- دراسة خاصة للمنتدى الإسلامي العالمي للتربية
إن التربية هي الأسلوب الأمثل في التعامل مع الفطرة البشرية توجيهًا مباشرًا بالكلمة، وغير مباشر بالقدوة، وفق منهج خاص، ووسائل خاصة، لإحداث تغيير في الإنسان نحو الأحسن([1]).
البنا والتربية
حدد الإمام البنا خطواته الانتقالية في البلوغ بدعوته إلى كل الناس؛ بدأ من التعريف بها، ثم التكوين والتربية حتى تتحقق في نفوس المجتمع، فيتكون الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم، وقتها يترك المرحلة الأخيرة للمجتمع أن يقوم بالتنفيذ سواء من انتخاب الحكومة المسلمة والحاكم المسلم.
فيقول الأستاذ البنا: «أصارحكم أيها الإخوان، بأننا لم ننته بعد من مرحلتنا الثانية، ولم نتكون بعد التكوين الذي يسمح لنا بالتنفيذ العملي، إن أهم مراحل دعوتكم هذه المرحلة التي تجتازونها الآن (مرحلة التكوين) مرحلة تربية الشعب على قواعد الإسلام وتعاليمه، وصبغ النفوس أولًا بصبغة الله وتوجيهها إلى الخير العميم».
انصرفوا- أيها الإخوان- إلى تربية أنفسكم، وتربية الشعب معكم حتى تصلوا من ذلك إلى الحد الذي يطمئنكم، وحينئذٍ يأتيكم النصر من كل مكان، وتجدون أنفسكم في ميدان التنفيذ من حيث لا تشعرون([2]).
ثم يوضح الأطر التي ينبغي أن يسير عليها المنهج التربوي فيقول: «إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة- التي تحاول هذا، أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل- قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: «إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية التي من خصائص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تُبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلًا»([3]).
ويضيف: «إن تربية الأرواح وتزكية النفوس وقيادة القلوب، لا تأتى بهذه الألفاظ تردد، ولا بتلك القواعد تدرس، ولا بالنظريات تلقى، وإن هذه إن أفادت العقل والعلم فإنها بمعزل عن الشعور والروحانية والخلق، وإن الجماعات في حاجة إلى أرواحها وأخلاقها أولًا، وإن هؤلاء الذين يحاولون الصلاح الخلقي عن طريق الكتب وحدها مخدوعون خادعون، فإن كانت هذه طريقتكم فما أعجزها عن الوصول إلى ما تريدون.
يا أخي، ليس هذا الصلاح النفساني الذى تنشدون إلا طريق واحدة؛ طريق القدوة الحسنة الموصولة بالله المستمدة من فيضه وفضله وليس لهذه القدوة إلا مكابدة الليل، ومصاحبة القيام، والمناجاة في الغسق، وأنت تقرأ القرآن وتسمع قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِي أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمل: 1-6] ([4]).
ثم وضح أن التربية هي سبيل الإخوان المسلمين لبلوغ هدفهم المنشود من تربية المجتمع فيقول: «فاعلم أن الغرض الأول الذي ترمي إليه جمعيات الإخوان المسلمين (التربية الصحيحة)، تربية الأمة على النفس الفاضلة، والخلق النبيل السامي، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود عن كرامتها، والجد في استرداد مجدها، وتحمل كل عنت ومشقة في سبيل الوصول إلى الغاية»([5]).
والإخوان المسلمون: يعتمدون في تحقيق غايتهم على التربية والثقافة، فالتربية بإلزام الأعضاء العاملين التمسك بتعاليم الإسلام وشعائره، والثقافة بنشر المدارس: الأقسام الليلية، والنشرات، والمحاضرات، وأقسام المحافظة على القرآن الكريم.
والإخوان المسلمون: لا يعنون بالمظاهر والأشكال الإدارية، ولكنهم يعنون بالخلق والمبدأ والعقيدة، وهم جماعة واحدة مهما تعددت الأماكن والأوطان وزاد عدد الإخوان([6]).
ويقول الأستاذ عمر التلمساني: «على القيادة أن تولي الجانب التربوي، على كل المستويات، الاهتمام اللائق به. فالتربية هي الأساس في قوة البناء وتماسكه، وهي تعد الأجيال التي ترث الأمانة، وتتحمل الأعباء وتواصل العمل والتضحية والجهاد في جو من الأخوة والحب ودون مشاكل أو خلافات»([7]).
ويقول الشهيد سيد قطب: «نحن في حاجة ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية، أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة، ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لا بشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك»([8]).
تعدد وسائل التربية
لقد حرص الإخوان على العناية بتربية أفراد الجماعة تربية إيمانية، وقد شغل هذا الأمر حيزًا كبيرًا من تفكير المؤسِّس وجميع الإخوان، وهو ما جعل جماعة الإخوان متميزة عما سبقها من دعوات حيث حرص البنا على العناية بمتابعة وتربية الأفراد.
ولذا أفرد لها جزءًا كبيرًا في هذا الصدد، وإن كان لم يرد في اللوائح تفاصيل قسم التربية إلا أنه كان أكثر الأقسام نشاطًا، وكان الأستاذ البنا يقوم على شئونه، وكتب فيه الدكتور عبد العزيز كامل الكثير من الموضوعات التربوية التي ظلت طريقًا منيرًا لكل فرد انضم أو تعرف على هذه الجماعة، وتعددت الكثير من الوسائل التربوية من خلال هذا القسم وكانت عبارة عن محضن تربوي متدرج الوسائل، الهدف منها الرقي بأخلاقيات وعبادات المجتمع.
حيث جاء في لائحة عام 1951م: يقوم قسم التربية بإعداد نظام توثيق الإخوان العاملين وإرساله للمكاتب الإدارية.
وبناء على ذلك ينضم المسئول التربوي للجامعة إلى لجنة التربية بالمكتب الإداري كعضو له كل الحقوق وعليه كل الواجبات التي لمسئولي تربية المناطق الجغرافية بالمكتب ويلتزم بنظامها([9]).
لقد قام الإمام البنا بوضع نظم مختلفة في التربية لإخراج صف إسلامي يتمتع بالفهم الصحيح للإسلام، تربط الأخوة بين لبناته، ويتكافل عند الشدائد والمحن؛ فنظم الكتائب، ووضع رسالة التعاليم والمنهج، ووضع رسالة المنهج العلمي، ولكن هذه المشاريع لم يتم تطبيقها على النحو المطلوب بسبب العوائق التالية:
- المظاهر الإدارية: مثل الافتتاح السريع للشعب، وتولي مجالس إدارتها عناصر لم تتشرب الدعوة بعد، واهتمام هؤلاء بالنواحي الإدارية والشكلية دون الاهتمام بالتربية والتكوين؛ مما أدى إلى استنفاد حيوية أفراد الجماعة في مظاهر العمل من محافل ومناسبات، وبالتالي استنفدت حيوية الجماعة.
- ضعف العناية بالتكوين الفردي: ونتيجة لما سبق أصبحت العناصر الفاهمة لدعوتها القادرة على تحمل تبعاتها أقلية في وسط هذا الكم الهائل المنتسب إلى الإخوان، وقد استهلك جهد هذه العناصر في إقامة المؤتمرات والاحتفالات، ودُفع إلى داخل صفوف الإخوان مزيد من الأفراد؛ فلا يستطيع هؤلاء الأفراد الارتقاء بأنفسهم، فضلًا عن الارتقاء بغيرهم.
- صنفان من الإخوان: وقد أوجد هذا الجو في وسط الإخوان صنفين من الإخوان:
الأول: صنف بهرته المحافل والمؤتمرات والحديث عن الإخاء والحب في الله والاجتماع عليه، فأحس بحفيف أجنحة الملائكة في كل حفل، ورحمة الله في كل اجتماع، ومغفرته حين ينظر إلى أخيه؛ فاعتبر بقاءه مع إخوانه غاية ما بعدها غاية؛ فأصبح يمضي وقته في فراغ يظنه امتلاء، ولغو حديث يظنه اهتمامًا بأمر الإسلام ومستقبله، وعاش مع الإخوان مستمعًا إلى ما يقولون، متحمسًا عندما يخطبون، مستغرقًا في جو من العواطف والهدوء حين يعيش في المعسكر أو الكتيبة، دون أن تمس أقدامه أرض الإسلام الملتهبة، أو تكتوي أيديه بجمر العمل، أو تسهد عيونه في مطالعة كتب هذا الدين، أو تذوي أبدانه من الإرهاق المتواصل في سبيل عقيدة قل ناصروها واستعد أعداؤها، ونام أبناؤها إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
عاش هذا الصنف محسوبًا في عداد الإخوان، يلتقط معلوماته من المحافل، ودينه من الخطباء، ويجمع هذه (الأشتات) ليكون منها (دينًا) أنزله الله خير الدنيا والآخرة!!
الثاني: صنف آخر عاش يحمل أمانة الإسلام، ويبذل من ذات نفسه، وقوت أولاده، وعصارة حياته، يعمل جاهدًا في تكوين نفسه، وصياغة بيته على أساس دينه، ويتحرى وجه الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، نوره من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وعمله موجه إلى خالقه، لا يبتغي به عند الناس جاهًا، ولا في الأرض مقامًا، ولا بين الإخوان منصبًا، يعيش بين العاملين تقيًا خفيًا، يطلع الله من عمله على أكرم مما يطلع عليه الناس، ويضحي ويجاهد في طمأنينة الذاكرين وسكينة المؤمنين([10]).
كما وضع مكتب الإرشاد منهجًا للتربية الروحية جاء فيها:
- الغرض منها: تبصرة النشء عمليًا بشعائر الدين.
- إذكاء الروح الإسلامية فيه.
- صبغ سلوكه بالصبغة الإسلامية.
ويمكن أن يصل إلى ذلك عن طريق الوسائل الآتية:
- التعليم العملي للعبادات.
- القصص: تكوين المثل العليا.
- أناشيد دينية سهلة الأداء، واضحة المعنى، جميلة التلحين.
- قطع تمثيلية دينية.
- أجزاء من التاريخ الإسلامي في مناسباتها مع حفلات سمر بسيطة يقوم بها الأطفال، ويحسن اشتراك آبائهم فيها تقوية للرابطة.
- آيات قرآنية قدر ما تصح به الصلاة.
- دراسة قصصية عن الأطفال الصغار في الإسلام([11]).
ولحرص أفراد الجماعة على تحقيق عنصر التربية بالوسائل التي تلائم أفراد المجتمع، اقتراح أحد الإخوة- واسمه محمود أفندي عبده- أن يخصص مكتب الإرشاد معهدًا يتربى فيه الإخوان على مبادئ الأخوة عمليًا، وذلك بأن ينتدبوا من دوائرهم بطريقة دورية في كل دورة عددًا صغيرًا معينًا، ويمكث هذا العدد وقتًا محددًا مناسبًا حتى يستفيد من وجوده بالمكتب ويتمرن على الإرشاد والدعوة، وقد وعد حضرات أعضاء المكتب بدراسة هذا الاقتراح وإنفاذه، وإن كان هذا الاقتراح قد تحقق فيما بعد في العديد من الأماكن حتى يومنا هذا([12]).
ويقول الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز: «بعدما استحدث الإمام الشهيد حسن البنا الكتيبة كوسيلة من وسائل التربية المؤثرة، استوحى فكرة المعسكر من خلال فرق الجوالة، واستهدف من وراء تلك المعسكرات تربية الإخوان تربية شاملة تُعنى بالروح والعقل والجسد؛ فكانت التربية الروحية من خلال قيام الليل والتهجد وقراءة الوظائف والأوراد وتلاوة القرآن. أما التربية الثقافية التي تغذى العقل فكانت من خلال المحاضرات والمدارسات التي تتم في أيام المعسكر. أما الاهتمام بالنواحي البدنية فكانت من خلال الأنشطة الرياضية المختلفة التي يتضمنها برنامج المعسكر، بالإضافة إلى التدريب العسكري الذي يتضمن التدريب على الرياضات العنيفة، والتدريب على أنشطة الدفاع عن النفس.
ولم يكتفِ الإمام البنا بذلك؛ فقد أضاف إليها توثيق التعارف وتعميقه بين الإخوان، وتعويدهم على الانضباط والطاعة والاعتزاز بالنفس المؤمنة، كما دربهم على ممارسة الدعوة إلى الله عمليًا من خلال الخروج في بعض أيام المعسكر لدعوة الناس، وقدّم من نفسه النموذج العملي لكل ذلك([13]).
لقد ساعد على هذا النجاح:
1. إيمان لا يتزعزع بأن التربية هي الوسيلة الفذة لتغيير المجتمع وبناء الرجال، وتحقيق الآمال. وكان إمام الجماعة الشهيد حسن البنا يعلم أن طريق التربية بعيدة الشقة، طويلة المراحل، كثيرة المشاق، ولا يصبر على طولها ومتاعبها إلا القليل من الناس من أولي العزم.
2. منهاج التربية محدد الأهداف، واضح الخطوات، معلوم المصادر، متكامل الجوانب، متنوع الأساليب، قائم على فلسفة بينة المفاهيم، مستمدة من الإسلام دون سواه.
3. جو جماعي إيجابي هيأته الجماعة، من شأنه أن يعين كل أخ مسلم على أن يحيى حياة إسلامية، عن طريق الإيحاء والقدوة والمشاركة الوجدانية والعلمية.
4. قائد مربٍّ بفطرته، وبثقافته، وبخبرته. وهبه الله شحنة إيمانية نفسية غير معتادة، أثرت في قلوب من اتصل به، وأفاض من قلبه على قلوب من حوله.
5. عدد من المربين المخلصين، الأقوياء الأمناء، آمنوا بطريقة القائد، ونسجوا على منواله، وأثروا في تلاميذهم، ثم أصبح هؤلاء أساتذة لمن بعدهم... وهكذا.
ولست أعني بالمربين هنا خريجي المعاهد العليا للتربية، أو حملة الماجستير والدكتوراه فيها. وإنما أعني أناسًا ذوي شحنة عالية من الإيمان، وقوة الروح، وصفاء النفس، وصلابة الإرادة، وسعة العاطفة، والقدرة على التأثير في الآخرين... وربما كان أحد هؤلاء مهندسًا أو موظفًا بسيطًا أو تاجرًا أو عاملًا، ممن لا علاقة له بدراسة أصول التربية أو مناهجها.
6. وسائل مرنة متنوعة، بعضها فردي، وبعضها جماعي، بعضها نظري، وبعضها عملي، بعضها عقلي، وبعضها عاطفي، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، من دروس إلى خطب، إلى محاضرات، إلى ندوات، إلى أحاديث فردية، ومن شعارات تحفظ، إلى هتافات تدوي، إلى أناشيد تؤثر بكلماتها ولحنها ونغمها([14]).
آثار ملموسة وواقعية
لا شك أن الداعية الرباني حين يكون على هذا المستوى العظيم من التقوى والفهم والروحانية، وحين يتحلى بهذه القيم العالية من الإخلاص والصدق وحرارة الإيمان والدعوة، فإنه ينطلق في ميادين الدعوة والتبليغ والجهاد.
ولو أردنا أن نستقصي أخبار هؤلاء الذين أثروا وأصلحوا وغيروا، لرأيناهم أكثر من أن يحصوا، وأعظم من أن يستقصوا؛ بل إنهم كثير وكثير.
فهؤلاء الأئمة الربانيون هم الذين حملوا خلال العصور إمامة الدعوة، ورسالة الإصلاح، ومسؤولية الهداية؛ وهم الذين جمعوا بين العبادة والجهاد، ووفقوا بين حق الله وحق العباد، وهم الذين أعلنوا صوت الهدى والحق أمام المستبدين الظالمين، ووقفوا ببسالة فائقة أمام المستعمرين الغاشمين.
وهم الذين جددوا بدعوتهم وصحبتهم ميثاق الإسلام، وأدخلوا الناس في السلم فقهًا وعملًا بعد أن دخلوا فيه وراثة وعادة، وأذاقوا مريديهم وتلامذتهم حلاوة الإسلام ولذة الإيمان. وهم الذين أخرجوا أصنافًا من البشرية من سلطان الهوى ورق الشهوات، واستحواذ حب الدنيا، إلى نور الحق وهدى الإسلام، ولذة الطاعة والمناجاة([15]).
والهدف من التربية هو تغير الإنسان من السيئ إلى الحسن أو الأحسن، ونقله من الكفر إلى الإيمان إن كان غير مسلم، ومن المعصية إلى الطاعة، إن كان مسلمًا، ومن الضلال إلى الهدى ومن الباطل إلى الحق، ومن نظم العباد ومناهجهم إلى نظام الله ومنهجه في كل حال([16]).
لقد تحققت هذه التربية في أمثلة ساقها كل من كتب عن تاريخ وأعلام الإخوان المسلمين، وهي كثيرة لا يستطيع أن يحصيها مجلد واحد، ومنها مثلًا ما ذكره الدكتور عبد العزيز كامل: أنه صاحَب أخًا كان يقتسم راتبه مع أخ من إخوانه تعطل عن عمله، وسأله ذات يوم: كيف استطعت أن تنظم أمرك بنصف مرتبك؟ فابتسم قائلًا: «وكيف يعيش أخي دون مرتب؟»([17]).
بل حفلت مذكرات الأستاذ حسن البنا بنماذج كثيرة في صدر الدعوة والتي تفاعلت فيها القلوب مع دعوة الله سبحانه ومنها قصة الأخ عبد العزيز علام النبي الهندي الذي يعمل (ترزيًا) في المعسكر الإنجليزي والذي راودته إحدى زوجات كبار الضباط الإنجليز عن نفسه فأبى، فصوبت في وجهه المسدس فقال لها: «إني أخاف الله»، ثم يصرخ بالشهادتين في وجهها فتضطرب ويسقط المسدس من يدها فتدفعه بقوة خارج البيت فظل يعدو إلى دار الإخوان المسلمين([18]).
ويقول الأستاذ عباس السيسي:
«أعظم من ذلك ما يحكى عن محمد عواد من زملائه، ظهر منه الثبات والمصابرة وقوة الإرادة، وما كان البطل يزيد على قوله وهو يُعذب: يا مقلب القلوب ثبت قلبي.. أعنِّي.. لا تفتني».
وما أن سمعه كبير الجلادين حتى ركله بقدمه، وأخذ سوطًا وأهوى به عليه، وانهال عليه ضربًا، وبعد أن أعياه التعذيب أمره الجلاد أن ينهض، فحاول ولكن لم يَقْو... خانته قواه، وحاول مرارًا فلم يستطع، وظل يعذبوه حتى نزل صفوت الروبي بنفسه إلى الفسقية وأمسك برأس عواد وراح يضرب به جدار الفسقية حتى هشمه تمامًا، عندئذ أمر الجلاد بإخراجه من الفسقية فاكتشف الجميع أنه قد مات، وفاضت روحه»([19]).
هذه التربية التي آتت بثمارها مع الشهيد إبراهيم الطيب حينما زاره أهله قبل التنفيذ وجرى حديث بينهم وبينه، كان فيه الواثق المطمئن الصابر المحتسب، ومن هذا الحوار:
قالوا: ماذا فعلوا بك يا إبراهيم؟
قال: عذبونا عذابًا لم يذقه بشر.
قالوا: وما كان شأنه فيك؟
قال: وما كان شأنه في أبي الأنبياء إذ ألقي به في النار، وحتى الحسين إذ قتل في معركة غير متكافئة دارت طوال النهار وهو عطشان ظمآن.
قالوا: لقد قالت الصحف التي أردت لها الحرية الكثير؟
قال: لا غرابة في ذلك، فقد سمعنا عمن قال في مسجد الكوفة بعد مقتل الحسين: الحمد لله فقد قتل الكافر ابن الكافر.
قالوا: وما ترى الآن؟
قال: كانت الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا، وهذه هي قد نلناها، فلا تحزنوا فإنا مسرورون.. ولسوف يريكم الله آياته([20]).
ما زال قسم التربية يعد الحصن الحصين لجدران جماعة الإخوان المسلمين بالرغم من الضربات التي وجهت لها خلال تسعين عامًا، وبدون هذا القسم ستحدث ثقوب أخرى كثيرة في هذا الجدار، وتحدي الجماعة يكمن في العناية الشديدة بتطويره وترسيخ معاني التربية الحقيقية التي تتفاعل مع الواقع الذي يعيشه الناس، والمتغيرات والمستحدثات التي استجدت مع الحفاظ على ثواب الدين.
المصادر
([1]) علي عبد الحليم محمود، وسائل التربية عند الإخوان المسلمين: دراسة تحليلية تاريخية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، صـ 15
([2]) مجلة النذير، العدد (34)، السنة الأولى، 3ذو الحجة 1357ﻫ- 24يناير 1939م، ص (11-12).
([3]) مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد التاسع، السنة الثانية، 23 ربيع أول 1353- 6 يوليو 1934، ص (3-5).
([4]) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (3)، السنة الخامسة، 25ربيع الأول 1356ﻫ- 4يونيو 1937م، ص (1، 6).
([5]) رسالة هل نحن قوم عمليون، مجموعة رسائل الشهيد البنا.
([6]) جريدة الصعيد الأقصى، العدد (462)، السنة العاشرة، 6 ذو الحجة 1364ﻫ- 11 نوفمبر 1945م، ص (1، 4).
([7])مجلة الدعوة، العدد 98، ص 9.
([8]) سيد قطب، رسالة إلى أختي المسلمة، المختار الاسلامي. مصر ص 26-30
([9]) لوائح وقوانين الجماعة، لائحة 1951م، اقرأ للتوزيع والنشر والترجمة، 2013م.
([10]) المركز العام: قسم الأسر، الرسالة الأولى، نظام الأسر نشأته وأهدافه.
([11]) المركز العام: قسم الأسر، المرجع السابق.
([12])جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية– السنة الأولى– العدد 27- الخميس 23شوال 1352هـ / 8فبراير 1934م.
([13]) جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م، الجزء الرابع، صـ 48.
([14]) يوسف القرضاوي، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا، مكتبة وهبة- مصر الطبعة الخامسة 1425هـ- 2004م، صـ 3-6
([15]) عبد الله ناصح علوان، مجلة المجتمع، العدد 680، صـ 40-41
([16]) على عبد الحليم محمود: وسائل التربية عند الإخوان المسلمين دراسة تحليلية تاريخية، دار التوزيع والنشر الإسلامية– القاهرة.
([17]) عبد العزيز كامل: نهر الحياة، الطبعة الأولي- تقديم محمد سليم العوا- المكتب المصري الحديث، القاهرة، 2006م.
([18]) مذكرات الإمام الشهيد حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، صـ88.
([19]) عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الجزء الرابع.
([20]) جابر رزق: مذابح الإخوان في سجون ناصر، دار الاعتصام للطباعة والنشر والتوزيع, 1978م.
.