المحنة في حياة المسلم، أمر دائم، ولازمة له، وبالأخص أصحاب الدعوات؛ لأنها سنة من سنن الله تعالى، وذلك كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ، إلا للمُؤْمنِ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فكانتْ خَيرًا لهُ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ، فكانتْ خَيرًا له». رواهُ مُسْلِمٌ.
وروى الترمذي وصححه، وابن ماجة، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ، فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» صححه الألباني.
فالبلاء في الحديث عام، يشمل كل أنواع البلاء، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، فالابتلاء بالضراء، يشمل: الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات، والاعتقالات والسجون والتعذيب ومصادرة الأموال، والفقر والمرض وترك الأهل والوطن... إلخ. والابتلاء بالسراء، يشمل: الابتلاء بتولي المسؤوليات والمناصب والأموال والصحة والأولاد، والحظوة والقرب من الحاكم، إلى غير ذلك، مما هو محبب إلى النفس. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35). فالابتلاء بالشر والخير فتنة؛ فَمِن الناس مَن يجتازهما وينجح فيهما، وهذا هو المؤمن، الذي أشار إليه الحديث. ومِن الناس مَن يثبت في محنة الابتلاء بالشر، ويسقط في محنة الابتلاء بالخير؛ ومِن الناس مَن يسقط في محنة الابتلاء بالشر، ويثبت في محنة الابتلاء بالخير. لكن الأغلب، هم الذين يثبتون وقت الشدة– الضراء- ويسقطون وقت الرخاء -السراء-، وذلك، لأن الإنسان في وقت الشدة ليس له إلا الله، حيث إن جميع الأبواب، قد أغلقت في وجهه ولم يبق له، إلا باب واحد، وهو باب الرجاء في الله. وكل الحبال قد تقطعت، إلا حبل الله المتين. أما الرخاء، فإن الإنسان غالبًا ينسى الله، حيث إنه يشعر أنه ليس في حاجة شديدة إلى الله تعالى، فأسباب السعادة بين يديه.
وتخيل معي أخي الحبيب إنسانًا معه مال، أو منصب، وأصبح يشعر أنه ليس محتاجًا إلى أحد، بل العكس، يرى الناس محتاجين إليه، عندئذ يقل ذكره لله، ويقل إقباله على الآخرة، ويكثر ذكره للدنيا وإقباله عليها، وهذا يجعله، يتخلى عن مبادئه ودعوته وقيمه، حتى لا يفقد هذه الحظوة وتلك الرفاهية، وكثير من هذا النوع، إما أن يسلك طريقًا معاكسًا، ويصير في صف الباطل، مؤيدًا له وداعيًا إليه، وإما أن يصبح عدوًا لدعوته وجماعته، منتقدًا لها، ومحقرًا إياها: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ موَدَّةٌ} وإما أن يعتزل الجميع، وهذا أقلهم خطرًا.
وأحب أن أشير هنا إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن المحن والشدائد، إنما تفضح أصحاب الدعوات، وتظهر معادنهم، وحجم التربية ومدى استفادتهم منها. ويكون الثبات والسقوط في الابتلاء قوةً وضعفًا، على حسب تربيتهم، وعلى حسب يقينهم ودينهم قوةً وضعفًا وفي هذه الحالة، فسوف يُكشَف أمرُ الذين كانوا يَكثُرون عند الطمع، ويقلون عند الفزع، وفي نفس الوقت، سوف يُظهِر البلاءُ المخلصين، الذين يَكثُرون عند الفزع ويقلون عند الطمع. وهؤلاء هم الذين يعتد بهم ويعتمد عليهم بعد الله تعالى. قال الله عز وجل: {ألم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت:١-3) وقال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ} (العنكبوت: ١١)، ولو تأملنا الصف الدعوي، لوجدنا أعدادًا كثيرة، كانت تأتي لتنضم إلى الصف، عقب كل انتخاب، يفوز الإخوان فيه، وخاصة بعد أن صار للإخوان حزب، ومن بينهم رئيس، والكل يسعى إلى أن يكون عضوًا في الحزب والجماعة، فلقد أقبلت الدنيا راغمة، تتمرغ تحت أقدامهم...، ولكن عندما تغيرت الدنيا وانتكست وأوكست وأوجلت وأوحلت وقَلَبَت لهم ظَهرَ المِجَنّ، ولَّى أكثرهم لا يلوون على شيء. ولَّى الذين كانوا يريدون الدنيا، ولم يبق إلا الذين يريدون الآخرة، قال تعالى: {مِنكُم مَن يُريدُ الدنيا ومِنكُم مَن يُريدُ الآخرةَ} (آل عمران: ١٥٢).
وبناءً على ذلك، فإنه يجب أن يكون تكليف الأفراد على حسب مرتبتهم في التربية، فلا يسند تكليف لأحد، إلا إذا كان مناسبًا له وإلا فإن ذلك يعتبر تكليفًا بما لا يطاق، وهذا مما يتعارض مع الشرع القائل: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦)، الأمر الثاني: أن هذه المسئولية، التي أسندت إلى غير الكفء، لا يمكن أن تُؤَدى كما ينبغي، وهذا مما يحدث ضعفًا في الصف، تُؤتَى الجماعة من قِبَلِه. والأمر الثالث: أن هذا الفرد، الذي كلفته بمسئولية أكبر من إمكاناته وقدراته، تكون قد ظلمته، حيث إنه يظل متطلعًا إلى القيادة، فإذا ما تم عزله من أي مسئولية، فإنه لن يصلح أن يكون جنديًا، ولن يعمل تحت إمرة أحد، لأنه قفز إلى القيادة قبل أن يتعلم الجندية فلم يتربَّ كما ينبغي، وهذا من البلاء، الذي أصابنا في السنوات الأخير قبل الانقلاب، ومن هذه النماذج، تكليف بعض الأفراد، مجاملة له، أو لكونه كثير الحركة وحلو الكلام وفصيح اللسان، مع قلة حظه من التربية، فإن ذلك من البلاء، الذي يُضعِف صفّ الجماعة، ويَظهَر أثر ذلك وقت الشدة، وحينها لا تجد الكوادر التي كنت تعول عليها ووضعت ثقتك فيها، وهذا الواقع الذي نعيشه، وهذا الأسلوب إن استمر فإنه كفيل– لا قدر الله- بانهيار الجماعة، وذلك لقول الرسول ﷺ: «إذا وُسد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة»، وفي السيرة النبوية أمثلة كثيرة، سوف يكون لها وقت آخر، إن شاء الله.
وإذا كان التكليف، فلا بد أن يكون بما يطاق، ومناسبًا لمستوى الفرد تربويًا، فإن محاسبة الأفراد، يجب أن تكون أيضًا على حسب مستواهم التربوي قوة وضعفًا؛ فمن كانت له قَدَم راسخة في الدعوة، وقِدم فيها، فسوف يكون حسابه أشد، ومن كان حظه من التربية قليلًا، فسوف يتعامل معه بالرفق واللين، فإذا اختل هذا الميزان، فسوف تفقد الفريقين معًا. وهذا المبدأ قد تعلمناه من القرآن الكريم، حين تعامل مع المخلفين في غزوة تبوك، وكان منهم المؤمنون والمنافقون، فكان تعامله مع المنافقين، تعاملًا لينًا فهم لم يؤمنوا، وهذا هو حجمهم في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب عظيم، أما الثلاثة المؤمنون فلقد كان حسابهم قاسيًا في الدنيا، لأنهم قد تربوا على الإيمان والصدق. ولك أن تلحظ هذا من خلال القرآن القائل: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: ١١٨)، فلما ثَبُتوا وتحملوا هذا العقاب الدنيوي الشديد، نتيجة لقوة إيمانهم، استحقوا قَبُولَ الله لتوبتهم: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}، وهكذا يجب أن يكون موقف المربي مع مَن يربيهم، حتى تؤتي التربية أكلها ونجني ثمارها بإذن الله تعالى.
وموعدنا مع مقال في موعد قادم إن شاء الله تعالى، إن كان لنا من العمر بقية وأذن الله لنا بذلك. وإلى أن نلتقي، أستودعكم الله، الذي لا تضيع ودائعه.
.