أبو العربي مصطفى يكتب: كيف ترك مهدي عاكف مدرسة تربوية؟

طريقَ الدعوة واحدٌ لا يحتمل الشركة، ولذلك فإنَّ الدعواتِ لا تنجحُ ما لم يتجردْ لها المؤمنون بها التجردَ الذي يتمُّ به التخلُّص للفكرة مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ بحيث تملك الدعوةُ عليهم عقولَهم ومشاعرَهم، فلا شيءَ يعين الداعية على المحن في طريقه الشاق مثلَ التجردِ لله والإخلاصِ له: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162،163).

وفي مثل هذا اليوم 22 سبتمبر من عام 2017، رحل الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين.

مهدي عاكف الذي كان قد شارف على التسعين عامًا، وبالرغم من ذلك ظل نموذجًا للتربية العملية التي تربى عليها خلال مسيرته الحياتية، ومع ذلك مات جلادوه، وظل عاكف يكمل مسيرة العمل في دعوته ووسط الناس والشباب.

لقد تفرد مهدي عاكف عن أقران جيله بأنه ظل عاملًا مجاهدًا متفاعلًا جنديًا، وقائدًا ونموذجًا للثبات أمام المحن التي لم تحص ولا تعد في مسيرة حياته، حيث خلف مواقف من عظمة شخصيته، ستظل الأجيال تتحاكى بها، بل وتسجلها في صفحات التاريخ بمداد من ذهب، لأنه- نحسبه ولا نزكي على الله أحدًا- كان واحدًا من الذين قضوا نحبهم وحب دعوته يتملك كيانه.

 

الشهيد الحي

ضرب مهدي عاكف النموذج الحي والعملي للثبات على المواقف، فبعدما ساءت العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر، حتى تم اعتقال عاكف وتم تعذيبه بصورة وحشية جعلته يذكر أن الذي كان يُطعمه خلسة أحد اليهود المحبوسين لما رأى من شدة التعذيب عليه، ومع ذلك ورغم اعتقاله قبل حادث المنشية عام 1954م بشهور إلا أن عبد الناصر زج به في المحاكمات والتي حكمت عليه بالإعدام شنقًا، حيث يصف موقف الإعدام بقوله: «ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن بها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي حتى المناديل، ولم يكن مسموحًا لنا بشيء، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل- رحمة الله عليهم-، وكنت أنا السابع، وجاءني مدير البوليس الحربي، وكان اسمه أحمد أنور، فحدثته بشدة، وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير بالإضافة إلى أنني سأُعدم فلماذا أخاف! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك».

وبهذه الروح عاش عاكف، وظل ثابتًا على دعوته يعمل لها وقد مات كل هؤلاء، حتى في أواخر حياته ظل ثابتًا حتى توفاه الله في السجون، لم يَلِن ولم يطلب من أحد العفو.

 

كان جنديًا لدعوته

ضرب عاكف المثل العالي في الجندية حينما اختار عن طيب خاطر أن تكون فترة ولايته كمرشد فترة واحدة، ويترك المجال لجيل آخر يحمل ويقود مسيرة هذه الدعوة.

لم يركن عاكف لكبر سنة أو للأمراض التي حلت به، لكن قال كلمته التي دونها التاريخ حينما تم اختيار مرشد جديد، وأثناء تسليمه راية القيادة للمرشد الجديد قال له -كما جاء في مذكراته-: «كنت أول من نادى الدكتور محمد بديع بفضيلة المرشد العام، وأثناء خروجي من المكتب ناديته، وقلت: يا فضيلة المرشد.. أنا رهن إشارتك في وقت تحتاجني الدعوة فيه».

ليس من السهولة على النفس أن تلزم نفسها رهن القيادة الجديدة إلا النماذج التي تجردت لله رب العالمين.

 

الجهاد سبيلنا

لم يترجم مهدي عاكف شعار (والجهاد سبيلنا) ترجمة قوليه أو إعلامية، لكنه حققها في نفسه ترجمة فعلية، فكان مجاهدًا في ساحات الوغى، يذود عن وطنه ضد المحتلين، فقد وكل له مهمة جمع السلاح من الصحراء الغربية وصحاري مصر أثناء حرب فلسطين، والدفع بها للهيئة العليا للدفاع عن فلسطين، حيث كانوا يزودون بها متطوعي الإخوان هناك.

حمل راية الجهاد على عاتقه وسط جامعة القائد إبراهيم (عين شمس حاليًا)، وجمع الطلاب وفي ساحة الجامعة– وبعد استئذان رؤسائها – افتتح معسكر لتدريب المجاهدين في حرب القنال عام 1951م وكانت له صولات وجولات وسط جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وخرج الكثير من المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا على أرض المعركة ومنهم من استشهد في سبيل وطنه.

لقد سعى مهدي عاكف على درب نبيه ﷺ، لا يعبأ بالحياة ومتعها، إذ كانت الآخرة نصب عينه، فقال: «من أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقًا على أحد.. ولا ينقص من أقدارنا أن يهاجمنا بعض الناس، ويتهموننا بالباطل، ولكن الذي ينقص من أقدارنا هو أن نخطئ نحن».

رحل مهدي عاكف ولم يشيعه أحد، ولم يقف على قبره أحد، مات وقد دفن في جوف الليل، بعدما رسم بمواقفه طريقًا من نور، يسير عليه كل من أراد أن يعمل لدين الله متجردًا.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم