إن للرحلات في الإسلام شأن عظيم وفوائد جليلة، وقد أخبر القرآن الكريم عن كثير من الأنبياء والصالحين الذين ارتحلوا في حياتهم، متعرضًا لأغراضهم السامية ونتائجها الخيرة المفيدة، كما أنه تعرض لبعض الفرائض والأحكام، وجعل الرحلة وسيلة من وسائل تحقيقها، مثل رحلة الحج، أو الدفاع عن حياض الأمة، أو الدعوة إلى الله تعالى، أو السعي للكسب والمعاش، أو لطلب العلم، أو التدبر والتفكر في ملكوت الله.
وقد دعمت التربية الإسلامية الرحلات، وبينت الغرض منها، والفائدة المتحققة من السعي لها وإنجاحها، فلم يكن الاهتمام بالرحلات الميدانية وليد العصر الحاضر، بل كانت منهجًا تربويًا قويمًا منذ القدم، وقد ركز الدكتور محمد مطلق الشمري، أستاذ التربية بجامعة أم القرى، على إبراز الأغراض التربوية والتعليمية للرحلات الميدانية التي جاءت التربية الإسلامية حاثة عليها ومحفزة لها.
تحفيز التربية الإسلامية للرحلات الميدانية
حفزت التربية الإسلامية على خوض غمار الرحلات الميدانية؛ وذلك لما لها من فوائد متعددة وغايات سامية. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
يقول الشوكاني في تفسير قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ﴾: «حثًا لهم على السفر؛ ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا». وذلك بعد أن قال: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ [الحج:45]. ففيه حث على الرحلة الميدانية.
ومن الآيات الكريمة الحاثة على الرحلات الميدانية أيضًا قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112].
وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على ممارسة الرحلات الميدانية المنوعة، وبين شيئًا من فوائدها، بل وقد طبق عليه الصلاة والسلام ما ينادي به تطبيقًا عمليًا جليًا ظهر في عدد كبير من الرحلات الميدانية التي قام بها صلى الله عليه وسلم في حياته.
الغايات التربوية والتعليمية للرحلات الميدانية
أولًا: التدبر والتفكر في ملكوت الله تعالى الواسع
قال عزَّ وجل: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم وَمَا خَلْفَهُم مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأ نَخْسِف بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِط عَلَيْهِم كِسَفًا مِنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لِكُلِّ عَبدٍ مُّنِيب﴾ [سبأ:9].
ثانيًا: مشاهدة الأماكن والمواضع على الطبيعة
ومن الأغراض التربوية والتعليمية للرحلات الميدانية الوقوف على الظواهر ودراستها في أماكنها، يقول سعادة: «فالرحلات والسياحة هي من أهم وسائل الدراسة على الطبيعة، فلا شك تتيح للفرد فرص الاحتكاك المباشر بالأشخاص والأشياء في موضعها الطبيعي الواقعي، وتوضح المفاهيم والأفكار والظاهرات والعلاقات بدرجة أكبر من الاعتماد على الكلمة المطبوعة أو المنطوقة».
ثالثًا: العبرة والاتعاظ بالرحلة للأماكن والآثار
ومن الأغراض التي تحققها الرحلة الميدانية الوقوف على الأماكن والآثار، والارتحال إليها؛ لأخذ العظة والعبرة من حال ساكنيها، أو لتذكر حال السلف الصالح وما لهم من مآثر، أو لأخذ الدروس التربوية من المشاهد والتأثر بحالها.
من أهداف الرحلات الميدانية
1- الرحلات الميدانية للاعتبار بديار الأمم السابقة
حثت التربية الإسلامية على الانطلاق في رحلات ميدانية تدبرية للتأمل في مصير الأُمم السابقة، وما آل إليه حالها بعد قوتها وتمكنها. فقال جل جلاله: ﴿فَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [ آل عمران: 137].
2- الرحلات الميدانية للاعتبار بمعالم السيرة النبوية المطهرة
إن مواضع السيرة النبوية المطهرة التي وردت في كتب السير والمغازي لها أثر كبير في نفوس المتدبرين والمتأملين والمتعظين. فالوقوف عليها بقلب متدبر متعظ متأمل يقود المسلم لاستشعار ما كان عليه السلف الصالح من بطولات وتضحيات، ويعيد قراءة السيرة والمغازي على الطبيعة الواقعية، فتتثبت العديد من المفاهيم، وتتحقق العديد من المقاصد التربوية التعليمية الإيمانية الجليلة.
3- الرحلات الميدانية للاعتبار بمقابر الموتى
إن الرحلات الميدانية لمقابر الأموات تذكر الإنسان بالآخرة إن اتعظ واعتبر بحال الموتى، وما ستؤول إليه كل نفس في هذه الدنيا. وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم الرحلات الميدانية للقبور تطبيقًا عمليًا، وزاروا القبور واتعظوا بحال أصحابها.
4- الرحلات الميدانية للاعتبار بزيارة المتاحف وأماكن حفظ التراث
فالرحلات الميدانية إلى المتاحف وأماكن حفظ التراث تؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ بحال أصحابها، إن صاحبها قلب واعي، وتقود للتفكر بحال الأمم، والاطلاع على أفكار ومعتقدات وتراث الآخرين.
رابعًا: الرحلات الميدانية لطلب العلم وزيارة العلماء
ومن الأغراض التربوية التعليمية للرحلة أنها تساعد في الوصول للعلم والعلماء في أماكنهم المتفرقة، فليست الرحلة الميدانية خاصة بمظاهر الطبيعة، أو آثار التاريخ، بل قد تكون للمكان الذي يوجد به العلم والعلماء.
خامسًا: الرحلات الميدانية بهدف الدعوة إلى الله
كما فعل كثير من الصحابة بعد وفاة الرسول ﷺ، إذ انتشروا في الأرض وسافروا الى أماكن عدة وكانوا سببًا في انتشار الإسلام.
سادسًا: الرحلة لأسباب اقتصادية
ولعل من أشهر الرحلات رحلتي الشتاء والصيف الذين ذكرهما القرآن في سورة قريش ، يقول الله تعالى: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (قريش: 1-2).
.