Business

تحويل القبلة.. تمحيص للقلوب المؤمنة

الدعوة، كما الحياة، تمر بالعديد من التطورات والأحداث التي تشكل نقاط تحول وعلامات فاصلة في مسيرتها وانطلاقاتها. وكانت مسألة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة إحدى العلامات الفارقة في تاريخ الإسلام والمسلمين.

وفى الدراسة التي أعدّتها الدكتورة أمان محمد قحيف، ترى أن عملية التمحيص هذه كانت ضرورية ومهمة في هذا الوقت بالتحديد؛ لأن الدعوة كانت في أولها، وكان الرسول ﷺ يتأهب لينطلق بها إلى رحاب أفسح وعوالم أوسع، وما كان يتيسر له التوفيق والنجاح إلا إذا كانت قلوب مناصريه راسخة بالإيمان يملؤها اليقين بالله تعالى وبرسوله ﷺ.. من هنا كانت أهمية التمحيص وضرورته.

 

القرآن وتحويل القبلة

تناول القرآن الكريم قضية تحويل القبلة بالتحليل والتفصيل؛ ليرد على اعتراضات المعترضين، وليكشف النقاب عن سذاجة عقولهم وسطحية تفكيرهم، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (البقرة: 142).

ويرى بعض العلماء أن الله تعالى يريد أن يبطل تشكيكات اليهود والمنافقين في قضية تحويل القبلة، فيقول جل جلاله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}، أي إنهم لم يقولوها إلا بعد أن نزلت هذه الآية، لأن حرف السين في كلمة {سيقول} يؤكد هذا المعنى.. ومما يدل على أنهم سفهاء.

 

الكعبة هي الأصل

والحق أن قضية تحويل القبلة مازالت تطرح من قبل بعض المعاصرين من المستشرقين والعلمانيين ومن في قلوبهم زيغ، حيث يذهب بعضهم إلى التساؤل عن الحكمة من تحويل القبلة، ولهؤلاء نقول:

أولًا: إن الأساس في القبلة هو الكعبة المشرفة بدليل قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} (البقرة: 143)، وهذه إشارة من الله تعالى إلى أن الصلاة صوب بيت المقدس كانت لأسباب معينة ولفترة معينة.. فالله عز وجل جعل نبيه ﷺ يصلي صوب بيت المقدس؛ لأن مشركي مكة كانوا يعظمون الكعبة باعتبارها بيت آبائهم وليس باعتبارها بيت الله تعالى.. ولقد صرفه الله تعالى عنها كي لا يظن الكفار والمشركون أنه ﷺ يعظم البيت العتيق ويصلي تجاهه لأنه بيت آبائهم حسب ظنهم.

ثانيًا: كانت الكعبة ممتلئة بالأصنام التي تعبدها القبائل العربية من دون الله، وما كان للنبي أن يستقر على الصلاة صوبها وبها أصنام؛ كي لا يحدث نوع من اللبس في مسألة موقف الدين الحنيف من تلك الأصنام.. لذا صلى النبي ﷺ تجاه الكعبة بعد أن ابتعد عنها وترك مكة إلى المدينة المنورة؛ كي لا يظن أنه يمجد الكعبة بالأصنام الموجودة بها.

ثالثًا: إن اليهود عيروا المسلمين في المدينة بأنهم هم من هدوهم إلى القبلة (بيت المقدس)، فجاء تحويل القبلة ليذهب عن اليهود الإحساس بالفضل على المسلمين.

رابعًا: كان التحول إلى اتجاه الكعبة في الصلاة من جملة نعم الله تعالى على المسلمين، إذ هداهم إلى قبلة أبي الأنبياء، عليه السلام، التي شرفها الله تعالى عندما أشار إليها بقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:142)، فالصلاة صوبها هي تعبير عن الهداية إلى صراط الله المستقيم الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام.

 

سعادة النبي ﷺ بالكعبة

أولًا: أنها قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ورسول الله ﷺ أرسل بالحنيفية السمحة، التي هي ملة إبراهيم عليه السلام.. من هنا يرضيه ويسعده أن يصلي تجاه القبلة التي كان يصلي إليها أبو الأنبياء عليه السلام.

ثانيًا: لا شك أن قلب النبي ﷺ كان متعلقا بمكة المكرمة؛ لأنها أحب بلاد الله إلى الله كما علمنا يوم هجرته، وأن الله وضع البيت المعمور فوقها في السماوات العلى.

ثالثًا: كان رسول الله ﷺ حريصًا على إزالة كل مظاهر الشرك من الكعبة، وكان يرى أن اتخاذ الكعبة قبلة سيعينه على إخلائها تمامًا من الأصنام عندما ينصر الله دينه ويمكن له في الأرض.. والدليل على ذلك أن أول شيء فعله يوم أن دخل مكة هو تطهير الكعبة من الأصنام والأوثان.

رابعًا: أن الرسول ﷺ كان يعلم أن العرب تدين بالولاء والتعظيم للكعبة ويحضرون لزيارتها، واتخاذها قبلة سيتيح الفرصة لنشر الدين الحنيف بين القبائل التي تأتي لزيارتها والطواف بها.

وأشار القرآن الكريم بعد ذلك إلى تمايز الأمة الإسلامية، وخصوصيتا، وتفردها، وأكد أن القبلة لن تتحول بعد ذلك مطلقًا؛ وذلك من خلال قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 145).

وهنا يؤكد القرآن الكريم أن المشككين يتحركون وفق هواهم لا وفق التشريع الإلهي، ومستحيل على النبي أن يتحرك وفق هوى أحد.. وأكد أنهم يعرفون أن محمدًا ﷺ صادق ومرسل من ربه كما يعرفون أبناءهم، بل إن بعضهم ذهب إلى أن معرفته لنبوة محمد ﷺ أكثر يقينًا من معرفته لنسب ابنه إليه، فقد روي أن عمر- رضي الله عنه- قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدًا ﷺ كما تعرف ابنك؟ قال: نعم، وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه».

هكذا نخلص إلى أن تحويل القبلة كان بمنزلة تمحيص للقلوب ليتبين أهل اليقين من أهل النفاق، وكان تزكية لقلب النبي ﷺ الخاشع والمنكسر لله عز وجل، فالنبي سأل ربه بقلبه تغيير القبلة فاستجاب الله تعالى بفضله وكرمه.. فأنعم به من إله حكيم عليم، وأنعم به من رسول صادق مصدوق ﷺ.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم