام– لها شروط وحدود وصفات لا بد أن يقيس كل إنسان نفسه عليها، هل حقق في نفسه هذه المعاني في رمضان أم أنه كان عبدًا لنفسه والشهوات.
ومن صفات الرجولة كما جاءت فى القرآن الكريم وأثقلها الشهر الكريم:
من صفات الرجال في الإسلام صدق العهد مع الله، فإذا عاهدوا الله على أمر التزموا وأوفوا به، قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب:23).
من أهم صفات الرجولة، وهي تعنى عدم السلبية، وعدم الرضا بالخطأ والظلم، وإنما السعي الجاد، العمل والمتواصل المستمر، من أجل التغيير والإصلاح، فما قيمة الحياة حينما لا يسعى الإنسان لنصرة المظلوم أو الوقوف فى وجه الظالم. وهذا ما فعله مؤمن آل فرعون، ومؤمن آل يس، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص:20).
وقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر:28).
فالرجل المؤمن يكون عونًا لهم في هداية الناس ونصيحتهم، وظهرت تلك الصفة جلية في صحابة رسول الله ﷺ الذين وقفوا معه في أصعب مراحل دعوته، وتحملوا الأذى والمشقة والصد في سبيل رفع راية الإسلام، والتمكين لدين الله في الأرض، وقص علينا القرآن الكريم قصة الرجل الذي أتى قومه ينصحهم نصيحةً صادقة، معينًا الرسل والأنبياء في دعوتهم، قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ*اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 20-21) .
{... يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور: 36-37)، ففيه إشعار بِهِمَمِهِم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمَّارًا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه.
ومن صفات الرجال: أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} (الأحزاب:23)
وليست الرجولة في ضخامة الأجسادِ، وبهاء الصورة، يقول عليٌ رضى الله عنه: أمر رسول الله ﷺ ابن مسعود- رضي الله عنه- فصعد على شجرة من الأراك، فأمره أن يأتيه منها بسواك؛ فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من دقة ساقيه، فقال رسول الله ﷺ: «مم تضحكون؟»، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد» (أخرجه أحمد).
وليس ذلك فحسب بل إن المدرسة الرمضانية مليئة بالمناهج التربوية التي تثقل النفس بالصفات الحميدة كالإرادة وضبط النفس، وعلو الهمة، والنخوة والعزة والإباء، والوفاء
إذا الرجولة هي كل المعاني الساميةِ، والتصرفاتِ الطيبة، والأخلاق الرفيعة، وهي تحمُّلٌ للمسئولية ودفاعٌ عن العقيدة، ونصُحٌ لأهلها، وفطنةٌ وكياسة، وحرص على الخير، وحبٌ لأهله من المسلمين، وصمودٌ أمام الملهيات.
فالرجولةُ: إيمانٌ وعملٌ، جهادٌ ودعوة، إخلاصٌ واتباع؛ فها هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه، إيمانُه يزنُ إيمانَ الأمة بل يزيد، وأعمالُه للإسلام لا تُعدُّ ولا تُحصى، حياتُه مليئةٌ بالجهاد مع المصطفى ﷺ، دعوته مِن حسناتها مَن هو من الخلفاء!، سيرته إخلاصٌ وبذلٌ وعطاءٌ، ووفاءٌ لسيد الأنبياء، وهو يدخل من أبواب الجنة أيها شاء، فرضي الله عنه وأرضاه.
فصناعة الذات ما هي إلا ثقةٌ بالله، وطمعٌ فيما عنده، واعتزازٌ بطاعته، وصبرٌ على أقداره، وإحجامٌ عن معصيته عز وجل، وتيقنٌ بنصرته للمؤمنين، ووقت أن تتحقق في جميع الأمة ستلوح رايات النصر ترفرف في الآفاق، معلنة أن رمضان سيظل مدرسة للرجال.
.