من أعظم نعم الله على الإنسان في هذه الحياة نعمة الأولاد، فهم هبة ربانية، يختص الله بها من يشـاء من عباده ولو كان فقيرًا، ويمنعها عمن يشاء من خلقه ولو كان غنيًا، قال تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} (الشورى: 49- 50).
فالأولاد زينة الحياة الدنيا، وهم زهرتها، يخففون عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يضفون عليهن البهجة والسرور، تسر الفؤاد مشاهدتهم، وتقر العين رؤيتهم، وتبتهج النفس بمحادثتهم، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 49).
هكذا جعل الله سبحانه الأولاد، إلا أن ما يجري في بلد الأزهر وما تقوم به السلطة بكل طاقتها من محاولة ترهيب الناس للكف عن الإنجاب بحجة أن سبب تأخر البلاد هو زيادة الأعداد السكانية، وأنهم سيتخذون الإجراءات لوقف هذا النزيف في الإنجاب، عن رفع الدعم عن المولود الثالث تارة، ومعاقبة من ينجب تارة أخرى، وغيرها من الإجراءات التي تُعلن ويؤيدها فيها بعض المشايخ، ومنها ما جاء على لسان المفتي أن وسائل منع الحمل كانت منتشرة في عهد الصحابة، وقد تناسوا قول الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات: 22)، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (الإسراء: 31).
فإلى الذين يحاربون هذا الشرع ويسعون لتقليل النشء المسلم قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 204).
لقد كان الإمام حسن البنا شديد الحرص على التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في التطبيق العملي للمنهج الذي غرسه في نفوس إخوانه، ولذا واجه مثل هذه الدعوات الشاذة التي نادى بها البعض.
الإخوان وقضية تحديد النسل
جاء الإسلام نظامًا كاملًا يشمل كليات الشئون الإنسانية عملية وروحية، ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا، ورسالة الله على يد نبيه محمد r إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، والإسلام دين فطري، لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه، بل يواجه حقائق الأشياء ويحترم الواقع ويطوعه، ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوة تنفيذية تشريعٌ عاطل مهما كان عادلًا رحيمًا، لا يظفر من النفوس إلا بدرجة من الإعجاب لا تدفعها إلى اتباعه والنزول على حكمه، فلا بد إذن من قوة تحمي التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التي لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.
لم تكن قضية تحديد النسل من القضايا الحديثة التي طرقتها السلطة أو رجالاتها، لكنها يبدوا أنها قضية متلازمة مع رجالات السلطة في العصر الحديث– خاصة بعدما مُنيت الأمة بالاستعمار– والذي كان يخشى الزيادة العددية فتتحول لمحاربته، ولهذا أوعز إلى رجالاته في السلطة والإعلام بمناهضتها كغيرها من القضايا التي شغلوا الأمة بها، والتي اهتم بها الإخوان من منطلق إصلاح الأمة وفق ما جاء في الكتاب والسنة.
وفي كلمة أمام الجمعية الطبية تكلم الأستاذ حسن البنا بكلمة تحت عنوان (خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها) وضح فيها أن الإسلام شرع الجهاد، وفرض على بنيه جندية عامة، غايتها مناصرة الحق أينما كان، والذود عنه حيثما وُجد، بدون ظلم أو إرهاق.
وليست القوة عيبًا في ذاتها ولا عارًا على أهلها، وليس الاستعداد للطوارئ إلا صفة من صفات الكمال، وإنما العيب أن تستخدم القوة في تثبيت الظلم.
وإذا كانت هذه هي فكرة الإسلام ورسالته، وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين، وكانت القاعدة الأصولية أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، كان لنا أن نستخلص من هذا نتيجة منطقية طبيعية هي: أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل ويحض عليه، ويدعو إليه، وبالعكس، لا يرى التحديد والضبط، وتطبيقًا على ذلك، فقد قال رسول الله ﷺ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» (رواه أبو داود والنسائي والحاكم).
وتكلم حول ما جاء عن الأئمة في هذا الأمر، وحول حكم العزل الذي كان يقوم به الصحابة في بعض الأحيان، كما ذكر الأحكام التي وردت في أخذ موانع الحمل مثل ما نقل في شرح الإحياء عن العماد بن يونس والعز بن عبد السلام- وهما من أئمة الشافعية- أن يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل، قال ابن يونس: ولو رضى به الزوج([1]).
وتساءل لمن يسعى لتقليل النسل ماذا لو مات الأولاد، وقلّ النسل وحدثت فجوة بين الأجيال بسبب استخدام موانع الحمل، كيف نعوض هذا النقص.
ثم قال: ولهذا نحن في الواقع نخشى إن استمر بنا هذا الحال أن نجد أنفسنا في المستقبل أمام مشكلة، هي كيف نكثر من النسل لخدمة الوطن الذى تحتاج إلى كثرته البلاد، ولا يصح أن تحمل عليها الأمة([2]).
ولقد أكد على هذا المعنى في رسالة نحو النور بقوله: يجب تشجيع الزواج والنسل بكل الوسائل المؤدية إلى ذلك, ووضع تشريع يحمى الأسرة ويحض عليها ويحل مشكلة الزواج.
ثم قال في رسالة المنهج: علاج مشكلة المرأة بتشجيع الزواج، ونشر التعليم الإسلامي الخلقي بين الفتيات جميعًا، مع تعديل المناهج بحيث تؤدى إلى هذه الغاية، وتحريم التبرج والاختلاط والأعمال الخارجية على الفتيات، وإفهام الأزواج والزوجات معنى الزوجية الصحيحة، وتشجيع النسل وإعالته، وتحريم البغاء العلني والسرى.
تصدى الإخوان لمروجي هذا الأمر والمطالبين به، فنشرت جريدة الإخوان المسلمين مقالًا بعنوان( فليسمع من يعيبون تشريع الإسلام..! هل تلجأ أوروبا إلى تعدد الزوجات استزادة من النسل؟) جاء فيه: «توجه مختلف الأمم جهودها دائمًا إلى المحافظة على اطّراد الزيادة في عدد المواليد، وقد كان من جراء الانصراف عن كثرة النسل والالتجاء إلى العقاقير ونحوها لمنع الحبل، كان من جراء شيوع هذه الظاهرة في العصر الحديث أن فطن رجال الحكم في أوروبا وخاصة في إيطاليا وألمانيا إلى ما ينطوي عليه ذلك من خطر، وأخذوا يسنون القوانين ويضعون التشريعات ويبثون الدعايات لغرض واحد هو تشجيع الزواج والتناسل.
وقد تبين من الإحصائيات التي أذيعت عن نسبة المواليد في اسكتلندا في سنة 1933م، أن هذه النسبة قد هوت إلى قرار لم يسبق أن هوت إليه من قبل، فلما عقدت جمعية الإحصاء في اسكتلندا اجتماعها السنوي في دندي منذ أيام، وقف مستر فيليب رئيسها- الذي انتهت مدة رياسته هذا العام- وألقى خطابًا ضافيًا تناول فيه بالتحليل الأسباب التي يمكن أن يرجع إليها الهبوط في نسبة المواليد إلى هذا الحد الذي لم يسبق له مثيل، ولما كان علاج مثل هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة مما لا يقتصر على أمة دون أخرى رأينا أن نورد بعض الأسباب التي ذكرها مستر فيليب في تعليل هبوط نسبة المواليد.
كان أول ما لاحظ مستر فيليب هذا أن الفتاة التي تتزوج في سن السابعة عشرة يمكن أن تصبح أمًا لما لا يقل عن عشرة أطفال، وكلما تقدمت سن الفتاة عند زواجها قلت هذه النسبة قلة مطردة، ومن هذا يتبين أن الزواج الباكر من أهم العوامل في زيادة النسل، بينما يجر الزواج في سن متقدمة إلى ما يلاحظ من هبوط شديد في نسبة المواليد([3]).
وكتب الشيخ محمود علي أحمد إمام وخطيب المسجد الرفاعي بالقلعة مقالًا بعنوان: (تحديد النسل– الإجهاض- منع الحمل) ذكر فيه حض الشرع على الإنجاب ثم قال: «ولكن الإنسان يعاند ربه ويحاربه.. فيبحث عن أدوية تمنع الحمل قبل وجوده»، ثم أردف قائلًا: «وشاعت في الناس فكرة خبيثة وغرض قبيح مرذول ألا وهو تحديد النسل ومنع الحمل وتقليل الذرية والأولاد بكل الطرق البلدية والطبية والسحرية، ثم فند أسباب منع الحمل المنتشرة في المجتمع والتي أثارها أعداء التوجه الإسلامي وعلى رأسها خوف الفقر، فأكد أن منع الحمل والإجهاض حرام شرعًا لأنه قتل للنفس بغير ذنب..»، وذكر في ختام المقال أنه: «في بلاد الغرب الآن دعوة لإباحة تعدد الزوجات كشريعة الإسلام ليكثروا النسل وتعظم الأمة بكثرة أفرادها وتزيد قوة الأيدي العاملة، وفي مصر وبلاد الإسلام دعوة لتحريم تعدد الزوجات ودعوة لتحديد النسل، وفي ذلك ضعف الأمة وفناؤها، وهذه الدعوات تحريض على الزنا وتشجيع على الجرائم واستهتار بالأنفس والأرواح، وهي دعوة ضد الدين والعقل والوطن والأخلاق»([4]).
لقد اهتم الإخوان بشئون المرأة لأنهم هي المحرك الأساسي لهذا الكون، فقد كتب محمد حلمي نور الدين يقول: «علِّموها الحب الصادق الطاهر العفيف فلا تحب إلا أولادها، ولا تخلص إلا لزوجها، علِّموها كيف تعتز بشعارها وتفضل منتجات بلادها، علموها كيف تلقن البنين حب الوطن والتضحية من أجله، علموها كيف تحنو على الفقير وترأف بالمسكين وتواسي المنكوب، علموها كيف تحملنا معشر الرجال على السعي والنشاط والجد والدأب، علموها كيف تحافظ على كرامتها وتصون عفتها وترعى سمعتها، علموها كيف تكون محجبة في الصون بعيدة عن أكف اللامسين ونظرات الناظرين وهزء الساخرين، أكدوا لها أن يدها التي تهز بها سرير الطفل تستطيع بها أن تهز العالم هزًا. وأخيرًا وقبل كل شيء علموها الخوف من الله ومراقبته في السر والعلن، وعلموها أمر دينها وأمروها بالصلاة وقصوا عليها من سير السلف ونسائهم، وكونوا عليها أشداء في الحق ذوي غيرة، على قدم عمر رضي الله عنه فإنه كان إذا نهى الناس عن شيء دخل على أسرته فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، ولئن خفتم خافوا، والله لا أعلم أن أحدكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت عليه العقوبة، فمن شاء منكم فليتقدم ومن شاء فليتأخر»([5]).
لقد أدرك الإخوان أن قوة البلاد في قوة شبابها وعددها ولذا طالبوا بتجريم المطالبين بتحديد النسل على عدد قليل، إلا أنهم حصروا التحديد في مواضع معينة وبشروط تتوافق مع شريعة الله، سواء من مرض أو وقوع ضرر على الأم أو الأسرة، أو غيرها من الضرورات التي ربما تجلب ضررًا أكثر من منفعته.
غير أن علماء السلطان كما أَخْوَنُوا كل القضايا الإسلامية وحصروا الإسلام في الإخوان، حاولوا أن يُوهِموا الشعب أن سبب رفض تحديد النسل هم الإخوان، ولا يوجد في الإسلام ما يمنعه مثله مثل الحجاب الذي لم يرد في شرائع الإسلام، لكنه عادات متوارثة– حسب زعمهم.
وفي ذلك نجد سعد الدين الهلالي– يصرح في برنامج على قناة صدى البلد بأن خطب الجمعة لدى الإخوان والسلفيين كانت تدعو إلى زيادة الإنجاب استنادًا إلى أحاديث ضعيفة، يتم تكراره كثيرًا على المنابر وهو: «تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»، على الرغم أن الحديث ورد في صحيح الإمام أحمد في المسند، وأبي داود في السنن، والنسائي والحاكم بلفظ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم»، ومنها الأحاديث: «سوداء ولود خير من حسناء عقيم» (رواه الشيخان البخاري ومسلم).
الغريب أن هذه النغمة لا تنتشر إلا وسط المجتمعات المسلمة، في حين كان للبابا يوحنا بولس الثاني دور بارز في صياغة المنشور البابوي للتعليم الاجتماعي الخاص بحظر الإجهاض ووسائل الحمل الاصطناعية وكذلك وسائل تحديد النسل([6]).
المصادر
([1]) طرح التثريب، (7/205). [المكتبة الشاملة- الإصدار الثانى].
([2]) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (2)، السنة الخامسة، 18ربيع الأول 1356ﻫ/ 28مايو 1937م، صـ1، 13.
([3]) جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثانية – العدد 4 – 10صفر 1353هـ / 25مايو 1934م.
([4]) المرجع السابق: السنة الثالثة – العدد 33 – 29شعبان 1354هـ / 26نوفمبر 1935م.
([5]) جريدة الإخوان المسلمين: السنة الرابعة – العدد 11 – 4ربيع الثاني 1355هـ / 23يونيو 1936م.
([6]) Pope John Paul II 1920~2005: CNN، http://cutt.us/yKCpi
.