قال الأستاذ الدكتور خليل يوسف الخليلي، عميد كلية التربية جامعة البحرين، في دراسة له بعنوان: «التحديات التي تواجه البحث التربوي في الوطن العربي»، أنه بعد ما يربو على ثلاثين سنة من خبرته في التدريس الجامعي، ومطالعاته المتواصلة للبحث العلمي، ومشاركته في تأليف خمسة عشر كتابًا تربويًا، ونشر ما يزيد عن خمسين بحثًا في العديد من المجلات العربية والأجنبية، والإشراف على ما يزيد عن خمسين رسالة ماجستير ودكتوراة، والمشاركة في مناقشة ثلاثين رسالة أخرى، والنظر في ترقية ثمانية وعشرين زميلًا وزميلة إلى مرتبة أستاذ مشارك أو أستاذ، وإدارة تحرير مجلة العلوم التربوية والنفسية التي تصدر عن كلية التربية بجامعة البحرين لمدة خمس سنوات في مرحلة تأسيسها، وترؤس تحريرها لمدة خمس سنوات أخرى.
بعد كل هذه الخبرة الطويلة مع المسيرة البحثية العربية والأجنبية تكونت لديه مشاعر الأسى والحزن على واقع البحث التربوي في الوطن العربي، مع عدم اليأس والقنوط مع الأمل، واليقين في نهوض أمتنام من تخلفها إلى قيادة الحضارات وتوجيهها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110).
واقع البحث التربوي في الوطن العربي
يمكن أن نصنف البحوث التربوية التي تجري في الوطن العربي على ثلاث فئات وهي
1- البحوث التي تنفذ بغرض الحصول على درجة علمية:
وهي أطروحات الماجستير والدكتوراة، وهي بحوث فردية تتصل بشكل رئيس بتخصص الطالب، وتلامس واقع المشكلات التربوية التي يعيشها الطالب بحكم خبرته الميدانية، وفي الغالب لا تجد نتائج البحث وتوصياته أذنًا مصغية من قِبَل صانعي القرار، وتبقى هذه التوصيات حبيسة دفتي الأطروحة في أرفف المكتبات.
2- البحوث التي ينفذها أعضاء هيئة التدريس في كليات التربية:
وهي في الغالب بحوث للترقية إلى رتبة أستاذ مشارك أو أستاذ، وهذه الأخرى لا تجد توصياتها أذنًا مصغية من صناع القرار، ولا يستفاد من نتائجها في رسم سياسات التعليم أو تطوير المناهج وطرق التدريس، أو تطوير عمليات التقويم، أو مصادر التعلم، أو غيرها مما يتصل بنتائج البحث.
وبحوث أعضاء هيئة التدريس، تكون بجهود فردية، وبمبادرات شخصية وليست مؤسسية التنظيم بمنظومة متكاملة، وغير ملبية لحاجات الميدان ومخططاته، كما أن إسهاماتها في تطوير المعرفة وإنتاجها تكون ضئيلة إن لم تكن معدومة.
وفي الغالب تعاني هذه البحوث من ضعف شديد، وارتكاب للعديد من الأخطاء البحثية؛ ومن مؤشرات هذا الضعف أن المجلات العلمية الرصينة ترفض غالبية هذه البحوث فمجلة «العلوم التربوية والنفسية» التي تصدر عن كلية التربية بجامعة البحرين رفضت حوالي 48 % مما وردها من بحوث خلال الأعوام العشرة الأولى من عمرها، و«المجلة الأردنية للبحوث التربوية» التي تصدر عن جامعة اليرموك في الأردن، رفضت (80 %) من البحوث التي وردتها في الأعوام الأولى من عمرها.
ومما يؤلمنا في هذه البحوث، وحتى المنشور منها أنك تجد الباحث يخصص جزءًا كبيرًا من تقرير البحث لعرض الإطار النظري الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى تسع صفحات، ويخصص جزءًا آخر للعرض التفصيلي للدراسات السابقة، وقد يصل إلى حوالي تسع صفحات. فلماذا كل هذه التفاصيل؟ فهل يحتاج القارئ لقراءة مثل هذه المعلومات؟ ينسى معظم الباحثين أن تقرير البحث هو تقرير فني يكتب للخاصة وهم زملاء المهنة وليس كتابًا تعليميًا لطلابنا.
ومع أنك تجد الباحث نفسه قد كتب تقريرًا لبحث نشره في اللغة الإنجليزية وقد اختصر الإطار النظري والدراسات السابقة إلى نصف صفحة، أو صفحة، أو صفحة ونصف، وذلك في مقدمة البحث.
3- البحوث المؤسساتية:
وهي التي تنفذها الجهات الحكومية المسؤولة عن التعليم وفق حاجاتها الميدانية وسياساتها التعليمية، وهذه البحوث قليلة، وربما لا يُعمل بنتائجها ميدانيًا، ولا تعدو الفائدة منها عرضًا لنتائجها أمام المسؤولين في ندوة علمية، وينتهي كل شيء بانتهاء الندوة، وتوضع هذه البحوث لغايات التوثيق في الرفوف حيث يشار إليها في التقرير السنوي الذي يعد للقيادة العليا.
تحديات البحث التربوي في الوطن
يعاني البحث التربوي في الوطن العربي من العديد من المشكلات الحادة والتي تشكل تحديات لهذا البحث، وتسهيلًا لعرض هذه التحديات، فإنني أصنفها في الفئات الأربع الآتية:
أولًا: تحديات ذات صلة بالباحثين التربويين العرب:
1- ضعف العديد من الباحثين التربويين العرب أنفسهم وخصوصًا خريجي الجامعات العربية وبعض الجامعات الأجنبية: هنالك العديد من كليات التربية في الوطن العربي، وفي الخارج ممن تتهاون في معايير قبول الطلبة في برامج الدراسات العليا لاستقطاب أكبر عدد من الطلبة. وبذلك يجد الضعاف مكانًا لهم كحملة دكتوراة أو ماجستير في التربية فماذا سيضيف هؤلاء إلى مسيرة البحث؟ فهم إما أن يركنوا إلى اللقب، ويكتفوا بحرف الدال أمام أسمائهم، وأمام مكاتبهم، وفي تقديمهم في المؤتمرات والندوات، وإما أن يحاولوا إثبات أنفسهم في ميدان البحث العلمي بإجراء العديد من البحوث بالتقليد والمحاكاة، وبالنمطية المكررة، دون أدنى مستوى من المعرفة بأساسيات البحث العلمي.
ولا يكتشف مثل هذه التجاوزات العلمية إلا المتخصصون، ولكنها تنطلي على أمثال هؤلاء الباحثين الضعاف من زملائهم، فيبادرون إلى الإشادة بهم وبإنتاجهم العلمي الهزيل، والذي قد أوصل بعضهم إلى الحصول على جوائز علمية قيمة كجائزة عبد الحميد شومان للباحثين الشبان العرب. فالباحث يجب أن تكون لديه القدرة على التفكير بالمستويات العقلية العليا التي تمكنه من التحليل، والنقد، وصياغة الأفكار، وربطها.
ولذلك فإنه يجب على كليات التربية أن تضع شروطًا قاسية جدًا لقبول الطلبة في برامج الدراسات العليا.
2- ضعف الإعداد العلمي للباحثين في كليات التربية العربية وبعض الكليات الأجنبية:
يعلم المنصفون بأن العديد من الجامعات العربية وبعض كليات التربية الأجنبية تعمد إلى منح درجة الدكتوراة بالمراسلة، حيث يسجل الطالب في البرنامج، ويرتب زياراته للمشرف عليه في أوقات مريحة، ويوجهه هذا إلى تنفيذ أطروحته حول مشكلة تربوية، ويطلب منه حضور عدد من السمنارات والمشاركة فيها، وبعد إنجاز الأطروحة تتم المناقشة، وبالمجاملة للمشرف عليه يمنح درجة الدكتوراة، إن مثل هذا الإعداد يثمر بخريج ضعيف لا يعلم من العلم إلا ما بحث فيه في أطروحته، ولا يعلم شيئًا بالقضايا والتوجيهات العالمية في ميدان تخصصه كما أنه لا يعلم شيئًا بأساسيات البحث العلمي من مثل تحديد المشكلة، وصياغة الفرضيات العلمية، ومناهج البحث المختلفة، وطرق تحليل البيانات، والتوثيق إلا التقليد لما يعمل الآخرون.
فالبحث التربوي السليم يحتاج إلى باحث قادر متمكن من ناصية البحث العلمي. لذا فإنه يجب على الجامعات التي تمنح درجة الدكتوراة بالأطروحة فقط إعادة النظر في برامجها، وإلزام الطلبة بحضور مقررات أساسية في ميدان تخصصاتهم كفيلة بتخريج باحث كفء، متنور، قادر على متابعة مستجدات العصر باللغة الإنجليزية، والتي هي أكبر وسيلة للنشر العلمي في وقتنا الحاضر، حيث تتجاوز نسبة الإنتاج الفكري اليومي المنشور باللغة الإنجليزية 75% على مستوى العالم.
3- غياب التواضع العلمي عند عدد من الباحث:
يحتم التقدم العلمي التقني المذهل وجود تباين كبير بين الباحثين في معارفهم، ومهاراتهم، وخبراتهم. فقد انتهى عصر العالم الموسوعة، وعلينا أن نتحلى بالتواضع العلمي، فيلجأ بعضنا إلى بعض لطلب المساعدة، ومن الحكمة أن نستعين بخبرات زملائنا في تصويب أخطائنا البحثية قبل التسرع إلى تنفيذ البحث، وتحليل بياناته، ونشره في مجلة ميسرة مقابل أن ندفع مبلغًا ماليًا لهذه المجلة، ومن الحكمة أن يبدأ الباحث مسيرته بمشاركة كبار الباحثين المشهود لهم بالمكانة العلمية المرموقة للاستفادة من خبراتهم، ثم الاستقلال عنهم في مراحل لاحقة.
4- قلة الوقت المخصص للبحث العلمي:
إذ ينشغل أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بالتدريس ومتطلباته، ويتم البحث فوق هذا العبء، وبالمقابل، تجد أن الباحثين في الجامعات الأمريكية يعملون بأعباء تدريسية مخفضة جدًا، وذلك لأن البحث العلمي هو جزء من النصاب التدريسي حسب طبيعة البحوث التعاقدية التي تنظمها جامعاتهم ومراكز البحوث فيها. وقد لمست ذلك شخصيًا عندما كنت بتفرغ علمي في جامعة ولاية متشغان في إيست لانسج عام 1992 حيث لاحظت أن بعضهم لا يُدَرّس شيئًا طيلة فصل دراسي أو فصلين دراسيين، وأغلبهم يُدَرّس مقررًا واحدًا فقط بواقع ثلاث ساعات أكاديمية.
5- الضغوط الاجتماعية والأسرية على الباحثين:
يعاني العديد من الباحثين العرب من ضغوط اجتماعية وأسرية من مثل توافر السكن المناسب. والدخل المناسب للإنفاق على تعليم الأبناء، ومتطلبات الحياة للعيش بمستوى اجتماعي لائق. ومما لا شك فيه أن مثل هذه الضغوط تترك أثرًا معوقًا على الباحث في إنتاجه العلمي المميز.
6- الضغوط على الباحث في متطلبات الترقية لإنجاز بحوث فردية:
تؤكد غالبية الجامعات على الأهمية الكبرى والوزن الأعلى للأعمال الفردية في الإنتاج العلمي؛ وهذا ربما يؤدي إلى خلق بيئة غير سوية، تفسح المجال إلى تجاوزات في مجال أخلاقيات البحث العلمي.
7- غياب الجو العلمي المناسب للبحث العلمي:
أي غياب اللقاءات الفكرية والثقافية التي تشجع على الاطلاع والمشاركة في الأفكار، والعصف الذهني وبالمقابل ننشغل في جلساتنا بالسياسة، وبأحداث الساعة.
8- قلة البحوث التي تواكب المستجدات في المسيرة البحثية العالمية وتساهم فيها بإنتاج علمي متميز:
فقد أشار العديد من الباحثين التربويين العرب، بأننا مستهلكين للمعرفة ولسنا منتجين لها.
9- يعاني العديد من الباحثين من صعوبات في تحليل البيانات واختيار التحليل الإحصائي المناسب في البحث الكمي:
وربما تكون المشكلة أكبر في تحليل البيانات في البحث النوعي، حيث يتطلب تحليل البيانات قدرة عالية من التفكير، والتحليل، والربط، واشتقاق المعاني، والتمحيص في صدق البيانات بالتثليث.
ثانيًا: تحديات ذات صلة بالجامعات التي يعمل بها الباحثون:
يدور جدل كبير في الأوساط الأكاديمية حول ما إذا كانت جامعاتنا جامعات بحثية، أم جامعات تدريسية، أم الاثنتين معًا، فمن المعلوم أن الأستاذ الجامعي هو المحور الذي تقوم عليه الجامعات في أداء رسالتها. وتتركز أدواره ضمن أربعة أركان، وهي: التدريس، والبحث العلمي، وخدمة الجامعة، وخدمة المجتمع. وفي حقيقة الأمر نجد أن الجامعات تؤكد على استيفاء عضو هيئة التدريس لنصابه التدريسي ولا تحاسبه على أدائه في البحث العلمي، بمعنى أن الاهتمام بالبحث العلمي ليس بالمستوى المماثل للاهتمام بالتدريس.
ولعل أهم التحديات ضمن هذا المحور ما يأتي:
1- قلة الحوافز المشجعة على البحث:
يحتاج الباحثون إلى أن تقدم لهم جامعاتهم حوافز تشجعهم على البحث، مثل تقديم المنح العلمية، وتخفيض النصاب التدريسي، وتقديم المكافئات المجزية، وتسهيل المشاركات في الندوات والمؤتمرات العلمية.
2- غياب المساءلة عن التقصير في البحث العلمي:
قلما تحد تشريعات في معظم الجامعات العربية تلزم الباحثين بإنجاز عدد من البحوث سنويًا وإلا فقدوا وظائفهم في هذه الجامعات، وقد لاحظت أن بعض الزملاء يتقاعدون من الخدمة وهم برتبة مدرس.
3- قلة الميزانية المخصصة للبحث العلمي:
لا يشكل البحث العلمي أولوية في ميزانية الجامعات العربية. وإذا حصل أن الميزانية تحتاج إلى شد الأحزمة على البطون، فأول اقتطاع يتم في مخصصات البحث العلمي، ومشاركات أعضاء هيئة التدريس في المؤتمرات العلمية، وعدم السماح لهم بحضور المؤتمرات العلمية في الدول الأجنبية إلا ببحث علمي، وتقنين إجازات التفرغ العلمي إن لم يكن وقفها بالكامل.
4- قلة توافر المراجع ومصادر المعرفة باللغة العربية، وضعف إمكانات معظم الباحثين العرب ممن هم خريجو الجامعات العربية باللغة الإنجليزية:
إن مثل هذا الواقع يؤدي إلى أنه يصعب على معظم الباحثين العرب مواكبة المستجدات والاطلاع على أحدث ما توصلت إليه الإنسانية من معرفة في مجالات التربية.
5- قلة توفير المجلات العلمية المحكمة الرصينة، التي تولى التحكيم العلمي الصارم أهمية جوهرية:
مع أننا نجد أن جميع المجلات المتخصصة بنشر البحث العلمي التربوي تكتب في مقدمتها أن البحوث التي تنشرها تخضع للتحكيم، إلا أنك تفاجأ بأن البحوث التي نشرت في هذه المجلات مليئة بالأخطاء العلمية الفاحشة، إضافة إلى الأخطاء اللغوية والطباعة، فأين الصرامة العلمية والتحكيم العلمي المزعوم في هذه المجلة؟ ومما يؤسف له أن بعض هذه الأخطاء يكررها الباحثون اللاحقون إذ يجدون ذلك مبررًا لارتكابها ما دامت أنها قد ودرت في بحث علمي منشور في مجلة علمية محكمة.
6- غياب التكامل بين الجامعات العربية:
برغم وجود الاتحاد العام للجامعات العربية، والجهود الكبيرة التي يبذلها الاتحاد في تنظيم اللقاءات الدورية حتى على مستوى عمداء الكليات المتناظرة، إلا أن واقع الحال من حيث ضعف التكامل فيما بين هذه الجامعات لا يزال قائمًا.
ثالثًا: تحديات ذات صلة بميدان البحث:
يعاني الباحثون التربويون العرب من العديد من المعوقات ذات الصلة بميدان البحث، بعضها مشترك فيما بين مختلف الباحثين التربويين العرب وغير العرب، وبعضها خاص بالميدان العربي؛ ونستعرض فيما يأتي أهم هذه المعوقات:
1- المشكلات التربوية معقدة، ومتداخلة، ومتعددة المحاور:
تلعب في المشكلات التربوية العديد من المتغيرات التي يصعب ضبطها، وذلك لأنها تتخذ في الغالب من الإنسان ميدانًا للبحث. وبالمقابل نجد أن الباحثين في العلوم الطبيعية يتعاملون مع الظواهر الطبيعية التي يسهل ضبطها وإجراء البحوث العلمية حولها. فالبحث في الإنسان هو من أصعب أنواع البحوث العلمية.
2- تعد مصادر المعلومات وتنوعها:
إن تعدد مصادر المعلومات ذات الصلة بالمشكلات التربوية يستلزم استخدام العديد من أدوات القياس إذا رغبنا في دراسة مشكلة البحث دراسة شمولية، وفي العادة لا تكون أدوات البحث التي تتوافر فيها خصائص الملاءمة، والصدق، والثبات غير جاهزة؛ فيضطر الباحث إلى بنائها بنفسه؛ وبذلك ربما تتهيأ الفرصة لتجاوزات في أخلاقيات البحث العلمي.
3- طبيعة المتغيرات التربوية:
يتم التعامل في دراسة المشكلات التربوية في الغالب مع السمات البشرية تكون المتغيرات فيها سلوكية يتم قياسها بطريقة غير مباشرة، وذلك لأن هذه المتغيرات ليست سوى مؤشرات للسمات الكامنة التي نستدل عليها من السلوك الظاهري، والقياس يتم على السلوك الظاهري وليس على السمة التي ولدت هذا السلوك، ومن هنا تنشأ العديد من الصعوبات في تقليل الخطأ، وضبط مصادره.
4- قلة تعاون عينات البحث مع الباحثين التربويين:
يعاني العديد من الباحثين من قلة تعاون عينات البحث، ومن اللامبالاة بالتقيد بتعليمات الباحث، خصوصًا في الحالات التي تكون أداة البحث هي الاستبانة.
5- صعوبات تحقيق التوازن بين الصدق الداخلي والصدق الخارجي في التجارب الحقيقية التي تنفذ في الميدان التربوي:
تتضح هذه الصعوبة في البحوث التجريبية، وبذلك تكون التصاميم التجريبية هي تجارب ميدانية أو تجارب ما بعد الحدث حيث نتعامل مع المتغيرات بعد تشكلها ولا يستطيع الباحث صنعها، أو التدخل فيها. وبشكل عام فإن ميدان البحث التجريبي الحقيقي عصي على الباحث في معظم الأحيان.
6- اتجاه معظم البحوث إلى البحث الكمي:
تأثر الباحثون من حيث لا يشعرون بالفلسفة الوضعية، فاتجهوا إلى البحث الكمي، وقلما نجدهم يستخدمون البحث الكيفي، أو يوائمون بين هذين النوعين من البحوث. وفي الحقيقة تتصف البحوث الكمية بسهولة تنفيذها، وبسرعة إنجازها.
رابعًا: تحديات ذات صلة بالسياسات البحثية:
ينتظر المجتمع من الجامعات ومراكز البحوث التي تحتضن الباحثين أن تقدم نماذج راقية تصنع التغيير، وتقود حركته إذ أن الارتقاء بالبحث العلمي التربوي، يسهم في تقوية رأس المال البشري، الذي على أساسه تقوم التنمية الشاملة الحقيقية، وتستطيع به أن تمتلك الدول القوة الفاعلة فالبحث التربوي المتميز يحتاج إلى مناخ متميز.
وقد تنبه القادة العظام عبر التاريخ إلى أهمية البحث العلمي، فاتخذوا سياسات بحثية صارمة ذللت كل العقبات أمام البحث العلمي؛ فأوصلوا أمتهم إلى قمة الحضارة وإلى الصدارة في قيادة العالم. ومن أمثال ذلك رواد النهضة العلمية في صدر الإسلام حيث أغدق الخلفاء العباسيون في القرن الرابع الهجري على العلماء بالعطايا والاهتمام، والاحترام والتقدير، فشمخت حضارتنا.
وقام ستالين في الاتحاد السوفيتي بتجميع العلماء في مدينة سماها مدينة العلماء؛ وفر لهم كل احتياجاتهم العلمية والإنسانية، وطلب منهم مساعدته ببحوثهم، فتوصلوا إلى العديد من النظريات العلمية، والأسلحة التي تدمر العدو، ومن جملتها القنبلة النووية، وفعل الشيء نفسه شارل ديغول في خمسينات القرن المنصرم مع علماء فرنسا، فاخترعوا له القنبلة النووية. وفي ثمانينات القرن الماضي قال رئيس الولايات المتحدة الأمريكية كارتر بأننا يجب أن نربي أبناءنا على أننا قادة العالم، وأننا نقوده بالعلم.
ولعل أهم التحديات التي يواجهها الباحثون التربويون العرب ذات الصلة بالسياسات البحثية ما يأتي:
1- غياب السياسات الموجهة للبحث العلمي:
تتم غالبية البحوث في البلدان العربية دون وجود سياسات بحثية واضحة المعالم وفق خطط استراتيجية محددة، ولذلك تنشط البحوث الفردية والبعيدة كل البعد عن مشكلات المجتمع، وحاجاته.
2- غياب البيئة المشجعة على البحث العلمي التربوي الحاضنة له:
يعاني الباحثون التربويون العرب من ضعف انتشار ثقافة البحث العلمي، وتقدير دوره في تطوير الدولة وتقدمها، إذ تتخذ القرارات التطويرية في المجتمع دون الاستنارة بالبحث العلمي أو دون الاستفادة من نتائجه في هذه القرارات الغربية. وفي الغالب تكون هذه القرارات التطويرية إما استنساخًا لتجربة ثبت نجاحها في إحدى البلدان الغربية، أو اجتهادات من صانع القرار نفسه.
3- ضعف الإنفاق على البحث في الدول العربية:
تشير الإحصاءات الدولية (The World Bank, 2008) إلى أن الإنفاق على البحث العلمي من الميزانية العامة لمعظم الدول العربية لا يعدو 0.3 % وبالمقابل تجد أن هذه النسبة حول 3.1 % في الولايات المتحدة واليابان.
4- اتساع الفجوة ما بين الباحثين والمستفيدين من البحث:
إن وجود فجوة بين الباحثين تجعل كلًا منهم يعمل على هواه دون تنسيق أو ترتيب أو اتفاق على الإفادة المتبادلة.
5- هجرة عدد من العقول ذات الكفاءات العالية إلى خارج وطنها:
يضطر العديد من العلماء بمختلف المجالات ومن بينها التربية إلى هجرة أوطانهم نتيجة للسياسات غير المشجعة لهم؛ وبذلك تخسر الأمة مساهماتهم في حل مشكلاتها التربوية.
حلول ومقترحات
هنالك فجوة بين الباحثين والمستفيدين من البحث، وهذا لا يحتاج إلى إثبات أو توثيق كما يقول عودة (2010)، ومن محاولات تضييق الفجوة، ظهور البحث الإجرائي حيث يكون المستفيد من البحث هو الباحث نفسه، وبحوث السياسات. وحتى تتحقق الفائدة التطبيقية من البحث، ومعالجة للمشكلات التي يعاني منها البحث العلمي التربوي، فإننا نقترح الأخذ بالتوصيات الآتية:
- التشدد في معايير قبول الطلبة في برنامجي الماجستير والدكتوراة في كليات التربية المنتشرة في أرجاء الوطن العربي بحيث لا يقبل في مثل هذه البرامج إلا الشريحة العليا من ذوي القدرات العالية، حيث أن هؤلاء سيصبحون قادة فكر وباحثين متخصصين يتصدون لمعالجة المشكلات التربوية. وأرى أنه يجب ألا يقل تقدير الطالب في درجة البكالوريوس والذي يقبل في مثل هذه البرامج عن جيد جدًا. كما يجب أن يشترط فيه أن يتقن اللغة الإنجليزية، بحيث لا تقل درجته عن 550 في امتحان التوفل TOEFL أو ما يعادله.
- تدريس المقررات التخصصية (حلقات التخصص) والبحث العلمي باللغة الإنجليزية وذلك في برنامجي الماجستير والدكتوراة حتى يستطيع الخريج الرجوع إلى ما ينشر في هذه اللغة الحية من مستجدات العلم. وهذا لا يعني انتقاصًا للغتنا لغة القرآن الكريم أبدًا فكلنا يعرف هذه اللغة، ويستطيع فهم أي بحث ينشر فيها بمفرده، أما اللغة الإنجليزية فإنها تحتاج إلى مدرس يعين الطالب في فهم ما ينشر فيها.
- توجيه وسائل الإعلام والجهات التي تهتم بالثقافة إلى التركيز على نشر ثقافة البحث العلمي وما يترتب على نتائج البحث من قرارات مستنيرة تسهم في تطوير تربية أجيال الأمة؛ والتنبيه إلى مخاطر اتخاذ القرارات التطويرية دون الاستناد إلى نتائج البحوث العلمية الرصينة.
- العمل على دعم البحث العلمي برفع مخصصاته في الميزانية العامة للدولة بحث يكون للباحث نصيب مناسب كمكافأة عن إنجاز البحث الذي يخدم التطوير التربوي في الدولة.
- ربط دعم أي مشروع للتطوير التربوي بتخصيص جزء من ميزانية المشروع للبحث العلمي المصاحب له بحيث يواكب البحث التطوير، وهذا يحجم القرارات غير المستنيرة بالبحث العلمي، ويسهم في تصويبها وتطوير البرامج التربوية التي ترفع شأن الأمة.
- تشجيع النشر العلمي في المجلات العلمية المتخصصة صارمة التحكيم، فمنها نتعلم حتى وإن رفضت بحوثنا فيها. ويجب أن يحرص الباحث على طلب تقارير محكمي بحثه إن تم رفض نشره فيها، حتى لا يقع في الأخطاء التي دعتهم إلى رفض بحثه، ويجب أن يتجنب الباحث نشر بحوثه في المجلات الضعيفة التي تنشر البحث على علاته دونما تمحيص أو تدقيق. فهذه المجلات تسيء إلى الذي ينشر بحوثه فيها.
- تحفيز الباحثين ماديًا ومعنويًا، وتوفير المناخ والبيئة الجاذبة للباحثين، عن طريق تفريغهم جزئيًا أو كليًا للبحث العلمي وابتعاثهم داخليًا، أو خارجيًا للاطلاع على التجارب الرائدة في مراكز البحث العلمي المتخصصة الناجحة.
- إلزام الباحثين بتخصيص جزء من أوقاتهم للبحث العلمي بقرارات ملزمة خلال مدد محددة، وإلا يتم فصلهم من العمل الجامعي.
- تسهيل مهمات الباحثين في الحصول على المعلومات اللازمة للبحث العلمي، وتوفير وسائل المعلومات وإتاحتها للباحثين من مثل توفير المصادر والمراجع في المكتبات عن طريق الاشتراك في المجلات الرقمية المفتوحة.
- إنشاء مراكز أو وحدات متخصصة بالبحث العلمي مزودة بالكوادر والتسهيلات اللازمة لتعمل كحلقة وصل بين الباحثين والمستفيدين من البحث. ومع بروز العولمة، تزداد إمكانات الربط الشبكي بين الباحثين والمستفيدين من هذه البحوث، وتقديم الاستشارات للجهات المستفيدة.
- أن تعيد الجامعات العربية التي تمنح درجة الدكتوراة بالبحث العلمي فقط النظر في برامجها، بحيث تلزم الطلبة بدراسة عدد من المقررات المحورية اللازمة لإعداد باحثين متخصصين يمتلكون ناصية البحث العلمي بوعي واطلاع على المستجدات في ميادين تخصصاتهم.
- اقتصار الابتعاث على الجامعات الأجنبية التي تمنح درجة الدكتوراة بالمقررات والأطروحة، وعدم ابتعاث أي طالب إلى الجامعات التي تمنح الدكتوراة بالبحث العلمي فقط.
- تنظيم الورش التدريبية للباحثين بمستجدات العصر في مناهج البحث، وتحليل البيانات وتفسير النتائج وكتابة تقارير البحوث العلمية الصالحة للنشر في المجلات العلمية الصارمة التحكيم باللغتين العربية والإنجليزية.
- تشجيع اللقاءات العلمية الفكرية في مناخ علمي بحثي يدفع الجميع إلى مواكبة المستجدات، وإجراء البحوث العلمية بمنهجية سليمة تثمر بمساهمات عربية في المسيرة العالمية.
.