بات من الضروريات الملحة أن تعي الأمة الإسلامية أن الإسلام سبب رئيس في تطوير علوم التخطيط والتنظيم، وأن تدرك أهمية اتخاذ القرارات المدروسة، وإنجاز الأعمال بدقة وإتقان، وعليها أن تعي أن الإسلام مرجع لكثير من العلوم الحديثة، فهو واضع ضوابطها وقواعدها.
وفى دراسة بعنوان: «التأصيل الإسلامي للتخطيط الاستراتيجي التربوي»، للدكتورة فاطمة سالم عبد الله باجابر، أستاذ مساعد- قسم التربية الإسلامية والمقارنة بكلية التربية- جامعة أم القرى، تهدف إلى إبراز جوانب التخطيط الاستراتيجي التربوي في مصادر التربية الإسلامية وذلك من خلال توضيح موقف الإسلام من التخطيط الاستراتيجي التربوي، وإبراز خصائص التخطيط الاستراتيجي التربوي في الإسلام، وتحديد ملامح التأصيل الإسلامي للتخطيط الاستراتيجي التربوي في عدد من المجالات منها: التعليمي، الاقتصادي، الاجتماعي، العسكري.
خطوات عملية التخطيط الاستراتيجي كالآتي:
الخطوة الأولى: التهيئة، الاستعداد، التجهيز
وفيما يتم تحديد الوقت المناسب للبدء في التخطيط الاستراتيجي، وهذا يتطلب أربعة أمور مهمة للتسير في عملية منظمة، هي:
- تحديد الموضوعات أو الاختيارات التي ينبغي أن تتناولها عملية التخطيط الاستراتيجي.
- تحديد الأدوار، لبيان نوع العمل الذي يقوم به كل فرد في العملية.
- تحديد لجنة مسيرة للتخطيط، لوضع بروفيل المؤسسة.
- تحديد المعلومات التي من الضروري جمعها لتساعد في اتخاذ قرارات سليمة، ويتمثل ناتج هذه الخطوة في خطة عمل.
الخطوة الثانية: صياغة الرؤية والرسالة مع المعنيين
وهذه المرحلة تتطلب إعداد الرؤية والرسالة بطريقة محددة، وبدرجة عالية من التميز عن نظائرها من المنظمات الأخرى.
الخطوة الثالثة: تقييم البيئة (مسح البيئة المحيطة)
وفيها يتم جمع المعلومات حتى اللحظة الراهنة عن نقاط القوى والضعف والفرص والتهديدات، وتقييم الأداء للمؤسسة، والتي توضح الموضوعات المهمة التي تواجهها المؤسسة، والتي يجب أن يبرزها التخطيط الاستراتيجي.
الخطوة الرابعة: بناء الاستراتيجيات، الأغراض، والأهداف
حيث ينبغي أن يشارك في بناء الاستراتيجيات الأفراد، بآرائهم في المناقشات وأساليب فنيات اتخاذ القرارات الرسمية، لكن في النهاية لا بد أن يوافق القائد على آلية التعامل مع الموضوعات المهمة.
الخطوة الخامسة: استكمال الخطة المكتوبة
بعد وضع الرؤية وتحديد الموضوعات الجوهرية والاتفاق على الاستراتيجيات تأتي هذه الخطوة، لتوثيق ذلك ورقيًا، ويتولى هذه المهمة عادة أحد أعضاء اللجنة المسيرة، وهو المدير التنفيذي أو أحد مستشاري التخطيط، ويمكن أن يصمم صورة مبدئية لوثيقة الخطة النهائية، ثم يتم توزيعها؛ لمراجعتها من قبل متخذي القرار، كما أنه في هذه الخطوة تتحول الخطوة المبدئية آليًا إلى خطة إجرائية؛ أي يتم وضع الخطط التفصيلية؛ لتحقيق الأهداف المحددة في الخطة الاستراتيجية.
موقف الإسلام من التخطيط الاستراتيجي التربوي
سيتم عرض موقف الإسلام من التخطيط الاستراتيجي، حيث تشير مصادر التربية الإسلامية إلى سنن الله الكونية، التي تدل على عظمة التخطيط الاستراتيجي، منذ أن خلق الله الكون، واستوى جل شأنه على العرش، ثم حواره مع الملائكة، بأنه سيجعل خلفاء في الأرض. مع فارق التشبيه بين أفعال الله وأفعال البشر.
الخطوة الأولى: تحديد الموضوع، وهو خلق الله للإنسان.
الخطوة الثانية: تحديد الرؤية والهدف من خلق الإنسان، حيث أخبر الله- عز وجل- الملائكة أنه سوف يخلق بشرًا، ويجعلهم خلفاء في الأرض.
الخطوة الثالثة: التهيئة والاستعداد، وهي بداية التنفيذ، فقد خلق الله الإنسان وصوره، ثم أمر الملائكة أن تسجد له.
الخطوة الثالثة: وهي مرحلة جمع المعلومات؛ من خلال المناقشات، وتحديد نقاط القوة والضعف والفرص والتهديدات، وبناء الاستراتيجيات اللازمة لاتخاذ القرار، وتتجلى هذه الخطوة حوار الله تعالى للملائكة، وحكمته في سجود الملائكة لآدم.
الخطوة الرابعة: وهي توقع النتائج والاحتمالات، وهي مرحلة رفض إبليس السجود، ليكون سببًا لعيش الناس على الأرض، وانكشاف أمر عدوهم لهم.
الخطوة الخامسة: استمرار عملية التخطيط في ضوء النتائج؛ حيث تستمر سلسلة تكاثر الإنسان على الأرض عن طريق الزواج.
وتتابعت الخطوات المرحلية لاستخلاف الإنسان في الأرض، والتي بدأت باتخاذ القرار، ثم تحديد الغاية العظمى من خلق الجن والإنس، ثم مرحلة التنفيذ، وتوكيل ملائكة تقوم بالعديد من الأعمال، منها: تدوين الأعمال، وجعل الجنة مصير المؤمنين، والنار مأوى الكافرين.
فتشير الآيات السابقة إلى أن الله أخبر ملائكته بمصير عباده، فمنهم من يدخله الجنة، ومنهم من يدخله النار، وذلك نتيجة أعمالهم. لأن الله بين لهم طريق الحق وطريق الضلال فمن اتبع أمر الله أدخله الجنة، ومن سار في اتجاه الهوى.
ما خصائص التخطيط الاستراتيجي في التربية الإسلامية؟
من خلال استقراء مصادر التربية الإسلامية تتجلى العديد من المبادئ الأساسية التي قام عليها التخطيط الاستراتيجي، والتي تتمثل في الآتي:
- القيادة قدوة.
- الإخلاص في العمل.
- الصدق في القول والعمل بين الرئيس والمرؤوسين.
- الشورى في التخطيط.
- التعامل العادل بين جميع المرؤوسين.
- التنظيم والتدرج في العمل.
- القدرة على تحمل المسئولية.
وقد حدد كل من بن دهيش، ورضوان، والشلال (1430 هـ) خصائص التخطيط الاستراتيجي بصفة عامة في الآتي:
- يركز على العمليات الكفيلة بإنجاز الأهداف.
- عقلاني، لأنه يهتم بالجوانب العقلانية، ويأخذ في حسبانه الجوانب غير العقلانية الناتجة من الطبيعة المتغيرة للظروف.
- يركز على البيئة الخارجية والداخلية، وعلى المعلومات الكمية والنوعية معًا.
- يربط بين جميع العمليات، ويشمل عدد كبير من أفراد المؤسسة.
- يركز على الابتكار والإبداع والحدس؛ أي على فن التخطيط وصناعة القرار.
- يستخدم الاتجاهات الحالية والمستقبلية لاتخاذ قرارات تتعلق بالحاضر والمستقبل على السواء.
التأصيل الإسلامي للتخطيط الاستراتيجي لكل من المجالات التربوية التالية
أولًا: التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال التعليمي:
وصفت الأدبيات الحديثة العصر الحديث في كثير من الكتابات العلمية بأنه «عصر العلم» و«عصر التخطيط»، وهذه التسميات ليست إلا انعكاسًا موضوعيًا، وتعبيرًا واقعيًا عما شهدته حركة التخطيط الاستراتيجي- القائمة على الأسلوب العلمي- من انتشار عالمي، واهتمام يتزايد يومًا بعد يوم في المجتمع المعاصر.
أما الأمة الإسلامية فمنذ شروق شمسها وضع لها المربي الأول- ﷺ- تخطيطًا استراتيجيًا تربويًا، يبين أهمية العلم وفضله، وطريقة الحصول عليه، والهدف منه، والحوافز المشجعة من أجل الوصول إل درجة العلماء، كل ذلك تشرحه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9)، وهذه المرحلة الأولى التي تضع الخط العريض حول أهمية العلم، ثم هناك أحاديث توضح الكيفية التي يكتسب بها المسلم العلم الصحيح.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة جمع البيانات وهي توضح كيف علم المربي ﷺ الصحابة جمع المعلومات والتأكد من صحتها، وتحمل المشقة للحصول على المعرفة، وفضل طالب العلم وأجره.
أما في المرحلة الثالثة فيكون التنفيذ، ويتجلى في تعليم الناس وترغيبهم في العلم، والترحيب بمن يريد أن يتعلم، وبيان أهمية العلم ومنزلة العلماء، وكانت على خطوات:
- الترغيب في تعليم الناس.
- تشير العلم قولًا وعملًا: فقد كان- ﷺ- يطلق سراح الأسرى المتعلمين من الكفار إذا علموا بعض المسلمين القراءة والكتابة.
- أخذ العلم من أهله، قال ابن سيرين: «إن هذا العلم دين فانطروا عمن تأخذون دينكم».
- تدريب الكوادر البشرية على حب العلم، وتوضيح الحوافز لترغيب الناس على طلب العلم.
- اتباع السلف الصالح تخطيط القائد ﷺ؛ آخذين في الاعتبار الخطوط الواضحة لنشر العلم، فكانوا يتواصون بذلك.
- انتشار مراكز العلم في أقطار البلاد.
- وضع جزاء لمن يخفي العلم، وبين أن من كتم علمًا أو حجزه على نفسه أو على فئة معينة من الناس فإن الله وعده بعقاب شديد.
- إخلاص النية لله في العلم.
- ترشيح أهل العلم وتقديمهم على غيرهم في المناصب، لأن العلم النافع لا تقتصر منفعته على مثوبة الله وعُلُوّ منزلته الأخروية فقط بل يُعَزُّ صاحبه، ويرفع درجته في الدنيا أيضًا.
- بيان مكانة العلماء ومنزلتهم.
- الحرص على تعليم الصغار والاهتمام بهم، ومن نشأ على حب العلم أخذ منزلته بين الكبار ومكانته عند أهل العلم، فالمرء يقدر بعلمه.
- تعلم العلوم وفهمها لا يقتصر على فئة عمرية، أو على رجال دون النساء، بل شمل الجميع على حد سواء.
- تعلم اللغات، فهي بداية لمعرفة ما عند الآخرين من علم.
- توطيد العلاقة بين المعلم والمتعلم. حتى يقبل المتعلم على التعليم بنفس راضية وعقل متفتح، فقد كان المربي الأول ﷺ يتعهد الصحابة بالموعظة والنصح والتذكير.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التنبؤ بالمستقبل ووضع البدائل واتخاذ الإجراء الوقائي:
حيث شرحت المرحلة السابقة الخطوات التنفيذية للتخطيط الاستراتيجي، والحوافز التي يحصل عليها طالب العلم؛ وهذا جعل الناس يقبلون على طلب العلم ويحبون الاستزادة منه، وحرصًا من المربي ﷺ على أمته من أن يأخذ المسلم بكل علم يسمعه، بين ﷺ للمسلمين أنه سوف يأتي زمان يكثر فيه الزيف والضلال، وعليهم تجنب العلم الذي لا يتوافق مع الشريعة وهذا ما نلمسه اليوم في واقعنا المعاش، حيث تضخمت المعرفة وتضاعفت، ولكن اعتراها الكثير من التضليل والانحراف عن الحق، قال رسول الله ﷺ: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم يسمعوا أنتم ولا أباءكم فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم»، فنشر الأكاذيب والأقوال الباطلة لها باع طويل في التاريخ، وقد حذر منها السلف الصالح منذ أمد بعيد.
يتبين مما سبق أن التخطيط الاستراتيجي في المجال التربوي غني جدًا، وغزير، ومهما أسهبنا في الحديث عنه لن نستطيع أن نحيط به، ولكن ما ذُكر هو تنويه للتأصيل الإسلامي في المجال التربوي، ولا يسمح المجال لسرد كل ما جاء عنه ﷺ تفصيلًا وإنما تعدادًا وتذكيرًا بأهمها؛ ويكفينا أن ننوه إلى أن أول كلمة نزلت على المربي هي «اقرأ» ففعل القراءة كان مرحلة أولى للعلم، ثم جاء ذكر مفتاح العلم، وهو القلم، وهي مرحلة أرقى من القراءة، وهكذا نجد التدرج في المعرفة والتعليم، وهو من الخطوات المهمة في التخطيط الاستراتيجي التربوي.
كما يتضح من السياق السابق أن التخطيط الاستراتيجي الإسلامي التربوي سبق أنواع التخطيط التربوي الحديث في طرق التدريس والتعامل مع المتعلمين، ونشر العلم؛ لأن العلم تقوم عليه كل المجالات الأخرى، فالثروة البشرية هي مصدر الثروة الاقتصادية.
ثانيًا: التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال الاقتصادي
يقوم التخطيط الاستراتيجي دائمًا على الدراسة للأوضاع، وجمع البيانات، والتأكد من صحتها، ثم وضع التخطيط المناسب لها، وهذا الأمر جاء في القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد وضع سبحانه وتعالى قواعد الميراث، قال تعالي: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ولِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا(7) وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُوْلُوا القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (النساء: 7-8)، وذلك نظرًا للمسئوليات التي تقع على كاهل الرجل وأهمها النفقة.
كما قام القائد العظيم ﷺ بالتخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال الاقتصادي عندما حل ﷺ بالمدينة، وأخذ يدرس أوضاعها، فمن ضمن ما رأى: أن الناحية الاقتصادية بيد اليهود، وأنهم يملكون السوق التجارية في المدينة وأموالها، ويتلاعبون بالأسعار، ويتحكمون في السلع ويحتكرونها، ويستغلون حاجة الناس فيرابون عليهم أضعافًا مضاعفة، وبما أن اقتصاد الدولة يؤثر في جميع الجوانب: تربوية، واقتصادية، واجتماعية، وصحية...؛ لذلك رأى ﷺ ضرورة عمل تخطيط فعلي تطبيقي، فأمر ﷺ ببناء سوق للمسلمين منظمة وبسرعة، وأصبح الناس يقبلون على سوق المسلمين.
فكان التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال الاقتصادي في مراحل متدرجة كالتالي:
المرحلة الأولى: هي المرحلة التخطيطية في البيع بين الطرفين البائع والمشتري؛ حيث وضعت القاعدة العريضة، وهي السماحة بين الطرفين، قال ﷺ: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى». وتتحقق السماحة في البيع إذا تحقق ما يلي:
- منع الحلف الكاذب في البيع قال ﷺ: «الحلِفُ مُنفِقَةٌ للسلعةِ، مُمحِقَةٌ للبركةِ».
- يجوز لكل من المتبايعين الخَيار في فسخ البيع ما داما مجتمعين لم يتفرقا، قال النبي ﷺ: «البَيِّعَانِ بالخيارِ ما لم يتفرَّقَا، أو قال: حتى يتفرَّقَا، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَتَمَا وكَذَّبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيَعْهِمَا».
- نهي الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه، قال ﷺ: «لا يبيعُ بعضُكم على بيعِ بعضٍ...».
- سرعة دفع الأجر للأجير، قال رسول الله ﷺ: «أعْطُوا الأجيرَ أجرَهُ، قبلَ أنْ يجِفَّ عرقُهُ، وأعْلِمْهُ أجرَهُ وهو في عمَلِهِ» وإن كان الحديث ضعيفًا إلا أنه يحث على الفضائل.
- تحريم الربا بأنواعه قال تعالي: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275).
- الترغيب في العمل، فقد كان القائد ﷺ يشجع أصحابه على العمل، قال ﷺ: «لأَن يغدُوَ أحدُكم فيحطبُ على ظهرِه، فيتصدَّقُ به ويستغْني به من الناسِ، خيرٌ له من أن يسألَ رجلًا، أعطاه أو منَعه ذلك. فإنَّ اليدَ العُليا أفضلُ من اليدِ السُّفْلى. وابدأْ بمن تعولُ».
المرحلة الثانية: هي المرحلة التنفيذية
إن القائد يقوم بنفسه بالإشراف بين الحين والحين؛ ليتفقد الأمور، ويعالجها قبل تفاقمها، وينفذ ويطبق ما يراه مناسبًا، وكانت المرحلة الأولى: وهي معرفة المشكلة الاقتصادية التي تواجه البلاد، ثم المرحلة الثانية وها: اتخاذ القرار بتطبيق النظام الإسلاميّ الذي ينظم سير الحياة الاقتصادية بما يضمن كافة حقوق الأفراد، ثم المرحلة الثالثة: وهي الممارسة والتنفيذ ومباشرة العمل، ثم المرحلة الرابعة: وهي التنبؤ والتخطيط المستقبلي المبني على البيانات، ووضع البدائل المتوقعة، والعلاج المناسب للوصول لغاية منشودة.
إن التدرج في الخطوات هو أساس التخطيط الاستراتيجي الحديث، وذلك يدل على أن للتخطيط الاستراتيجي قواعد وأحكام وأفعال مصدرها الشريعة الإسلامية، وجذورها تكمن لدى الأنبياء والرسل، الذين كانوا يخططون من أجل إنجاز أعمالهم الدينية والدنيوية.
ثالثًا: التخطيط الاستراتيجي التربوي في المجال الاجتماعي:
تجلت عظمة الإسلام في تشريعاته وأخلاقياته ومعاملاته حتى مع غير المسلمين، وتجسد تأثير الرسول ﷺ في تربيته لأصحابه، وخاضوا نقله عالمية، نقلت العالم من ظلام الجهل إلى نور الإيمان، وحملوا لواء الاستقامة، وشاع نور دولة إسلامية، بدلًا من ظلام الوثنية، فقد جاء الإسلام بأعظم عقيدة توازن بين الفرد والجماعة؛ إذا جعل التكافل الاجتماعي يُبنَى على أساس الأخوة الإسلامية، وهو طراز فريد من التعاطف الإنساني، وله أثره في القضاء على العنصرية الطبقية، وقد حقق الإسلام صهر جميع أفراد المجتمع في بوتقة واحدة؛ بالرغم من تباين أصولهم، واختلاف جنسياتهم وثقافاتهم، ويتضح ذلك جليًا عندما هاجر المسلمون إلى المدينة فرارًا بدينهم، تاركين وراءهم أموالهم وديارهم، فكانوا بحاجة ماسة إلى المساعدة، فكانت المرحلة الأولى من التخطيط الاستراتيجي الذي وضعة القائد ﷺ.
المرحلة الأولى: أن يتآخى المهاجرون مع الأنصار، كل رجل أنصاري يكون له أخ من المهاجرين، وهذا الأمر أسس أجمل وأروع تكافل اجتماعي في تاريخ البشرية، تأكدت فيه العلاقات الاجتماعية الإسلامية، ومعنى الأخوة الصادقة، وله أبعاد متعددة منها: الجانب الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي.
أما المرحلة الثانية: فقد كانت تنظيمية؛ أي تحتاج إلى رؤية شمولية للمجتمع، حيث كان يعيش في المدينة عدد من القبائل المتفرقة (الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود المختلفة)، فالبلاد تحتاج إلى تخطيط استراتيجي لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية؛ لأنها تتكون من طوائف متعددة تحتاج إلى من ينظمها، فأرسل الرسول ﷺ لكل قبيلة كتابًا حدد فيه علاقة المسلمين بغيرهم من اليهود والمشركين، وأوضح فيه واجبات وحقوق كل من المسلمين وغيرهم.
وكانت المرحلة الثالثة: فقد كانت تنفيذية؛ حيث اهتم الرسول ﷺ بتطبيق الأنظمة التي وضعها، فجعل المسلمين أمة واحدة؛ رغم تعدد القبائل، واعتبر كل قبيلة من قبائل اليهود لا علاقة لها بالأخرى، ووضع عليهم عقوبات لمن ينقض العهد، فلا تؤخذ قبيلة بجريرة الأخرى حتى لا يجتمعوا على حرب الرسول ﷺ.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التقويم والمتابعة؛ أي متابعة العلاقات بين المسلمين، وتعزيز السلوكيات الإيجابية في المجتمع؛ فتواجد الناس في المجتمع الإسلامي ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة للتعارف والتآزر، ولمساعدة الفرد على معرفة الله وتقواه، ومساندته في مقتضيات الحياة بما يرضى الله، قال تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
وقد حرص الخالق على استمرار العلاقات الاجتماعية بين عباده، فجعل لهم مكانة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، قال ﷺ: «إنَّ من عباد اللهِ لأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشهداءُ يومَ القيامةِ بمكانهم من اللهِ قالوا: يا رسولَ اللهِ! فخَبِّرْنا من هم؟ قال: هم قومٌ تحابّوا بروحِ اللهِ على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنورٌ، وإنهم لعلى نورٍ، ولا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناسُ. وقرأ هذه الآيةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}».
المرحلة الخامسة: مرحلة وضوح النتائج؛ حيث أوضح مآل من يتبع خطوات الشيطان، وجعل حوافز لتعزيز العلاقات الاجتماعية؛ حرصًا على استمراريتها بطريقة صحيحة، تزيد من ترابط الأمة الإسلامية؛ لتكون أفضل أمة على أرض الواقع، فهذه المرتبة العالية التي ينالها المسلم بأخوة الدين، تجعله يتمسك ويحرص عليها، لما لها من فضل ومكانة عند الخالق ﷺ، فأخوة الدين أثبت وأقوى من أخوة النسب؛ لأن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. والآية تؤكد ذلك، قال تعالي: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10). فبهذه الأخوة الإيمانية استطاع المنهج الرباني أن يقرب بين النفوس، ويؤلف بين القلوب، وهذا ما أذهل العالم حين فؤجي بهذه الأمة الواحدة، والتي تجمعت من أخلاط من الناس، كانوا أعداء، وبعد الإسلام أصبحوا إخوة يسعون معًا إلى توطيد دعائم المجتمع، وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين.
الخاتمة
- إن التخطيط الاستراتيجي ليس وليد العصر كما يعتقد كثير من الناس، بل هو مبدأ إسلامي موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية.
- التخطيط الاستراتيجي التربوي الذي تُستقَى أصوله من القرآن الكريم والسنة النبوية يقود العمل إلى النجاح، ويتلافى الوقوع في الأخطاء، ويعالج نقاط الضعف.
- إن الفرد الذي يخطط تخطيطًا استراتيجيًا تربويًا يجب أن يكون أهلًا للمسؤولية التربوية، وعلى درجة عالية من الخبرة والعلم.
- التخطيط الاستراتيجي المبني على أصول التربية الإسلامية أهدافه واضحة، وأنشطته متنوعة ومحددة مسبقًا، لذلك يصل إلى غايته بيسر وسهولة، ومن ثم يمكنه التنبؤ بالمستقبل، والرد على الاستفسارات التي تواجه العاملين كل في مجاله.
- اتضح من مجالات الدراسة التي تم تناولها أن التخطيط الاستراتيجي المستقى أصوله من التربية الإسلامية له أهميته وتأثيره في المجالات التعليمية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعسكرية.
- إن التخطيط الاستراتيجي التأصيلى قادر على دراسة المشكلات الراهنة، ووضع الحلول المناسبة لها؛ مستفيدًا من الإمكانيات البشرية والاقتصادية المتاحة في ضوء متغيرات العصر.
.