لقد جاء القرآن الكريم حافلًا ببيان أحوال الإنسان وما يعتري النفس البشرية من تقلبات وجدانية وانفعالية، كما جاءت الآيات بالدعوة إلى تأمل النفس البشرية والتبصر بأحوالها وفهم حقيقتها وإدراك أبعادها، وسبر أغوار النفس البشرية للإنسان في كافة مراحل عمره، لا سيما ما يتعلق بالجانب الوجداني.
ولقد جاء هذا البحث الذي أعدّه الدكتور عبد الله بن محمد السهلي، قسم أصول التربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، لبيان ماهية الوجدان في القرآن الكريم وللوقوف على معالم التربية الوجدانية في سورة الإنسان واستنباط المعاني التربوية الوجدانية من خلال أقوال المفسرين وفهم السلف الصالح.
مبادئ التربية الوجدانية
اشتملت سورة الإنسان على جملة من المبادئ التي تتعلق بالتربية الوجدانية ومن هذه المبادئ:
والعبرة والاعتبار حالة نفسية توصل الإنسان إلى معرفة المغزى والمآل لأمر ما ليصل إلى نتيجة مؤثرة يخشع لها قلبه؛ ليدفعه إلى ممارسة فكرية واجتماعية صحيحة.
والسورة تبدأ بلمسة رقيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئًا مذكورًا؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} (الإنسان:1)، تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة نشأته وأصل تكوينه: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2).
والإشارة إلى السمع والبصر إشارة إلى أهمية استعمال هاتين الحاستين مع العقل في النظر والتفكر والاعتبار.
يقول ابن سعدي: ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها.
وقد بُني هذا المبدأ التربوي الوجداني على ما فطر الله النفس البشرية من الرغبة في اللذة والنعيم وحسن البقاء، والرهبة من الألم والشقاء وسوء المصير.
والترغيب وعد يصحبه التحبيب كمصلحة أو متعة آجلة مؤكدة مقابل الامتثال للأمر والنهي، والترهيب وعيد وتهديد مترتب على عدم الامتثال للأمر، والنهي والترغيب والترهيب مبدأ وجداني قرآني ينضوي تحته أساليب تربوية متعددة، منها: الوعد، والوعيد، وأسلوب الثواب والعقاب، وأسلوب التعلق بالآخرة.
أساليب التربية الوجدانية
تضمنت سورة الإنسان جملة من أساليب التربية الوجدانية، نعرض فيما يلي لأهم هذه الأساليب:
1- أسلوب الوعد والوعيد:
الوعد والوعيد أسلوب يحفز النفس على التفكر في مآلات الأمور، وهو يتوافق مع جبلة النفس البشرية كما أنه أسلوب مقرر حتى في الفلسفات التربوية المعاصرة.
وفي سورة الإنسان ورد الوعيد من خلال تصوير نعيم الجنة وملذاتها ومتعها الباقية، كما ورد الوعيد في أول السورة من عاقبة الكفار بتكبيلهم بالسلاسل والأغلال في سعير جهنم. قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا (11) وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا (12)} وهذا من باب التجانس البليغ: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ} أي: آمنهم مما خافوا منه: {ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أي: في وجوههم: {وسُرُورًا} أي: في قلوبهم. قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس. وقوله: {وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا} أي: بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم: {جَنَّةً وحَرِيرًا} أي: منزلًا رحبًا، وعيشًا رغدًا ولباسًا حسنًا.
2- أسلوب الثواب والعقاب:
جبل الله النفوس وفطر الناس على التعلق بالثواب، والحذر من العقاب، ولذلك فإن لهذا الأسلوب الأثر العظيم في التحفيز على الاستقامة وامتثال الأمر والنهي وهذا إنما يغير في النفس والوجدان، فيظهر في صور انفعالات ومشاعر إيجابية في الثواب وسلبية في العقاب، ثم تترجم هذه الانفعالات والوجدانيات إلى سلوك وعمل وممارسة.
ويحسن بالمربي الاستفادة من أسلوب الثواب والعقاب في تعامله مع طلابه مع مراعاة المرحلة العمرية وحجم العمل المراد تنفيذه.
3- أسلوب التوجيه للتعلق بالآخرة:
إن التربية على التعلق بالآخرة يضبط سلوك المتربي إذ يذكي في نفسه استشعار مسؤولية العمل والجزاء، ولذا جاء الذم صريحًا للكفار لتعلقهم بالدنيا ونسيانهم الآخرة: {إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ ويَذَرُونَ ورَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}.
وقد جاءت الآيات المحكمات في الترغيب للتعلق بالآخرة والزهد في الدنيا، وقد جاء في قوله تعالى: {إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورًا (9) إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)}، ولهذا فإنما توزن الأعمال في الحس الإيماني الوجداني بمآلاتها في الآخرة.
والتعلق بالآخرة لا يعني بحال نسيان الدنيا، قال تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، وقد حفلت هذه السورة العظيمة بالتشويق إلى الآخرة وترتيب عظيم الجزاء على تعلقهم بالآخرة، فقال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا (11) وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا (12)}.
4- أسلوب التنويع في التحفيز:
خلق الله الخلق وجعل نفوسهم مختلفة متباينة في نظرها إلى الأمور، فمنها ما يحفزه العاجل ومنها ما يحفزه الآجل من الخير، وسورة الإنسان حافلة بأنواع من الحوافز الإيمانية في الحث على التعلق بالآخرة وتصوير مباهجها، وقد ورد في صور النعيم المقيم في الجنة في هذه السورة، قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا (11) وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا (13) ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) ويُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) ويُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)}.
.