أصبح دور الأسرة في بناء المجتمع وتحصينه ضد التيارات الفكرية الهدامة محط اهتمام متزايد ومضطرد، من قِبل الباحثين ورجال التربية في جميع مجالات الحياة المعرفية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها، لأنهم يرون صلاح أفراد الأسرة هو صلاح للمجتمع، وهذا ينعكس إيجابًا في التنمية البشرية.
وفى دراسة بعنوان: «الأسرة ودورها التربوي أمام تحديات العولمة»، للدكتور طارق عبد أحمد الدليمي، الأستاذ بكلية التربية للعلوم الإنسانية- جامعة الأنبار- العراق، يرى أن الأسرة لكي تقوم بدورها التربويى فى مواجهة العولمة، عليها أن تُكوِّن نماذج طبية وإيجابية؛ كي يقلدها وبتقمصها ويحبها أفرادها، مع تأكدهم أيضًا من خلو بيئتهم الأسرية من أي نماذج سلبية أخرى تجعل سلوكياتهم غير مقبولة، وتكون أرضًا خصبة لتمارس فيها تيارات العولمة لتحقق مراميها وأهدافها، والتي لا تخدم المجتمع وتطلعاته الحضارية والتنموية.
العولمة
إن مفهوم العولمة يرتكز على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة، والعولمة في الأصل هي السيطرة على العالم وجعله في نسق واحد، والعولمة لها تأثير على حياتنا الدينية والاجتماعية والثقافية، وهي تعني اختراق البنية الثقافية المحلية، وتفاقم مخاطر الاستلاب والغزو والاستعمار الثقافي، بل من مخاطر محو الهوية ونزع الخصوبة الشخصية التي ما زالت الأمم تضحي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
وللعولمة آثار سلبية قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية، وبأساليب متنوعة منها: الاستيعاب الثقافي، وتصدير صناعات التدمير، أو إغراق المحلي من العالمي، كلا حسب توجهه ونظرته.
أما أهم خصائص العولمة ولاسيما العولمة التربوية فهي تتمثل بما يأتي:
- احتواؤها نوعًا من الثقافة العالمية، والتي جاءت من خلال ممارسات المنظمات العالمية، التي فرضت نفسها كمعايير للتقييم، ولاسيما ما يخص تقييم المؤسسات والأفراد والتمويل والتربية.
- إيجاد توحد للأنظمة على مستوى العالم ومن هذه الأنظمة الأنظمة التربوية، على مستوى التوحد في المواثيق الوطنية في مختلف دول العالم، ووجود توجه واضح بذلك، إضافة إلى التوجه لتدريس اللغات الأجنبية بشكل مميز.
وبعض الثقافات والدول تواجه تحديًا أمام العولمة، خصوصًا الدول النامية، وذلك لضعف مجالاتها التالية:
- المجال الاقتصادي: ويشمل ضعف الرأسمال الوطني وموارد الدولة، والتبعية الاقتصادية وغيرها.
- المجال الاجتماعي: ويشمل الفقر، الفوارق الطبقية الكبيرة، الهجرة وغيرها.
- المجال الثقافي والحضاري: ويشمل فقدان الهوية الوطنية والثقافة القومية.
- المجال السياسي: ويشمل استمرار الممارسات المخالفة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
- في المجال البيئي: استنزاف الموارد الطبيعية، التقلبات المناخية، التلوث، الانحباس الحراري.
الدور التربوي للأسرة أمام تحديات العولمة
بعد أن يولد الطفل، تتولى الأسرة، وبشكل خاص الأم والأب مسؤولية رعاية الطفل وتزويده بالخبرات والمهارات الاجتماعية لكي يصبح راشدًا ناضجًا، يتحمل مسؤولياته في المجتمع ويسهم في تكوين أسرة جديدة، وهذه هي المهمة الأولى للأسرة في بناء شخصية الفرد، كما أن الأسر تقدم العون العاطفي، البدني، والاقتصادي المتبادل بين أعضائها، وإن مثل تلك الأسر توصف بالألفة والكثافة والديمومة والالتزام المتبادل بين أعضائها.
وتعد التنشئة الاجتماعية للفرد القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها عملية التفاعل الاجتماعي في مرحلة الطفولة، والتي تظهر آثارها في أبعاد الشخصية في الفترات اللاحقة من العمر. وهذا يزيد ثقل المسؤولية على الأسرة ودورها التربوي.
والأسرة هي الإطار العام الذي تتشكل به حياة الأفراد، فهي مصدر العادات والعرف والتقاليد، وقواعد السلوك، وهي دعامة الدين، وعليها تقوم عملية التنشئة الاجتماعية. وفي ضوء هذه الخصائص المهمة في التأثير على الأبناء يبرز دور الأسرة المسلمة في التصدي ومحاربة ما تحمله العولمة من مضار سواء كانت اجتماعية أو ثقافية أو حتى اقتصادية... الخ ويتم ذلك من خلال الحصانة القيمية والسلوكية التي يتحلى بها أفرادها ويتفاعلون معها بكل صدق وشفافية.
ويمكن للآباء أن يدخلوا إلى قلوب أبنائهم، ويستغلوا استجاباتهم الإيجابية في التصدي لمخاطر العولمة، من خلال رفدهم للأبناء بالسبل الكفيلة التي تزيد من حصانتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وكل ما يسيء إلى قيم وتوجهات مجتمعاتهم. وأن يكونوا نماذج طيبة في كل ما يصدر عنهم من سلوك معرفي وانفعالي... الخ؛ لأن النمذجة تشكل أحد مصادر التعلم التي ينبغي اعتبارها في التربية، إضافة إلى أن الكثير من سلوك الأطفال كالعادات والتقاليد والقواعد الأخلاقية تُكتسب عن طريق النمذجة.
إن غرس حالة التقدير الإيجابي للذات، واستخدام التفكير العقلي المنظم عند الأبناء = يمكنهم من رصد ومقاومة التحدي القادم من العولمة، وحتى يتم ذلك لا بد للآباء أن يكونوا على وعي وعلم بذلك، ولذلك يمكن مساعدتهم من خلال الإعداد والتطبيق لبرامج التربية الوالدية الإيجابية والفعالة للأسرة، والتي تأخذ بنظر الاعتبار التقدم العلمي والمعرفي وتسعى إلى تحصين الآباء أولًا من كافة مخاطر العولمة، وبالتالي ستنعكس نتائج هذه البرامج إيجابًيا على الأبناء بشكل قد لا يقبل الشك. ولو أردنا التعرف على فوائد هذه البرامج فسوف نجدها تتمثل بما يأتي:
- تعمل على تحسين مستوى تواصل الأهل مع المدرسة.
- وقاية الأطفال من المشكلات: فهي تزود الآباء والأمهات بمعارف ومهارات تمكنهم من تربية أطفالهم ورعايتهم، بطريقة تقلل من احتمالات تعرضهم للمشكلات.
- خفض مستوى توتر الأهل، حيث لا يخفى على أحد حجم الجهد ومقدار الوقت الذي يلزم الآباء والأمهات لتربية أبنائهم.
- تحسين مهارات الأهل في التأثير على أطفالهم.
من أهداف العولمة
تهدف العولمة إلى إزالة الحواجز بين الأمم والأوطان والشعوب، وجعلها تبعًا سياسيًا لصانعي العولمة المغرضة، هنا مطلوب من الآباء والذين يفترض أن تكون لديهم الخبرة الكافية في ذلك، لذا، على الأسرة أن تنمي اعتزاز الطفل بأسرته ووطنه والعمل على زيادة الترابط والتلاحم، من خلال الحديث مع الأبناء والإنصات إليهم بإيجابية وسرد القصص التاريخية والبطولية وغيرها، والتي تهدف إلى التلاحم وكيفية الدفاع عن الوطن والأمة والاعتزاز به وعدم التفريط به.
وحين يكون هدف العولمة استحواذ الشركات العالمية على اقتصاد الشعوب وجعلها تبعًا لها وإشاعة الفقر في أوطانها، فمطلوب من الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم في تشجيع ودعم التنمية الوطنية والمنتج الوطني، رغم كل الصعوبات التي يواجهونها، ويكون ذلك بإرادة قوية تجعل من أبنائهم مؤيدين لهم، وسائرين على نهجهم في مقاومة ما ترمي إليه الشركات العالمية تحت ظل العولمة، فعندما يسمع ويشاهد أفراد الأسرة الإسلامية والعربية آبائهم يمارسون الطرق الاقتصادية السليمة في البيع والشراء، وحسن التعامل والتعاون مع الجهد والمنتج المحلي وتفضيله على المنتج الخارجي بإرادة قوية وقناعة، يكون قد قامت الأسرة بدورها في تحدي العولمة والوقوف ضدها، حتى وإن كان صوتها عاليًا، لأن صوت الأسرة وفعلها أعلى وأكبر.
أما عندما يُراد من العولمة النيل من الهوية الاجتماعية والثقافية وسلبها، وجعلها تحت مسمى واحد، فعند ذلك تستطيع الأسرة أخذ دورها في تبصير وتوجيه أبنائها لمواجهة هذا التحدي بالتحاور المستمر والبنّاء؛ من أجل الحد من تأثيراتها عليهم بمختلف الوسائل كأن تكون عن طريق القصة أو الحكاية أو القلم الهادف، وبمختلف الوسائل التعليمية التي تشد الأبناء بانتمائهم الثقافية والدينية، والتأكيد على التربية العربية الإسلامية في جميع مراحل الطفولة.
ختامًا
- صار دور الأسرة في بناء المجتمع وتحصينه ضد التيارات الفكرية الهدامة محط اهتمام متزايد ومضطرد من قبل الباحثين ورجال التربية، فصاروا يسعون من خلال بحوثهم إلى البناء السليم للأسرة في جميع مجالات الحياة المعرفية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها، لأنهم يرون صلاح أفراد الأسرة هو صلاح للمجتمع، والذي بدوره ينعكس إيجابيًا في التنمية البشرية.
- أصبحت العولمة أمرًا واقعيًا أمام كل المجتمعات العالمية، وصار العالم قرية كونية تدور فيه، لتمارس أنشطتها الهادفة من خلال إمكانياتها المختلفة والمتطورة، متحدية كل الحواجز التي تحول بينها وبين جميع المجتمعات البشرية.
- صار الاستخدام الأمثل لأساليب التنشئة الأسرية والاجتماعية والتربية من قبل الوالدين لتحقيق نمو أفضل لأبنائهم، من الضرورات الملحة أمام تحديات العولمة.
- تأكيد أهمية القدوة في التربية والتنشئة الاجتماعية، وأن يكون الآباء نماذج طيبة وإيجابية مع الأسرة؛ كي يقلدها ويتقمصها ويحبها أفرادها، مع تأكدهم أيضًا من خلو بيئتهم الأسرية من أي نماذج سلبية أخرى تجعل سلوكياتهم غير مقبولة.
- ضرورة منح الآباء الثقة عند أطفالهم وتنمية الاستقلال لديهم؛ لينشئوا أصحاب نفوس سليمة، بإمكانها أن تستجيب بإيجابية لجميع عوامل التحدي المتأتية من العولمة وما تحمله من توجهات قد لا تخدم تماسك أسرهم ومجتمعاتهم وتطلعاتها المستقبلية.
- تأكد وجود حاجة ملحة لبناء وتفعيل برامج للتربية الوالدية والأسرية السليمة، والتي يمكن عن طريقها تدريب الآباء وأولياء الأمور على الممارسات والتفاعل السليم بين مكونات الأسرة، لكي تكون قيادة الأسرة على وعي وإدراك لما تؤول إليه من نتائج صائبة لدى أبنائها، وتبعدهم بالتالي عن الانجرار وراء سلبيات العولمة.
.