إن مرحلة الطفولة مرحلة مهمة، فالطفل نستقبله وليدًا بفرحة وبهجة، فهو الأمل، وهو الغد لوالديه ولأسرته وقومه، وللمجتمع الإنساني كله، حبه كامن في فطرة الإنسان؛ فالأطفال تشتاق إليهم النفوسُ، وتهفو إليهم القلوب، علت درجة ذلك الإنسان أو قلت، ويستوي في ذلك صفوة الله من خلقه وهم الأنبياء والمرسلون، ومن عداهم من البشر أيًا كانوا، فطلبُ الأطفالِ تحقيقًا للأبوة المستمرة دعوةٌ يتقرب بها الإنسان إلى ربه واهب الحياة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74).
وفى دراسة بعنوان: «حقوق الطفل التربوية في الفقه الإسلامي: وسائلها وأسسها وآثارها»، للباحثين بجامعة العلوم الإسلامية العالمية، الأردن، د. عبد الرؤوف أحمد بني عيسى، د. إبراهيم عبد الحليم عبادة، أ. د. ناصر أحمد الخوالدة، و د. أدب مبارك السعود، خلصت إلى أن للطفل حقوقًا تربوية في الإسلام تتمثل بـــــ: حقه في التربية العقدية، والتربية التعبدية، والتربية الأخلاقية؛ وقد قدم الباحثون مجموعة من التوصيات، تُنَبه على مراعاة حقوق الطفل التي أقرها الإسلام وتوفيرها بصورة تكاملية وشمولية. ونتناول في هذا العرض حق الطفل في التربية العقدية والتعبدية.
حق الطفل في التربية العقدية
إن مسؤولية التربية العقدية يقع أصالة على الأهل، وذلك لأن الأطفال في هذه المرحلة العمرية أمانة في أعناق آبائهم، فالأطفال يولدون على الفطرة، وآباؤهم هم الذين يشكلون منهم عنصرًا نافعًا أو ضارًا في المجتمع، وهي مرحلة متدرجة يجدر بالأهل والمربين أن لا يتركوا فرصة سانحة تمر إلا قد زادوا الطفل بالبراهين التي تدل على الله تعالى وبالإرشادات التي تثبت الإيمان، وباللفتات التي تقوي منه جانب العقيدة، ويمكن بيان بعض وسائل وأساليب البناء العقائدي، بالتالي:
1- التفهم والإقناع وتجنب التلقين:
يستند أسلوب التفهم والإقناع على توليد أفكار وآراء مقنعة وبيان فوائدها للمجتمع، وما يؤدي إهمالها من محاذير، وتوجيه أنظار وعقول الأطفال للتأمل في الكون والإيمان بوجود الله، وعظمته. فتفهم الطفل واقتناعه بما يسمع يولد عنده الحافز للتطبيق أكثر من التلقين الذي لا يستفيد منه الطفل غالبًا.
2- تكوين الرغبة في الاعتقاد قبل ذكر أدلته:
لا بد من تكوين الرغبة في الاعتقاد السليم أولا؛ لأن من لا يرغب في الاعتقاد، لا يعتقد ولو ذكرت له جميع الأدلة العقلية والعلمية، ولهذا لما تكلم الله تعالى عن هؤلاء الذين لا يريدون أن يؤمنوا لا لعدم وجود الأدلة، إنما لعدم رغبتهم بالإيمان، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ...} (الأنعام: 111).
ويمكن تكوين الرغبة في الاعتقاد عند الأطفال من خلال:
- تعداد النعم المحسوسة التي يتمتع بها الإنسان، وإثارة عقله ووجدانه فيها، وحين ذلك يظهر الطفل الرغبة في الاعتقاد بالله خالق هذه النعم.
- تكوين عاطفة الحب والخشية من الله، وكراهية الباطل، وذلك ببيان حاجة الطفل الدائمة إلى الله تعالى وتحبيبه له، وذكر الجنة والنار وبيان مضار المعاصي وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.
- توضيح أنه في الاعتقاد مصلحة للبشر، لأن فيه راحتهم نفسيًا وفرديًا واجتماعيًا.
3- التدريب والتعويد والتكرار نحو العاطفة الدينية:
وذلك لأن الطفل في هذه المرحلة العمرية بحاجة إلى التكرار؛ حتى ترسخ الحقيقة في بنيته العقلية وتصبح صفة راسخة تصدر عنها الأفعال والأقوال بسهولة ويسر.
أسس البناء العقدي
إن الطفل الصغير لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فهو لا يستطيع أن يميز بين الخبيث من الطيب، وبالتالي ليس عنده من البعد العقلي الذي يستطيع بواسطته أن يخطط لمستقبله، وأن يتزود من المعلم المعرفة والإيمان في صغره، ليكون له عدة في كبره، إن ذلك كله يتطلب أن يرعاه الوالدان ويتدبرا أمره ويزوداه بالمعارف والمعلومات، ويغرسا في نفسه أسس البناء العقائدي المتمثلة بـــــ:
- تلقين الطفل كلمة التوحيد.
- ترسيخ حب الله في قلب الطفل.
- ترسيخ حب الرسول ﷺ في قلب الطفل.
- تعليم الطفل القرآن الكريم.
- تعليم الطفل الثبات على العقيدة والتضحية من أجلها.
حق الطفل في التربية التعبدية
إن مرحلة الطفولة ليست مرحلة تكليف. وإنما هي مرحلة إعداد وتدريب وتعويد للوصول إلى مرحلة التكليف عند البلوغ، ليسهل عليه أداء الواجبات والفرائض، وليكون على أتم الاستعداد لخوض غمار الحياة بكل ثقة وانطلاق، العبادة في الشريعة الإسلامية تفعل في نفس الطفل فعلًا عجبًا، فهي تشعره بالاتصال بالله عز وجل. وهي تهدئ من ثوراته النفسية وتلجم انفعالاته الغضبية، فتجعله سويًا مستقيمًا، فيأخذ الخشوع المساحة الكبرى من جسده وهو يرتل آية أو يسمعها أو وهو واقف في الصلاة أو ساجد فيها، أو وهو يسمع أذان الإفطار ليبدأ بالطعام والشراب بعد أن صام يومه، فأسرار العبادة على نفس الطفل مميزة ومتعددة. لذلك أوجب الفقهاء تعليم الطفل العبادات الشرعية بالوسائل والأساليب المناسبة. ويمكن بيان بعض وسائل وأساليب البناء التعبدي، بالتالي:
1- الوعظ والإرشاد:
هو الأسلوب المباشر الصريح في تربية البناء التعبدي عند الطفل، ومن السهل الاعتماد عليه. فما على المربي إلا أنه يتوجه بالمواعظ والنصائح إلى من يربيه ويطلب منه الامتثال لها، وخير مثال على ذلك من كتاب الله ما جاء في موعظة لقمان لابنه وهو ينهاه عن الشرك ويأمره بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويأمره بمكارم الأخلاق قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ( لقمان: 17- 19).
2- القدوة:
القدوة هي: نماذج بشرية تقترب من الكمال، تقدم الأسلوب الواقعي للحياة في مجالاتها المختلفة: السلوكية والانفعالية والعلمية والاجتماعية، لذلك فالطفل الذي يشاهد سلوكًا معينًا- العبادات مثلًا- يسهل عليه الإتيان بذلك السلوك خاصة إذا كانت نفسه تميل إليه؛ لأنه يعكس في تصرفه هذا معاني الراحة والانسجام، لذلك يجب على الولي عند تعليم الطفل العبادات أن يكون قدوة للطفل؛ لأن ذلك وسيلة سهله لتأدية العبادة وإتقانها، قال الماوردي: «على العالم (الولي) أن لا يقول ما لا يفعل، ثم يتجنب أن يقول ما لا يفعل، وأن يأمر بما لا يأتمر، وأن يسر غير ما يظهر».
3- القصة:
القصة تعتبر من أكثر أساليب التربية فعالية وأقواها أثرًا، وهي وسيلة مشوقة للصغار والكبار، تُحدث أثرها في النفس مع الشعور بالمتعة، وتجعل الإنسان ينجذب إليها وينتبه إلى أحداثها وجزيئاتها ولا يشرد بذهنه عمن يربيه، ولها كبير الأثر في سلوكه وأخلاقه.
4- الممارسة والعمل:
إن التعليم بالأسلوب العملي وبقصد التطبيق، أوقع في النفس وأدعى إلى إثبات العلم واستقراره في القلب والذاكرة، لذلك يُلزم الوليُّ (المربي) الطفلَ بالممارسة العملية لعبادات الإسلام وشعائره التي تقع تحت قدرته وطاقته؛ لأن ذلك طريق التطبيق وديمومته.
5- الثواب والعقاب:
الثواب والعقاب كلاهما مقرر في الإسلام في ميادين الحياة العامة وفي ميدان التربية، ولكن لكل منهما ضوابط وقواعد. فالثواب في الإسلام يهدف إلى تنمية واعية للحوافز الإيمانية حتى تتحدد النية والنهج والهدف، والعقاب يهدف إلى إلزام الإنسان بحدوده حتى لا يتجاوزها، إلى تذكيره بالحق الذي خالفه حتى يعود فيلزمه، لذلك يجب على الولي (المربي) أن يستخدم أسلوب الثواب والعقاب في تعليم الطفل العبادات الشرعية، قال ﷺ: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع»، فالضرب هي مرحله أخيره بعد استنفاد كل الوسائل التعزيزية.
أسس البناء التعبدي
الأساسُ الأول الصلاةُ:
ويتكون من عدة مراحل تدريجية:
أ- مرحلة الأمر بالصلاة:
تبدأ مرحلة الأمر بالصلاة من مرحلة النضج البدني، ويكون ذلك إذا استطاع الطفل أن يميز بين الجهات، فقد روى عبد الله بن حبيب- رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «إذا عرف الغلام يمينه من شماله فمروه بالصلاة»، ويجب أن يرافق ذلك الاصطبار والمثابرة على الأمر والتعليم، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132).
ب- مرحلة التعليم:
وذلك إذا بلغ الطفل سبع سنين، فيعلمه أبواه بالوسائل والأساليب التربوية المؤثرة الفاعلة: أركانَ الصلاة، وشروطها، ومفسداتها، وواجباتها، قال ﷺ: «مروا أولادكم بًالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع».
ج- مرحلة التطبيق والضرب على التطبيق الخاطئ:
إذا بلغ الطفل عشر سنين ولم يكن قد صلى بعد، أو كان في صلاته خلل تطبيقي، فعلى الولي (المربي) إن استنفد كل الوسائل والأساليب التعزيزية أن يجنح إلى العقاب بالضرب، ولكن شريطة التوازن في عملية العقاب بالضرب بحيث لا إفراط ولا تفريط، قال ابن خلدون: «لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئًا.. لأن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم ولا سيما في أصاغر الولد، ومن كان مرباه بالعسف والقهر سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمله على الخبث والكذب.. خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلى المكر والخديعة لذلك. وصارت له هذه عادة وخلقًا.. فينبغي للمعلم في متعلم، والوالد في ولده، أن لا يستبدا عليهما في التأديب».
الأساس الثاني: الصوم
اشترط الفقهاء لوجوب الصوم شروطًا خمسة، هي: «الإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة، والإقامة».
لذلك لا يجب الصوم على الصبي (الطفل)؛ لعدم توجه خطاب التكليف له لعدم الأهلية، أما الطفل المميز فيصح الصوم منه، ويجب عند الشافعية والحنفية والحنابلة على وليه أمره به- أي الصيام- إذا أطاقه بعد بلوغ سبع سنين، وضربه حينئذ على الصوم بعد بلوغه عشر سنين، إذا تركه ليعتاده كالصلاة، إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة ولا يطيق الصوم.
الأساس الثالث: الزكاة
من حقوق الطفل على والديه أن يربَّى على فريضة الزكاة ونافلة الإنفاق في سبيل الله، وأن يحذر من التهاون في أداء الزكاة عند البلوغ وأن يؤديها دون مَنٍّ ولا أذى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ...} (البقرة: 264).
الأساس الرابع: الحج
أجمع الفقهاء على أن الحج لا يحب على الصبي؛ وذلك لأن الحج عبادة محضة، القصد منها الأداء مع نية واختيار ليحقق الابتلاء، وهذا لا يتحقق من الصبي. إذ هو قبل التمييز معدوم القصد والاختيار، وبعد التمييز لا يكملان عنده، ولا ينوب عنه الولي في أدائه لأنه عبادة، لذلك لو حج الصبي صح حجه، لكن الفريضة لم تسقط عنه بعد؛ إذ عليه أداؤها بعد التمييز والبلوغ.
الآثار التربوية للبناء التعبدي
إن تلبية حق الطفل في التربية التعبدية يسهم في تثبيت العقيدة الدينية وغرس الوازع الديني (الضمير)، ويسهم في اكتسابه مقومات السلوك الفاضل، ويمكن بيان الآثار التربوية للبناء التعبدي على شخصية الطفل من خلال التالي:
- تربية الطفل على الإخلاص والطاعة.
- الإتيان بالطاعة على الوجه الصحيح الذي سنه الرسول ﷺ.
- تعلم الارتباط بالجماعة المسلمة، حيث إن العبادة تكسب الشخص لذة الشعور بقوة الجماعة وعواطفها المشتركة، إلى جانب لذة المناجاة الفردية والشعور بقوه الذات المسلمة التي تستمد قوتها من الله تبارك وتعالى.
- تربية الفرد على الكرامة في النفس حيث يرددها الطفل في عباداته اليومية وفي السنوية، بل وفي كل وقت يذكر فيه الله تبارك وتعالى.
- تربيته على الانتماء إلى الأمة المسلمة عن طريق الانتماء إلى الخالق تبارك وتعالى.
- تربيته على الفضائل الثابتة: كالأمانة، والصدق ونحوهما.
- تنمية الجانب التنظيمي، حيث إن العبادة تغرس فيه النظام في وقوفه، وفي حركته، وفي جلوسه، وفي اجتماعه بالآخرين.
- تعريف الطفل بقواعد السلوك الإسلامي.
- تعريف الطفل بأحكام الحلال والحرام.
- إكساب الطفل الاتجاهات السلوكية السليمة التي تساعده على التعامل الاجتماعي القوي.
.