عن أنس قال: قدم رسول الله ﷺالمدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال ﷺ: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر».
وفي دراسة بعنوان: «العيد في الإسلام: قراءة في الأبعاد التربوية»، للدكتور محمد البخاري، يرى أن للاحتفال بالعيد في الإسلام حِكم تشريعية كثيرة، تهدف في جوهرها إلى تحرير الفرد من الأفكار الفاسدة والسلوكات المنحرفة التي تعود بالضرر عليه وعلى محيطه، وهو أيضًا مناسبة لتذوق المسلم لذة الفرح والانشراح، والتخلص من النَّصَب وتجديد القوة والنشاط؛ ويقف على بعض الدلالات التربوية المستفادة من تشريع الاحتفال بالعيد في الإسلام.
- الاعتراف بالنعمة وشكر المنعم
إن من بين أهداف الشعائر الإسلامية تربية الفرد على المراقبة الذاتية؛ ليقف على مكامن الضعف فيقويها، وعلى مكامن القوة فينميها ويرسخها، فهذه المناسبات الدينية تأتي بعد أداء المسلم لأركان الإسلام المتينة، فيحتفل بعيد المؤمنين (يوم الجمعة) بعد أسبوع من الصلاة في الجماعة، وبعيد الفطر بعد أداء ركن الصيام، وبعيد الأضحى بعد أداء ركن الحج، ويحتفل مع الفقراء والمحتاجين بإدخال الفرح إلى نفوسهم حين يدفع لهم الزكاة بعد سنة من العمل والكسب، وفي كل ذلك اعتراف بنعم الخالق التي لا تعد ولا تحصى، وإعلان سلوكي للاطمئنان النفسي الذي يعيشه المسلم داخل المنظومة التشريعية الإسلامية القائمة على أداء الواجب برضا واقتناع، يعقبه سرور وابتهاج بنيل الأجر والثواب، وهذا أفضل من اللعب الذي كان في الجاهلية في يومي (النيروز) و(المهرجان) لانحرافهما عن شرع الله، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58). يفرحون بهداية الله لهم أن وفقهم للعمل بشريعته.
إن في خروج المسلمين جماعة يوم العيد في أحسن هيئتهم مبتهجين فرحين، رسالة لكل حاقد على هذا الدين مفادها أن العبادة في الإسلام ليست مجرد تكليف ثقيل يؤمر به المسلم قسرًا، بل هي غذاء روحي يستوجب إظهار الشكر لله تعالى قلبًا وقالبًا؛ لذلك كان الرسول ﷺ يلبس أجمل الثياب في هذا اليوم فعن جابر قال: «كان للنبي ﷺ جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة» (صحيح ابن خزيمة). وكان ﷺ يغتسل يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة؛ فهذا الاهتمام بالمظهر في كل مناسبة دينية يجتمع فيها المسلمون يدل على أن الإسلام يحارب الأوساخ المادية والمعنوية، فلا يقبل القلوب المريضة بالحقد والكراهة، ولا يقبل العقول البليدة المنشغلة بالأفكار الدنيئة والمنحطة.
- تنمية قيم التعايش والتواصل
إن الاحتفال بالعيد بالإضافة إلى ما فيه من الشكر والامتنان بما أنعم الله على المسلمين من نعمة الإيمان، فهو أيضًا تعبير جماعي من المسلمين بثباتهم على قيم التعايش والتسامح، والتزامهم التربيةَ على محاربة العنف والاضطراب، فهم يعبدون الله جماعة، يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضًا في سكينة ومودة ورحمة؛ لأن دينهم يحث على الجمع والائتلاف، وينبذ الكراهية والاختلاف عكس ما يروج العنصريون أعداء السلم والاستقرار، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30).
إن اجتماع المسلمين لصلاة العيد؛ تطبيق عملي للتعارف والتعايش، قال تعالى: {... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ...} (الحجرات: 13). فهذا المبدأ الإنساني اهتم به الإسلام في كل شعائره المتكررة، ففي العيد يلتقي المسلمون، ويتشاورون حول تدبير شؤون مجتمعهم الصغير للتعاون على تحقيقها. ولا زالت بعض المجتمعات الإسلامية تتخذ هذه المناسبة فرصة لمناقشة أمور الزراعة، والسقي، والرعي، وتعبيد الطرق، وغيرها من المصالح المشتركة؛ فعن جابر قال: «شهدت مع رسول الله الصلاة يوم العيد… ثم قام متوكئًا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن …» (صحيح مسلم).
فخطبة العيد وسيلة لبيان قضايا الأمة والتواصي بها، وتوضيح أهم مشاكلها، وتشخيص أسباب استفحالها، والبحث عن عوامل التخفيف من حدتها تطبيقًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} (المائدة: 2). ولا شك أن هذا القصد خير من لعب أهل الجاهلية.
- توطين النفس على الجود والإنفاق
المسلمون يستعدون للعيد بالإنفاق على عيالهم، فيدخلون عليهم البهجة بثياب جديدة يلبسونها في هذا اليوم تعبيرًا منهم عن سرورهم بإتمام عبادة الصيام، فيتربى المسلم على البذل والعطاء، ويشارك الجميع في تحقيق السعادة الجماعية كل حسب إمكاناته المتاحة؛ لذاك قال ﷺ: «أبدلكم الله بهما خيرًا منهما عيد الفطر وعيد الأضحى» هذا الخير مظاهره كثيرة في حياة المسلم، أهمها تهذيب النفس وتوطينها على الكرم والجود.
ومن أجل ترسيخ هذه الصفة في سلوك المؤمن فعليًا؛ شرع الله زكاة الفطر تؤدى في أول يوم العيد عن كل مسلم دون اعتبار لسنه لمساعدة المحتاجين، وإدخال البهجة إلى قلوبهم، فينعم الجميع بفرحة العيد؛ فأداء الزكاة عن الصبي والعاجز يشعره بأهمية مساعدة غيره، ويتربى على الإنفاق منذ صغره؛ لأن الإسلام يسعى لإسعاد الجميع دنيويًا وأخرويًا، وقد بين الحديث هذه الغاية فقال: «أغنوهم عن طواف هذا اليوم» (السنن الكبرى، البيهقي). فتكرار هذا السلوك كل سنة يجعل نفس المؤمن تجبل على السخاء والكرم.
بيد أن العطاء المطلوب يجب أن يكون في محله حتى لا يذهب لأهل الفجور، فيتحول مال المؤمن إلى مصدر مشجع على المعاصي؛ فالمسلم يجب أن يحتاط في إنفاقه فلا يصرف ماله في شراء الملبس الفاضح الذي يساعد على المنكر ونشر الفاحشة، فهو محاسب عن ماله فيما أنفقه لقوله ﷺ: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل… وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ...» (سنن الترمذي). إن معظم الآباء والأمهات لا يأبهون لنوع اللباس الذي يشترونه في هذه المناسبة، ويخضعون لرغبات أولادهم فيضيع عليهم المال، ويضيع عليهم أجر الإنفاق، ويساهمون في التشجيع على التبرج والعري، ونشر مظاهر الرذيلة والفساد بقصد وبدونه، كما يجب على المسلم أن ينتبه إلى بعض الأشخاص الذين اتخذوا التسول حرفة دائمة وهم قادرون على العمل والكسب، فيكون مال المسلم وسيلة لتفشي ظاهرة الخمول والاتكال وقتل كرامة الإنسان.
- الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة
في العيد تتفق الأمة الإسلامية على إحياء هذه الشعيرة في مختلف بقاعها، وفي ذلك تربية للمسلم على حب الانتماء إلى أمة واحدة مهما اختلف لونه ولسانه، فيشارك أبناء أمته بهجتهم وفرحتهم، ويقاسمهم حزنهم وهمهم، لذلك خاطب النبي ﷺ في الحديث الأمة بصيغة الجمع فقال: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما» فهذا الفضل حاصل لكل الأمة وهذا هو الأصل في الإسلام، لقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (صحيح مسلم). فهذه الشعيرة مناسبة لتربية أولادنا على الوحدة، وإرشادهم إلى مواطن الاتفاق لعل الله يوفقهم للقيام بتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية الوحي.
فالمسلم ينبغي أن يقف مع أسرته الصغيرة والكبيرة في هذه المناسبة على مشاكل الأمة الإسلامية، ويلفت انتباههم إلى المآسي التي يعيشها أبناء جلدتنا من تشريد، وقتل، واستباحة للعرض، في فلسطين، وسورية، والعراق، كي يشكروا الله على نعمة الأمن التي منحهم إياها، ويسعوا إلى مساعدة إخوانهم المسلمين بكل ما يستطيعون بما في ذلك التعريف بقضيتهم والدعاء لهم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ...} (التوبة: 71). قال الشوكاني: أي قلوبهم متحدة في التوادد، والتحابب، والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين، وضمهم من الإيمان بالله.
نحن نحتفل بالعيد في بيوتنا مع أقاربنا، والمضطهدون من المسلمين يعيشون التشتت وعدم الاستقرار، نحن نحتفل مع فلذات أكبادنا وأولاد المسلمين المضطهدين يُختطفون من قبل تجار البشر، فتباع أعراضهم وأعضاؤهم وهم لايزالون في بداية طفولتهم، وما ذلك إلا لكوننا غثاء كغثاء السيل، نحب الدنيا أكثر من حبنا لديننا وكرامتنا، فتحولت أراضي المسلمين نتيجة ذلك إلى ثكنات عسكرية يعيث فيها جنود الباطل فسادًا.
لهذا يجب أن نقف مع هذه الشعيرة وقفة تأمل ومراجعة، ولا نفرغها من محتواها الديني ونجعلها فقط يومًا للعطلة والراحة، فلا يعقل أن يأمرنا النبي ﷺ بالخروج إلى المصلى ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا دون قصد تشريعي رباني، فعن أم عطية رضي الله عنها قالت: «أمرنا- تعني النبي ﷺ– أن نُخرج في العيدين، العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين» (صحيح مسلم). فالمبتغى ولا شك في ذلك تربية المسلمين على التشبث بالانتماء إلى أمة إسلامية موحدة وقوية.
.