لم يشرع الله الصوم تعذيبًا للبشر وانتقامًا منهم، بل فرضه لأسرار عليا، وحِكم بالغة. وعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع والعطش. وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده سبحانه، ولو تتبعنا أسرار الصيام وآثاره لوجدناها كثيرة تتسع لها مجلدات، منها الأثر التعبدي والأثر النفسي، والصحي والاجتماعي، والأخلاقي.
وفى دراسة بعنوان: «أثر الصيام في حياة الفرد والجماعة»، للباحث الجزائري إدريس مصلي، يرى أن الآثار النفسية للصوم تتمثل في كونه مدرسة إيمانية عملية تزكي النفس وتمدها بطاقة نفسية كبيرة تقوي صلة الصائم بربه، وتُصفي روحه بشكل يجعله طَيِّعًا للخيرـ مُبتعدًا عن الشر؛ ذلك أن الإنسان عندما ينوي الصوم يعرف أنه يقبل على الله بهذه الطاعة التي هي سر خفي بينه وبين مولاه، فيظل نهاره خاشعًا موصول القلب بالله سبحانه وتعالى.. ويُقبل بنفس واعية على تلمس أسباب الخير المفضية إلى رضاه وثوابه الجزيل سبحانه.
مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى
والصوم في الإسلام ليس المقصود منه الجوع والعطش لذاتهما، بل ما يتبع ذلك من كسر للشهوة، وإطفاء لثائرة الغضب والطيش.. إنه وسيلة لغاية أسمى وأكبر هي تقوى الله كما قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
فحقيقة الصيام إذن أنه مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى وعلى طاعة الله سبحانه، فإذا لم يحصل للصائم شيء من ذلك لم يُبَال اللهُ بصومه.. وإذا وجدتَ صائما لم يرتفع به الصوم عما يُشينه، ولم ينهه عن الابتعاد عن إيذاء الناس بالقول أو بالعمل، فاعلم أنه غير صائم على الحقيقة وأن ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، لأن الصوم لم تتشرَّبه نفسُه بعد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله عز وجل: «الصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر».
قال الإمام الغزالي عن صوم الصالحين الذي تتحقق فيه ثمرة الصوم المرجوة إنه كف الجوارح عن الآثام وتمامُه بستة أمور: الأول غض البصر، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويُكره.. والثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفُحش والجفاء والخصومة والمِراء. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حَرُم قوله حرُم الإصغاء إليه، الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار.. الخامس: ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه… السادس: أن يكون قلبُه بعد الإفطار معلقًا مضطربًا بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيُقبل صومُه فهو من المقربين أو يُرد عليه فهو من الممقوتين.
فالصوم المطلوب إذن هو صوم عن الآثام والمعاصي، صوم يُقرّب إلى الله ويحقق صفاء النفس وطهارة القلب.
إنه صوم يمد الروح بالشفافية والصفاء والإشراق والقرب من الله. فيصير الإنسان الصائم «ملائكي» الطبع، «نوراني» الخواطر، «رباني» السلوك يذوق حلاوة العبادة، ويُحس مباهج الورع ولذته ويشعر أنه قريب من ربه، ولذلك يقول الله تعالى مباشرة بعد أن أمر المؤمنين بالصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.
فكأن انتظام الآيات على هذا الترتيب: الصوم ثم القرب من الله ينبه الإنسان إلى أنه إذا أتقن صومه فقد تهيأ لمناجاة ربه.
عبادة نفسية تُقوي الصلة بالله
ويذكر القرآن أن الله لما أراد مكالمة موسى هيأه لهذا المقام الرفيع بأن أمره بصيام أربعين يومًا، فقال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة}.
فلما تهيأت نفس موسى لخطاب ربه وتحمل أنواره- وذلك بالصيام- أفاض الله عليه أنواره الربانية وكلّمه بلا واسطة: قال الله سبحانه: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}.
من هنا يتبين سر ارتباط صوم رمضان بنزول الوحي الإلهي على سيدنا محمد عليه السلام. فقد قال الله سبحانه: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس}.
ولذلك كان شهر رمضان شهر تلاوة القرآن، وشهر العبادة التي بواسطتها يطهر الإنسان نفسه من فاحش القول وسيء الأفعال، وينال بذلك رضى الله وغفرانه. فالصيام الصحيح هو نقطة تحول في سلوك الإنسان، به يتطهر من الذنوب، وبه يلتزم طاعة الله والقربى منه. ولهذا يقول النبي ﷺ: {من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه}.
وإذا كان الصيام هكذا عبادة نفسية تُقوي الصلة بالله فهو أيضًا عمل نفسي إرادي يقوي إرادة الإنسان ويدفعه للتحكم في غرائزه وميوله كما يُربيه على الصبر؛ ذلك أن الصائم يَحرم نفسه من أقوى الغرائز الطبيعية: غريزة الطعام والشراب وغريزة الجنس امتثالًا لأمر الله. فهو يجوع وأمامه شهي الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجه، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه، ولا سلطان إلا ضميره، ولا يسنده إلا إرادته القوية الواعية. ولا ريب أنه بهذا الحرمان يحصل له ألم ومشقة، فهو يمتنع عن مشتهياته وضروراته بإرادته ويتحمل ألم الحرمان طوال شهر رمضان، مراقبًا ربه، فيحصل له من تكرار هذه المجاهدة للنفس: ملكة المراقبة والإخلاص لله والحياء منه من أن يراه حيث نهاه.
فأيُّ مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل كمدرسة الصيام، التي يفتحها الإسلام إجباريًا للمسلمين في رمضان، وتطوعًا في غير رمضان؟!
تدريب على الانضباط الذاتي وامتحان قاس لعزيمة الإنسان
وقد وضع عالمٌ نفسانيٌ ألماني اسمُه «جيهاردت» كتابًا في تقوية الإرادة أثبت فيه أن الصوم هو الوسيلة الفعالة لغلبة سلطان الروح على الجسد، فيعيش الإنسان مالِكا زمام نفسه لا أسيرَ ميوله المادية.
فالصيام إذن كفيل بأن يخلق فينا قوة الإرادة، هذه الأخيرة التي تُعوِّدنا على الانضباط النابع من داخل الذات وليس من خارجها، وبالتالي نتغلب على الأهواء والميول الضارة.
ونستطيع أن نقول بعد هذا بأن الصيام والإمساك في رمضان عن المشتهيات وضبط النفس عن متطلباتها والصمود أمام هذه المتطلبات بحزمٍ وعزم وإصرار من فجر كل يوم إلى غروب شمسه، ومن أول يوم في رمضان إلى آخر يوم فيه، لَهُوَ نوع من التدريب على الانضباط الذاتي وامتحان قاس لعزيمة الإنسان وقوة إرادته ومبلغ استعداده للصمود والتضحية من أجل عقيدته ومبادئه وأهدافه العليا وغاياته السامية.
ورمضان حين نصومه إيمانًا واحتسابًا يُعبئ القوى النفسية للإنسان، ويعوِّده على تحمل المشاق، فيصبح سيد نفسه وأقدر على الصبر تلقائيًا على المكاره وأهوال الحياة، ويصبح الصبرُ خلقًا أصيلًا في نفسه ومن ثمَّ؛ فالصيام تدريب على تحمل جُهد من نوع خاص، جُهد ضبط النفس، وكبح جماحها.. الصيام بدوره شبهٌ بالتجنيد، تجنيد الجسد والروح، ترويضًا للإنسان على تحمل صراع الحياة وتوقعًا لما قد يضطره إلى الإمساك الإجباري.
إن للصوم من التأثير على سلوك الإنسان بما يخلقه فيه من صبر على تحمل المشاق ما يجعله وسيلة قوية وفعالة لترويض الإرادة على الصمود أمام نوازع الشهوات ومغريات الحياة.. وما أكثر الذين تركوا التدخين والخمر والعادات السيئة عقب صيام هذا الشهر على الرغم من إدمانهم الطويل على ذلك واعتقادهم استحالة التخلص من شر هذه المضارّ.
ويبقى أن الصوم: كسر لشهوات النفس، وتقويمٌ لمواضع الاعوجاج في القلب، وتعويد على الصبر، وتحمل المشقة، وشعور بآلام الغير، وتخفيفٌ للضغط المادي على حياة الإنسان، وعبادة خالصة تقود إلى تربية ربانية رفيعة تستصغر البهيمية وتحول بين الإنسان وبين الاستسلام الذليل إليها.
ولأن رمضان يُعلم الصبر وتحمل المشاق، نسبه الرسول ﷺ إلى الصبر فعلًا، فقال: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، يُذهبن وحر الصدر».
وروي عنه في حديث آخر: «لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم، والصوم نصف الصبر».
يدرب النفس على المجاهدة
وقد كان الصوم باعتباره مِحكّا للتمرس على الصبر، ركنًا من تعاليم الإسلام الأساسية، لأن الإسلام دينُ جهاد وكفاح متواصل. وأولُ عدة للجهاد هو الصبر والإرادة القوية، فإن لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدوًا، ومن لم ينتصر على نفسه وشهواتها هيهات أن ينتصر على عدوه، ومن لم يصبر على جوع يوم هيهات أن يصبر على فراق أهل ووطن من أجل هدف كبير. والصوم- بما فيه من صبر وفطام للنفوس- من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش ما دام ذلك في سبيل الله.
وقد تحدث الأستاذ «محمد قطب» عن هذا الجانب النفسي في الصيام وكيف أنه يهذب الروح ويدرب النفس على المجاهدة، فقال: «وفي هذه العبادة حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع؛ ابتغاء مرضاة الله وهو بمثابة تجنيد لكل أبناء الأمة القادرين على الصيام وذلك لكبح جماح شهوات الجسد وتهذيب الروح في وقت واحد. إن الصوم معركة مجابهة النفس وشهواتها، وإن جهاد النفس عبادة في حد ذاته لأن كل صور العبادات نوع من المجاهدة فأنت حين تصوم فإنك تقاوم إغراء الشهوات وتكف عن النظر إلى مغريات ألوان الطعام وتبتعد عن فُحش القول، وتُدرب نفسك على مجابهة الصعوبات والعقبات، فتتعلم النفس الصبر على المكاره والحرمان وكبح الشهوات».
الآثار الاجتماعية للصوم
وعن الآثار الاجتماعية للصوم، فإن ذلك الجوَّ الإيمانيَّ الذي يعيشه الصائمون في رمضان من شأنه أن يوثق العلاقات بين قلوبهم ويشيع فيهم المحبة والإخاء وروح التعاون؛ إذ أن المؤمن يصوم مع إخوانه في جو جماعي متآلف، فالجميع يصومون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويستشعر كل فرد في المجتمع ما يستشعره الآخرون من الناحية الوجدانية، لأن الصائم يرتاح نفسيًا إلى من هو في مثل حاله، وينجذب إليه بالعطف والمودة لاتحاد غايتهما ووحدة هدفهما في ابتغاء مرضاة الله وغفرانه.. فترى الصائمين في هذا الشهر متعاطفين متحابين، يقصدون المساجد للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن، وهم غالبًا يتزاورون ويتسامرون بعد صلاة العشاء والتراويح جماعة. وهم بذلك يتفقّدون من تخلَّف منهم عن حضور الجماعة، فإن كان مريضًا واسَوْهُ، وإن كان في ضائقة تعاونوا لدفعها عنه.
ومن ثمار الصوم أيضًا توطيد العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين، غنيهم وفقيرهم فهو يغرس في نفوس الموسرين روح البذل والعطاء حين يحسون وهم صائمون بالحاجة إلى الطعام، فيكون ذلك الجوع المؤقت مدعاة لتذكُّر جَوعة الفقير الدائمة بسبب الحاجة والحرمان. وهكذا يتولد عن الصيام كسر شوكة الأنانية لتعويضها بروح التكافل والإيثار، وترى الغنيَّ في هذا الشهر، أكثر من أي شهر آخر، يسارع إلى التضامن مع المعوزين، ومد يده إليهم بسخاء لأنه أتيح له من خلال الصيام أن يشعر شعورهم ويعيش بعضًا من معاناتهم. وقد تحدث الفيلسوف الفرنسي المسلم «رجاء غارودي» عن أهمية الصيام في تحقيق المواساة والتكافل الاجتماعي بين فئات المجتمع الموسرة والمُعوزة، وكيف أن التأثير النفسي للصيام على الغنيّ، حين يستشعر جَوعة أخيه الفقير، يكون له انعكاس اجتماعي إيجابي يتمثل في مسارعته إلى سد حاجته وانتشاله من البؤس.
يقول غارودي: «الصوم هو الانقطاع الطَّوعي عن الإيقاع الحياتيِّ، وتأكيدُ حرية الإنسان بالنسبة إلى (ذاته) ورغباته، وفي ذات الوقت التذكيرُ بحضور الجائع في ذاتنا، كأنه ذاتنا الأخرى التي يجب علينا أن نُسهم في انتشالها من البؤس والموت».
وقد عبر عن هذه الفكرة نفسها الدكتور يوسف القرضاوي فقال: «ومن أسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة، ونداء الأمعاء، فإن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله.. فلا غرْوَ أن جعل الله من الصوم مظهرًا للاشتراكية الصحيحة والمساواة الكاملة، وجعل الجوع ضريبة إجبارية، يدفعها الموسر والمعسر».
وقد روي أن يوسف عليه السلام كان يكثر الصيام وهو على خزائن الأرض، بيده المالية والتموين، فسُئل في ذلك فقال: «أخاف إذا شبعت أن أنسى جوع الفقير».
صحيح أن الصيام يشترك فيه الغني والفقير في الإحساس بالجوع طيلة فترة الصيام بشكل متساوٍ، وهو بذلك مظهر للمساواة الكاملة، وإن كنا لا نتفق مع صاحب النص في أن يُطلق على هذا المظهر تعبير «الاشتراكية» فليس في الإسلام شيء من الاشتراكية ولا في الاشتراكية شيء من الإسلام، وشتان بين ما هو سماوي رباني وبين ما هو وضعي بشري.
وإذا كان الصوم يبعث في نفوس المسلمين الإحساس بالمساواة بين الجميع حيث يُمسكون طيلة اليوم، بل والشهر بشكل موحَّد ويُفطرون في وقت واحد فإن هذا ليس من الاشتراكية الإلحادية في شيء.
إن هذه المساواة في استشعار الجوع والحرمان بفعل الإمساك في رمضان تجعل الفقير يجد فيها المواساة والسلوى عما يعانيه، غالبا، من حرمان. كما أنها تكسر شوكة الغنيِّ وتجعله يرضخ لأمر الله موقنًا بأن الناس جميعا سواء أمام الله.
وهكذا يكون الصيام فرصة للالتفات للمحتاج، من غاياته الإحساس بحاجته بشكل عملي فنكون بذلك أقدر على استشعارها ومعالجتها، ومن هنا يمكن أن نقول بأن الصيام فقرٌ إجباري تتساوى فيه جميع طبقات الشعب، ومظهر عملي لوحدة المجتمع الإسلامي يجوع فيه الناس جوعًا واحدًا ويتألمون ألمًا واحدًا، ومن الآلام المشتركة تنشأ الرحمة، ومن الرحمة تحصل العدالة، مما يُذكر الصائم الغني بما عليه من واجبات نحو أخيه الفقير.
.