Business

الدكتور أحمد عبد الخالق يكتب: تحويل القبلة وتميز الأمة

لقد مر بالمسلمين حدث عظيم بعد الهجرة، كان لهو أثره التربوي والعقائدي في حياة الجماعة المسلمة، ألا وهو حادث تحويل القبلة. ولقد نجح المسلمون في هذا الاختبار الصعب الذي جاء في فترة عصيبة، هي فترة تأسيس دولة جديدة، تواجهها تحديات صعبة من اليهود ساكني المدينة مع الرسول ﷺ ومن المشركين، الذين ينتهزون فرصة للانقضاض على الرسول والمسلمين، كي يستأصلوا شأفتهم، ظنا منهم أن نور الله يمكن أن ينطفئ بجولة منهم مع الحق. }يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:٨)

ولقد كانت هناك حكم عظيمة من وراء تحويل القبلة، سواء كان التحويل إلى المسجد الأقصى، أم كان من الأقصى إلى المسجد الحرام. وقد أراد الله ذلك للمسلمين، حتى يتربى المسلم على ما يحبه الله، لا كما يحبه العبيد. فالجهات والأماكن، لا تكتسب قدسيتها من نفسها، ولكن الله تعالى، هو الذي يكسبها هذه القدسية والمكانة، فالأرض كلها لله والجهات كلها لله، لكن الله تعالى، هو الذي فضل بعضها على بعض، فحيثما وجهك الله تعالى، فأنت في ملكه: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. ونحن نرى ذلك في رغبة الرسول ﷺ في التوجه إلى البيت الحرام، ومع ذلك لم يتلفظ لسانه بما كان يحبه، أدبًا مع ربه، حتى حقق الله تعالى لحبيبه ما كان يحبه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، ومن هذا الحدث، نخرج ببعض هذه الدروس:

١ – موقع القدس والمسجد الأقصى من العقيدة الإسلامية: فالمسجد الأقصى، كان مركز التقاء بين الإسراء والمعراج. أما من حيث الإسراء، فقد كان مسرى رسول الله ﷺ، فإليه انتهى الإسراء، وهذه هي الرحلة الأرضية، ومنه كان المنطلق نحو السماء في رحلة المعراج. إذاً فإليه كان الإسراء ومنه كان المعراج. وإليه توجه الرسول ﷺ والمسلمون في صلواتهم، فترة من الزمن. وفيه صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالأنبياء والمرسلين إمامًا، فكان المسجد الأقصى في التوصيف الشرعي: أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وثاني مسجد وضع بعد المسجد الحرام. فالمسجد الأقصى، جزء أصيل من عقيدتنا، وليس مجرد أرض عربية محتلة، وعلى أهلها تحريرها كما يقولون! ولكنها أرض إسلامية، وبقعة مباركة، ومهبط الوحي على كثير من أنبياء الله ورسله، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: ١)، ولأهميتها ومكانتها، فقد فتحها عمر، وحررها صلاح الدين، والأحرار المرابطون لها اليوم، ينتظرون وعد الله تعالى: «حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله».

2- أنّ جعْل القبلة أولًا إلى المسجد الاقصى ثم تحويلها إلى المسجد الحرام، فيه ربط بين البيت الحرام ومهد الأديان، ليتأكد لنا إسلامية القدس، وأنها ما كانت يومًا ولن تكون إلا إسلامية، حيث إن جميع من سكنها من الأنبياء والمرسلين، كانوا مسلمين، وهذه حكمة عقائدية، يجب على المسلمين أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، وذلك من منطلق الآيات التي نصت على إسلام جميع الأنبياء والمرسلين. ومنها قوله تعالى: }وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ{ (البقرة: ١٣٢)  

٣- لقد كان تحويل القبلة عن الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية أشارت إليها الآية في سورة البقرة، حيث قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ}، فلقد كان العرب، يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومي. ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله، وتجريدها من التعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة، فقد نزعهم نزعًا من الاتجاه إلى البيت الحرام، واختار لهم الاتجاه- فترة- إلى المسجد الأقصى، ليخلص نفوسَهم من رواسب الجاهلية، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول، اتباعًا مجردًا من كل إيحاء آخر، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبيه، اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس، أو القوم، أو الأرض، أو التاريخ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب، أو من بعيد. حتى إذا استسلم المسلمون، واتجهوا إلى القبلة، التي وجههم إليها الرسول ﷺ، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام.

٤ – أنّ في تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهو ما استقر عليه التشريع الإسلامي، تمييزًا لشخصية هذه الأمة الوسط، التي سوف تكون لها الكلمة الفاصلة يوم القيامة، عندما تدلي بشهادتها للأنبياء والرسل، أنهم قد بلغوا رسالة ربهم وأدوا الأمانة، التي ائتمنهم الله عليها، وفي نفس الوقت، سوف يشهدون على الأمم السابقة، أنهم كذبوا أنبياء الله وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وكل ذلك من خلال قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ومن هنا، فإنه على المسلم، أن تكون له شخصية متميزة، شخصية واضحة، تدل على أنه مسلم صاحب عقيدة متميزة، وتصور ومنهاج متميز، وقبلة متميزة لا يشاركه فيها أحد، ولا يزاحمه عليها أحد، ومسلم متميز في شعائره وعباداته، ومتميز في قصده وغاياته، ومتميز في تأسيه واقتدائه، ومتميز في أخلاقه وسلوكه. فالله غايته، والرسول قدوته، والقرآن منهجه ودستوره، والجهاد سبيله، والموت في سبيل دينه وعقيدته ووطنه، أسمى أمانيه ورجائه.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم