Business

ريادة الإسلام في مجال التربية الجمالية

إن الجمال الذي نتحدث عنه في هذا السياق هو الجمال التربوي، الذي يمكن صناعته وإيجاده والسعي إليه. وبتعبير أدق، نستطيع القول إن الجمال المقصود هنا هو ما يمكن التعبير عنه بالتجمل، الذي يفيد طلب الجمال والسعي من أجله، إذ مهمة التربية أن توجه إليه وترغب فيه، وبالتالي يسعى الفرد في سبيل تحقيقه. وقد نعبر عنه بالزينة أو التزين، ذلك المفهوم الذي يعني الاهتمام بالإنسان في سلوكه ومحيطه الخاص.

وفى هذه الدراسة التي أعدها الدكتور صهيب مصباح، يرى أن الظاهرة الجمالية في هذا الدين بناء متكامل، يشد بعضه بعضًا في تناسق وتنظيم بديع، إنها ليست فلسفة فردية استحسنها الآخرون فأصبحت مذهبًا، إنها كيان قائم في ذاتية هذا الدين، تدخل في لحمته وعمقه؛ ليظهر أثرها من خلال اللون والشكل، ومن خلال التناسق والتنظيم ومن خلال المواءمة والتعاون، فكل ما يرغب فيه هذا الدين أو يأمر به يوصل إلى جمال ظاهري أو باطني، إذا سلم المنهج في الأخذ، وانسجم البُعد السميائي الجمالي مع البعد الوظيفي الوقائي، من غير تفريط ولا إفراط.

 

قيمة الجَمال والتربية الجمالية في الإسلام

لم يهتم دين من الأديان بأمر الجمال كاهتمام الدين الإسلامي به، فهناك مذاهب واديان وفلسفات لم تعر هذا الأمر أي اهتمام، وبعضها وقف في الطرف الآخر فاعتبر القبح فضيلة، واعتبر النظافة خروجًا عن أوامر الدين.

أما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي جعل من قضية الجمال موضوعًا جديرًا بالاهتمام، مؤطرًا إياه ضمن مواضيع الدين، فقرر له مكانته، وجعله ضمن الواجبات التي ينبغي على المسلم السعي من أجل تحقيقها، بل إن القرآن الكريم وقف موقفًا صريحًا ضد الحاملين على قضية الجمال الإنساني، فأضاف الحق- سبحانه وتعالى- الزينة لنفسه إضافة تشريف وتكريم، وفتح للإنسان مجالًا واسعًا من مجالات بناء ذاته، فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32). والناظر إلى هذه الآية الجليلة يهتدي إلى أنها تقرر مبدأ عامًا في المنهج الإسلامي، مفاده أن التجمل أمر يطلبه المنهج؛ لكونه من الفضائل المقصودة.

 

الجمال بين الحل والتحريم

ولم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد بخصوص موضوع الجمال، بل تذهب الآية الكريمة إلى مدى أبعد من ذلك، لتجعل من الجمال والقبح، أو الطيب والخبث عللًا للتحريم أو التحليل، فيصبح الجمال بهذا دليلًا على التحليل، والخبث دليلًا على التحريم، ومعينًا على تمييز الخبيث من الطيب، والغث من السمين، وما الخبيث في ميدان الأطعمة إلا القبيح والسيئ، وما الطيب إلا الجميل.

ويتأكد هذا المعنى فيما بثه الله تعالى في القرآن الكريم من ومضات جمالية دلت عليها إشارات بيانية لآيات القرآن الكريم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ} (المائدة: 90). وقال أيضًا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145).

إن كلمة رجس في الآيتين العظيمتين، تشير بوضوح إلى علة التحريم، والرجس: هو القذر والنجس والقبيح، وبذلك يكون هو الوجه المقابل للجمال.

إنه تدريب وتربية للمسلم من خلال النص القرآني، أن يستعين بالمقياس الجمالي في إتيان الأشياء أو الابتعاد عنها، ألم يطلب القرآن الكريم من المسلم ألا يرفع صوته بغير ضرورة؟ فكان التعليل لذلك بالقبح، فقال تعالى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 19).

 

المعيار الجمالي

لقد أدى انعدام ضوابط القياس الجمالي وانحرافها في عالم الفن إلى فساد عظيم في مفهوم الجمال، حتى أصبح القبح جمالًا أو كاد، كما هو ملاحظ في إنتاجات بعض المدارس الفنية، حيث وصل بها الفساد في الذوق الجمالي إلى فقدان التمييز بين الألوان الإبداعية في عالم الذوق الجمالي الهادف.

إن الفطرة السليمة يمكن أن تكون حَكَمًا في هذه القضية، وقد أتاح لها الإسلام أن تأخذ دورها الكبير في تحديد استقامة هذا الحس. بيد أنه لما كان انحرافها متوقعًا، نتيجة للعوامل الكثيرة التي تحيط بها، فقد وضع المنهج الإسلامي قواعد عامة يرجع إليها في الحالات التي يشتبه بها، أو في الحالات التي يفسد فيها الذوق ويتبلد الحس.

وفي ميدان التربية الجمالية يحدد لنا المنهج المقاييس العامة لتصرفاتنا الجمالية، وقد لخص ابن قيم الجوزية- رحمه الله- الخطوط العامة للمنهج في هذا الميدان، فجعل الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يُحمد، ومنه ما يُذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.

فالمحمود منه ما كان لله، وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي ﷺ يتجمل للوفود، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه.

والمذموم منه، ما كان للدنيا والرياسة، والفخر والخيلاء، والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية المرء وأقصى مطلبه، فإن كثيرًا من النفوس ليس لها هم إلا ذلك. وأما ما لا يحمد ولا يذم، فهو ما خلا من هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين.

من خلال هذا يتبين أن الحكم الجمالي يعتمد على عدد من العوامل، في مقدمتها أن يكون مسايرًا للخط العام للمنهج، ومنها ما هو مرتبط بالوضع النفسي للإنسان، ومنها ما هو مرتبط بالحال والمناسبة اللتين يجري فيهما الحكم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم