البحث التربوي من منظور نقدي

 يشير الدكتور محمد سكران، الأستاذ بقسم أصول التربية، بكلية التربية جامعة الفيوم، فى دراسة له بعنوان: «البحث التربوي من منظور نقدي»، إلى الظروف التي يعمل من خلالها، وتلك الظروف النوعية التي تتعلق بالبحث التربوي، مستهدفًا من ذلك التحديد العلمي لوضعية هذا النوع من البحوث، وأهم ما يعاني منه من معوقات حالت وتَحُول دون القيام بدوره المنشود في إثراء المعرفة التربوية، وحل المشكلات التعليمية والفعلية في تطوير التعليم المصري، مع طرح بعض الأفكار التي قد تكون لها أهميتها في هذا المجال.

 

أولًا: بعض الظروف التي يعمل من خلالها البحث التربوي في مصر

تؤكد عشرات البحوث والدراسات والمؤتمرات والندوات أن البحث التربوي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة خاصة، وفي مختلف مجالات المعرفة والتخصصات الأخرى في مصر، وفي غيرها من البلدان العربية، تعاني أزمة حقيقية لعشرات الظروف والأسباب التي بات طرحها مملًا، من كثرة التكرار والاجترار، وإن كان هذا لا يمنع من طرح بعضها كنوع من التذكار، وأخذها في الاعتبار، ويكفي أن نشير إلى أن بين هذه الظروف والأسباب:

1- قصور الرؤية المجتمعية في مختلف جوانب حياتنا المصرية، والذي أدى بدوره إلى غياب المشاريع القومية الحضارية، التي ترسم الغايات وتوحد الجهود، ويقضي على الصراعات والتناقضات، ويحدد الوسائل والأهداف، ويوجه حركة النشاط في المجتمع، وبالتالي حركة النشاط البحثي في كافة الميادين والمجالات.

2- غياب الخريطة القومية البحثية كجزء من غياب المشروع الحضاري القومي؛ مما ترتب عليه القيام بالبحوث بصورة اجتهادية إن لم تكن عشوائية، كما ترتب عليه تكرار البحوث، فالأمر متروك للمزاج الشخصي في الاختيار. وسهولة الإجراء، وبدا الباحث وكأنه يعيش في عالم آخر، لا في مجتمع مثقل بالمشكلات، وحيث أن الأمر كذلك فإن البحوث العلمية جاءت بلا ضابط أو رابط وبلا أدنى صلة بحياتنا، ومن ثم لم تستطع أن تحل مشكلة واحدة من مشكلاتنا.

3- الاستغراق في المسائل الأكاديمية والبعد عن المشكلات الواقعية. بعبارة أخرى: غلبة الجوانب التكنوقراطية والبعد عن القضايا المصيرية، الأمر الذي ترتب عليه غياب الوعي الاجتماعي بقضايا المجتمع لدى باحثي العلوم الاجتماعية والإنسانية وباحثي التربية بصفة خاصة، حيث ابتعدوا عن تناول قضايا اجتماعية وسياسية هي من ألصق من يتصل بعملهم البحثي ومن أكثر القضايا تحريكًا للبحث العلمي نحو تغيير الواقع.

4- غياب الرؤية العلمية في مختلف جوانب الحياة المصرية، وفي مختلف الأنشطة والمجالات، فحياتنا في كل جوانبها ينقصها منهج العلم، نعم لدينا حقائق العلم، ولدينا من يستطيع تحصيلها، وحفظها حفظًا، ولكن ليس لدينا من يستطيع أن يستخدمها منهجًا في حياته وسلكه بعبارة أخرى، العلم في مجتمعنا لم يتجاوز مجاله الأكاديمي، وبالتالي لم يتغلل في حياة الناس فما زلنا نخلط بين الأسباب والنتائج، ولا نربط بين المسببات وأسبابها الحقيقية وهذا مكمن الداء، وسر البلاء الذي تولدت منه كل ضروب الأورام الخبيثة في حياتنا المصرية فكان لنا ما كان من جمود وتخلف، أو من بطء شديد في الحركة نحو التقدم.

وبطبيعة الحال: هناك العديد من المعوقات التي تقف في طريق انتشار منهج العلم في حياتنا، أو بعبارة أخرى تؤدي إلى غياب الرؤية العلمية لدينا، يأتي في مقدمتها: انتشار التفكير الخرافي بين جمهرة الناس وبعض خاصتهم، والخضوع للسلطة بأشكالها وصورها المختلفة، من أفكار قديمة بالية، أو حديث لا علاقة لها بحياتنا أو مشكلاتنا، ومن تقاليد بالية وقيم ومواصفات اجتماعية معينة، ومن نظم وأساليب سياسية عملت وتعمل على غياب هذه الرؤية أو تزييف الوعي بها:

  • إنكار قيمة العقل لدى جمهرة الناس وبعض خاصتهم، حيث يقللون من قيمة العقل وشأنه ويضيقون ذرعًا بإنجازاته، ويضيقون عليه انطلاقاته تحت وهم أن العقل ما زال قاصرًا عن كشف أسرار الكون، وأن هناك قوى أخرى أقدر منه على كشفها، الأمر الذي ترتب عليه أن فقد المصري قيمه عقله، والثقة بنفسه، وقدرته على اكتساب المعرفة وبلوغ الحقيقة.
  • اضطراب الحياة وتزايد ضباب الرؤية، فحياتنا على امتداد ما مضى من القرن العشرين– كما يرى المفكر العربي زكي نجيب محمود– مضطربة، مهتزة المعايير لا تستطيع التمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ ومن ثم أصبحت الأرض تميد بنا، فلا ثبات ولا استقرار وأصبحنا نعيش أَسرَى للذاتية بالدرجة التي أصبح معها أن كل واحد ينضج من ذاتيته الخاصة ويريد أن يفرض ما ينصحه على الآخرين.
  • اختلاط وتناقض القيم، سواء بين الأجيال أو بين الشرائح الاجتماعية، أو بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية والحياة الواقعية، فتعقدت الحياة سلوكًا وفهمًا، وطغت الإيجابيات على السلبيات، وغاب الانتماء وشاعت قيم القدرية، والانتهازية واللامبالاة، كما سادت الارتجالية والاتكالية والعشوائية، وأصبحنا نعيش نهب ردود الأفعال في إصدار أحكامنا واتخاذ قراراتنا.

5- غياب الرؤية المستقبلية: فمن المعروف والمتعارف عليه أن البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية المفروض فيه أن يسري غور الواقع استشراقًا للمستقبل، أي أن رؤية البحث العلمي بالدرجة الأولى رؤية مستقبلية، وبطبيعة الحال فإنه طالما غابت هذه الرؤية المستقبلية عن حياتنا وتصوراتنا فمن العصب وجود البحث العلمي المؤثر، وإذا وجد فمن الصعب تطبيقه والإفادة منه.

وهناك العديد من الدراسات التي تؤكد على قصور هذه الرؤية في مجتمعنا العربي بصفة عامة وارتباطا بغياب الرؤية العلمية، أو بعبارة أخرى شيوع التفكير اللاعلمي.

6- ضعف التكوين العلمي للباحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة والباحث التربوي بصفة خاصة، ولهذا الضعف أسبابه التي يمكن أن تتمثل في:

  • نوعية التعليم الذي يتلقاه في مختلف مراحل نموه وإعداده، خاصة مرحلة الدراسات العليا التي تشكل مرحلة الإعداد والتكوين العلمي للباحث.
  • القصور الذاتي للباحث وقناعته العلمية بما حصل عليه خلال مراحل تكوينه، دون محاولة الاحتكاك العلمي، والاستزادة والاضطلاع على الجديد.
  • غياب المدارس العلمية والنموذج أو المثال العلمي.
  • قصور الإمكانيات ومحدودية مصادر المعرفة.
  • تخلف الحياة الثقافية والاجتماعية التي يعيشها الباحث داخل مجتمعه الصغير أو الكبير.
  • وكما أن لهذا الضعف العام أسبابه فإن له مظاهره التي نلمسها في غياب الأصول والقيم العلمية، وغياب العقلية الناقدة، القادرة على الابتكار والتحديد والتحليل والتفسير والرؤية الشاملة.

7- ضعف التكامل بين المعارف والعلوم والبحوث التربوية كجزء من قصور التخطيط العلمي والرؤية الشاملة التي نعاني منها في مختلف جوانب حياتنا. ولتوضيح خطورة هذا الضعف نقول إن التكامل بين المعارف والعلوم الإنسانية يعتبر من أهم معالم الفكر المعاصر، للعديد من المبررات، من أهمها:

  • أن التكامل يفرضه التعمق في المعارف الإنسانية من ناحية، والتزايد الرهيب في العلوم والمعارف من ناحية أخرى، وبالتالي يعتبر الصيغة المقبولة والضرورية للتقارب بين الخطين المتعارضين اللذين يسير عليهما العلم في الوقت الحاضر، خط التخصص من أجل التعمق، وخط التوسع لمسايرة التزايد الرهيب في المعارف والعلوم الإنسانية، على أساس أن السير في أحدهما دون الآخر قد يؤدي إلى العديد من المخاطر. فالاعتماد على التخصص الدقيق قد يؤدي إلى انعزال المشتغل بالعلم عن كافة جوانب المعارف الأخرى، والاعتماد على التوسع قد يؤدي إلى التشتت والسطحية، ومن ثم جاءت أهمية الدعوة للتكامل من أجل تجنب هذه المخاطر.
  • إن التكامل يعتبر من أهم أساسيات التخطيط العلمي السليم والدقيق، لأنه يؤدي إلى التنسيق والتعاون بين التخصصات والأجهزة المعنية والاستثمار الأمثل لجهودها، والعمل على توحد أهدافها، وبالتالي قدرتها على حل المشكلات بالأسلوب العلمي الصحيح.

وعلى الرغم من أهمية التكامل والتعاون بين مختلف التخصصات والمجالات والأنشطة إلا أننا نعاني من التباعد بينها، وخير مثال على هذا البحث التربوي والتصنيفات التي تصنفه فيها، فكما هو واضح فإنه يصنف حسب التخصصات والأقسام في المؤسسات العلمية، فهناك بحث في التربية المقارنة، وثان في أصول التربية، وثالث في قسم المناهج، وبرامج في علم النفس، وخامس في الصحة النفسية، إلى آخر هذه التصنيفات التي تعتبر من أردأ أنواع تصنيفات البحث التربوي، لأنها:

  • لا تكشف عن العلاقات والتفاعلات بين متغيرات هذه الأنواع من البحوث، والمشكلات التي تتصدى لها.
  • لا تكشف عن نوعية البحوث وأهدافها من حيث إنتاج المعرفة، أو حل المشكلات الفورية، أو صنع واتخاذ القرار.
  • أنها تؤدي إلى تفتيت المعرفة وبعثرة الجهود التي تبذل.
  • أنها تتنافي مع طبيعة المشكلة التربوية في مجالها الحيوي أو بعبارة أخرى في واقعها العلمين فالمشكلة التربوية في هذا الواقع لا تعرف هذه التصنيفات، أو بعبارة أخرى لا تعرف الأقسام لأنها واحدة لا تقبل التجزيء فلها متغيراتها المتعددة، وعلاقاتها المتداخلة المتفاعلة، المتأثرة ببعضها، والمؤثرة في بعضها. صحيح هناك بعض المشكلات النوعية التي يمكن أن يختص بها قسم معين لكن هذه المشكلات قابلة للغاية أما الكثرة الغالبة من المشكلات فإنها تفرض التكامل والتعاون والتنسيق بين التخصصات التربوية من أجل التصدي لها، وبذلك يمكن أن يكون للبحوث تأثيرها وأهميتها في الواقع العملي، وبالتالي يمكن أن تعمل على تضييق الفجوة بينها وبين هذا الواقع.

8- غياب الرؤية النقدية، قد لا نكون بحاجة إلى تأكيد هذا الغياب في بحوثنا التربوية، وفي العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل وفي مجمل حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، وكنتيجة مترتبة على قصور الرؤية العلمية، على أساس أن الرؤية النقدية تعني التسلح بالعقل، وشروط العلم، وتعني نقد المسلمات، وما هو شائع من أفكار وقيم، وتعني نقد الآخرين، كما تعني نقد المجتمع بكل قيمه وسلوكياته، وأنظمته ومؤسساته، من أجل التغلب على مشكلاته وسلبياته، وتدعيم إيجابياته، ومن ثم تصبح الرؤية النقدية جزءًا من الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية بكل أبعادها وجوانبها على المستويين النظري والتطبيقي.

ولقد أدركت المجتمعات المتقدمة أهمية هذه الرؤية، فرصدت لها الإمكانات الواسعة لتحقيق أهدافها وتحمل المفكرون والمثقفون، والنقاد بصفة عامة مسئولية النقد، فأصبحوا ذا ضمائر نقية مرهفة، تتعامل مع موضوع النقد بضمير القاضي، بعبارة أخرى أصبحوا يتمتعون بما يطلق عليه «الضمير النقدي».

فماذا عن الضمير النقدي لدينا؟ يمكن القول إن هذا الضمير لم يتبلور بعد بالدرجة الكافية في أوساطنا العلمية، لأنه لا يوجد لدينا تراث نقدي يشكل جزءًا من حياتنا الثقافية، وبسبب الخلط الذي يسود كافة حياتنا بين ما هو عام وما هو خاص، بين ما هو شخصي وما هو موضوعي، ولا يخلو من هذا الداء عامة الناس أو خاصتهم، ومن ثم غاب الضمير النقدي، وغابت وسائله من دوريات وعجلات، وأصبحنا لا ننقد بعضنا، بل لا نقرأ لبعضنا.

 

مقترحات وحلول

أولًا: ضرورة تبني المنهجية النقدية في البحث التربوي

وتتلخص هذه المنهجية– وكما هو معروف– في العديد من الكتابات والتحليلات في ضرورة إلمام الباحث في العلوم التربوية والاجتماعية والإنسانية بالمرتكزات الفكرية النقدية، والمبادئ والمفاهيم والآليات التحليلية التي يستند إليها هذا الفكر والتي تشكل في مجملها خصائصه الأساسية التي ينبغي ترجمتها إلى الواقع الفعلي في ميدان البحث الاجتماعي والتربوي. وتتلخص هذه الخصائص في:

  1. التفاعلية من خلال معايشة الباحث موضوع بحثه، معايشةً تجعله يفصح عن إنجازاته الفكرية بشكل مباشر دون مواربة، فالظواهر الإنسانية والمجتمعية تتضمن بالضرورة تلوينات تنحاز لرؤية دون أخرى، وتعكس وعيًا بعناصر الظاهرة موضوع البحث، ومن ثم لا يمكن أن نتعامل معها كتعاملنا مع الظواهر الطبيعية بخصائصها المادية، وشروطها الإجرائية، ومن ثم فإن الباحث النقدي يجب أن يندمج في الموقف الذي يدرسه، بدرجة تمكنه من معرفة آليات وديناميات التفاعل الاجتماعي، وبدون هذا التفاعل، ومعرفة القوى الاجتماعية المرتبطة به يفقد العمل الأكاديمي قيمته وأهميته.
  2. المراجعة المستمرة للمنطلقات الفكرية، فالمنهج النقدي– شأن كل منهج بحثي– يعتمد على منطلقات موجهة لتحليلاته وتفسيراتهن، ولكنها تظل دومًا موضوعًا للمراجعة، فينتقل الباحث من التقبل إلى التخيل، ومن التسليم إلى الحوار، ومن الحل الوحيد إلى تعود البدائل، ومن الحقائق الثابتة إلى نسبية المعرفة القابلية للتطوير في علاقتها بغيرها من الحقائق.
  3. التوجه نحو فهم التنوع البشري والثقافي، واحترام هذا التنوع، وبالتالي احترام الخصوصيات الحضارية والثقافية، وتبنى منطلقات وآليات للتحليل والتفسير تتلاءم مع خصوصيات كل مجتمع، فمن السمات المهمة في المنهج النقدي رفضه التسليم بالمفاهيم المركزية التي تفرض نفسها كنظريات عامة تصدق على كل مكان. وإنما لكل مجتمع خصوصياته، وهذا لا يعني اتخاذ مواقف رافضة للآخر، وإنما فقط اتخاذ مواقف مستقلة عندما نواجه قضايانا التي تختلف بالتأكيد عن قضايا الآخر.
  4. إن المنهج النقدي يفرض تتبع جذور الظاهرة، وسبر أغوارها، ومتابعتها في أعمق الأعماق التي تمتد إليها، للوقوف على زمان ومكان ولادتها، وكيف نمت وتطورت، والظروف التي ساعدت على هذا النمو، واستخلاص معانيها ودلالاتها، والسياقات المرتبطة بهذه المعاني والدلالات.
  5. ضرورة إفصاح الباحث النقدي عن منطلقاته وتفضيلاته وقناعاته الفكرية، كإجراء ضرورة لتحقيق الموضوعية بمفهومها الإيجابي، الذي يسقط الأقنعة المزيفة التي يتستر بها الباحثون من خلال مجموعة من الإجراءات الأمبريقية، دون تحليل كيفي يكشف عن أبعادها، والسياقات التي تعمل من خلالها.
  6.  الأخذ بمفهوم «العوامل المتعددة» في تفسير الظاهرة الاجتماعية والتربوية، فهي من التعقيد بحيث لا يمكن إرجاعها إلى عامل أو سبب واحد، وإنما هناك عوامل متعددة متداخلة متفاعلة، ينبغي الكشف عنها، وتحديد وزن كل منها في إحداث الظاهرة، وتفسير كل هذا في السياقات المجتمعية المرتبطة بها.

ثانيًا: ضرورة الاهتمام بالبحوث الإثنوجرافية في المجال التربوي

وفي هذا الصدد نشير إلى أن هناك عشرات الدراسات والكتابات التي تؤكد أن الإثنوجرافيا ليست منهجية بحثية تختص بالدراسات الأنثروبولوجيا وحدها، وإنما اتسع مداها لتشمل العلوم الاجتماعية بعامة، وفي القلب منها التربية، بل باتت- لعشرات الأسباب التربوية والاجتماعية والثقافية– منهجية ضرورية الاستخدام في البحث التربوي، وأن هناك عشرات الدراسات الأجنبية التربوية التي تبنت هذه المنهجية، وحققت فيها نجاحًا ملحوظًا. في الوقت الذي لا نجد فيه– إلا فيما شذ وندر– دراسات عربية تربوية قد استخدمتها، وعملت على توظيفها، والإفادة من إمكانياتها. بل لا نجد من الكتابات العربية القدر الكافي، الذي يتناسب مع أهميتها وقيمتها في المجال التربوي. مع أننا في مصر– والوطن العربي بصفة عامة– في أشد الحاجة إلى استخدام عمليات التحليل الكيفي لما يحدث داخل تعليمنا ومدارسنا بالدرجة التي تمكننا من الحصول على معلومات وصفية إثنوجرافية، تساعدنا على الفهم الصحيح والواضح لما يحدث بهذا الداخل من أنشطة وممارسات، وعلاقات وتفاعلات، وعلاقة هذه كله بالأنساق، والتفاعلات المجتمعية المحيطة بالتعليم وبالمدرسة.

وهنا قد لا نكون بحاجة إلى بيان طبيعة هذه المنهجية، فهي تعتمد في الأساس– وكما هو معروف– على دراسة الظاهرة في بيئتها الطبيعية، ومن خلال الظروف والعوامل التي تتعامل وتتفاعل معها، وفيها ينخرط الباحث مباشرة، مستخدمًا في ذلك العديد من الأدوات، يأتي في مقدمتها: الملاحظة بالمشاركة بمستوياتها المختلفة، والمقابلات المقننة وغير المقننة. باختصار.. المعايشة الكاملة للظاهرة المدروسة. فالباحث هنا ليس خارج الظاهرة، وإنما بداخلها، يرصد، ويسجل، ويحلل، ويفسر، لاستخلاص أكبر قدر من المعلومات الوصفية الكيفية التي تساعده على فهم الظاهرة من مختلف الزوايا والأبعاد، نعم قد يسعى للحصول على معلومات كمية، وعلى ذلك تظل هذه المعلومات في دائرة التحليل الكيفي، وخدمة هذا التحليل.

ولكن ونخطو هذه المنهجية خطوة أبعد، وأكثر تقدمية في مجال استخدامها وتوظيفها كمدخل كيفي في المجال التربوي، وهذا ما يحدثنا عنه حسن البيلاوي في دراسته المتميزة حول «الإثنوجرافيا النقدية» حيث يصنف استخدام هذه المنهجية إلى ثلاث مستويات:

المستوى الأول: الإثنوجرافيا التقليدية، التي ترتبط بنظريات الثقافة بالمفهوم الأنثروبولوجي، أو بالنظريات البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع، أو بهما معًا، حيث يأتي البحث الكيفي هنا مرتبطًا بمبادئ ومفاهيم تفسيرية مسبقة، مشتقة من هذه النظريات، مثل مفاهيم: الدور المكانة، المعايير... إلخ، ومن أمثلة هذا النوع، تلك الدراسة الرائدة التي قام بها شيخنا حامد عمار في بداية خمسينيات القرن العشرين، واستهدفت تحليل العوامل الثقافية في عمليات التنشئة الاجتماعية في قرية «سلوا» بصعيد مصر. ومن مواطن الريادة في هذه الدراسة أنها خرجت على المناهج التي كانت مألوفة وقتها– وما تزال– مهيمنة مسيطرة على معظم بحوثنا التربوية، وهي المناهج الوصفية الكمية، المعتمدة على الإستبانات والتحليلات الإحصائية، وإيجاد معاملات الارتباط، دون تحليل كيفي يسبر أغوار الواقع ومشكلاته.

المستوى الثاني: الإثنوجرافيا التأويلية، التي تتم في إطار العلم الاجتماعي الرمزي باتجاهاته المختلفة، والتي تتمثل في التفاعلية الرمزية والفينومينولوجي والأثنوميثودلوجي وهي الاتجاهات التي تسعى إلى فهم الظاهرة الاجتماعية على المستوى الصغير ، ومستوى مفردات ووقائع الحياة اليومية للحالة المدروسة، فردًا كان أم جماعة، أم مجتمعًا محليًا، فالدراسة تنصب على المفردات والرموز والتفاعلات في سياقها الاجتماعي الطبيعي، من خلال المقابلات المعمقة، والملاحظة المشاركة، والخطابات والوثائق، وتاريخ حياة الحالة وسجلاتها وغيرها من أدوات الدراسة الإثنوجرافية التأويلية الرمزية. وهذه الاتجاهات على اختلافها ترفض النزول إلى الميدان بأفكار أو مفاهيم مسبقة، وإنما تشتق هذه المبادئ والمفاهيم من داخل الواقع الاجتماعي، لا من خارجه.

 أما المستوى الثالث: من الاستخدامات الإثنوجرافية فهي: «الإثنوجرافيا النقدية»، التي تنطلق من منظور نقدي، يهتم بدراسة الظواهر الصغيرة على مستوى وقائع الحياة اليومية ولكن في إطار الظواهر الكبيرة في المجتمع، ومن ثم تصبح الإثنوجرافيا النقدية محاولة للربط بين المنظور التأويلي الذي يهتم بدراسة الظواهر على المستوى الصغير، وبين المنظور النقدي الذي يهتم بدراسة الظواهر على المستوى الصغير، وبين المنظور النقدي الذي يهتم بدراستها في إطار الظواهر الاجتماعية الكبيرة ممثلة في البنى والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتفاعلات بينها وبين الأنشطة التربوية، التي تقع في الحياة اليومية داخل المدرسة.

باختصار يمكن القول: الإثنوجرافيا النقدية هي في الأساس–  كما يرى البيلاوي– دراسة للخبرة الإنسانية من الداخل، من خلال معايشة الباحث للحدث، والانخراط فيه، وهو مسلح بالمفاهيم والمبادئ النظرية التي تساعده على فهم الواقع، والتعامل معه، ورؤية الأشياء ببصر وبصيرة واعية، تمكنه من استخلاص القواعد الحاكمة القادرة على تفسير بنية الأحداث الاجتماعية المرتبطة بها، والمؤثرة فيها.

فالإثنوجرافيا النقدية لا تهتم فقط بالوصف المكثف، والفهم العميق لخبرات الحياة اليومية والواقع المعاش في السياقات المجتمعية، وإنما تسعى أيضًا إلى اكتشاف إمكانيات التغيير الكامنة في هذا الواقع. مما يجعل من هذه المنهجية إضافة جديدة في مجال علم اجتماع التربية بصفة عامة، واجتماع المدرسة بصفة خاصة.

وباختصار نقول: إن الأثنوجرافيا بمفاهيمها ومبادئها وأساليبها وطرائقها، ومهارات التعامل معها، وبها، باتت منهجية علمية معترفًا بها، ليس فقط في المجال الإثنوجرافي، وإنما أيضًا في المجال التربوي، وكما سبق أن أشرنا، هناك عشرات الدراسات التربوية الأجنبية التي تبنت هذه المنهجية في مختلف القضايا التعليمية والتربوية والمدرسية. وحققت فيها نجاحًا ملحوظًا ونحن في أشد الحاجة إلى تبني هذه المنهجية، وتوظيفها، لمعالة الكثير من قضايانا ومشكلاتنا التعليمية، من خلال الدراسات الحقلية، والتحليلات الكيفية للكشف عن الديناميات الكامنة– لا على السطح– وإنما تحت «جلد» ثقافة مؤسساتنا التعليمية، في علاقاتها وتفاعلاتها مع الثقافة المجتمعية السائدة، وما تفرزه هذه العلاقات من اتجاهات ومفاهيم، باتت تشكل معوقًا لعمليات التطوير المنشودة لتعليمنا المصري.

الأمر الأخير: ضرورة وجود الجماعات العلمية النقدية في البحوث التربوية والاجتماعية والإنسانية، فمن الحقائق المعترف عليها في فلسفة العلم أن «منهج البحث» في العلوم الاجتماعية يتجاوز ذلك الفهم الذي يشير إلى أنه مجرد جمع المعلومات والبيانات وتحليلها كميًا وكيفيًا، وغيرها من المسائل الفنية التي تتعلق بإجراءات الدراسة، وأنها هي تلك العمليات والإجراءات والمبادئ النظرية التي ينطلق من خلالها الباحث لدراسة ظاهرة أو مشكلة اجتماعية معينة، استهدافًا لإثراء المعرفة العلمية، وإمكانية الإفادة التطبيقية.

فالبحث الاجتماعي– في حقيقة أمره– يعد نشاطًا اجتماعيا ذا طبيعة فلسفية وأيديولوجية خاصة، فهو لا يعمل من فراغ، أو في فراغ، وإنما من خلال توجيهات معينة، ويأتي كوحدة واحدة، أو كمنظومة علمية تقوم على مسلمات وافتراضات فلسفية وأيديولوجية، ومن ثم فإنه بهذه الصفة لا يمكن أن ينمو أو يعيش إلا من خلال جماعة علمية لها معاييرها وتقاليدها ومفاهيمها ولغتها الخاصة بها، والمشتركة بين أفرادها، فمن خلال هذه الجماعة يعمل الباحث ويستمد وجوده العلمي.

وهذا الانخراط والاندماج في هذه الجماعة، لا يتم فجأة، وإنما من خلال ما يطلق عليه «التنشئة العلمية أو التطبيع العلمي للباحث» أو بتعبير أدق من خلال المشاركة والتفاعل العلمي والاجتماعي داخل هذه الجماعة، وتشرب قيمها وأخلاقياتها، وما تؤمن به من توجهات ومسلمات وافتراضات وعندما يثبت نجاحًا في ممارسة ما تؤمن به هذه الجماعة، تعترف به كعضو عامل فيها. وتصبح معتقدات، وطرائق البحث والأولويات والأهداف التي تنشدها هي عقيدته وطريقة تفكيره، ورؤيته للعلم وللمشكلات المحيطة به، والإجراءات الواجب ممارستها للتعامل معها، وبالتالي مثل هذه التنشئة يعد أمرًا في غاية الأهمية لنمو الباحث علميًا، وتحديد إطاره الفكري فضلًا عن أهميتها في تشكيل وتكوين المدارس الفكرية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم