أكد د. عمر قورقماز، مستشار رئيس الوزراء التركي، أن ندوة «الإسلام والحرية» التي عقدها موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية تعد من الأهمية بمكان لأنها تناقش قضية من أخطر القضايا الحضارية والإنسانية.
وأشار في كلمته تحت عنوان «أثر الحرية في نهضة تركيا الحديثة» أنهم من خلال تجربتهم العملية في قضية الحرية أن من السهولة أن نلوم الآخرين وأن نعفي أنفسنا، لكن الإسلام يسوق لنا نصوصًا واضحة وعملية ألا نتحرك بناء على الآخرين نحونا، ولكن نتحرك من خلال النصوص التي تقيدنا وترشدنا؛ وكل نضالنا ينطلق من هذا المبدأ؛ لذا ليس المهم ما يفعله غيرنا بل ما نفعله نحن.
ونتساءل أنه لو نجح الربيع العربي هل كنا سنعقد هذه الندوة التي تتحدث عن الحرية أم كنا نحن من سيقيد الحرية؟ هذا السؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا لأن التجارب الاجتماعية للحركات الإسلامية بشكل عام وليس الإخوان المسلمين تشير إلى أن ما يخصصونه في أدبياتهم للحرية قليل.
الحرية والتحرر
الحركة الإسلامية في تركيا ترى أن الحرية والتحرر تبدأ بالفكر أولًا، فالعلماء يبدأون كلامهم في المساجد بالآية {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25-28)، أي حرر لساني من العقدة، وهذا التحرر يكون من كل العقد أي بالتعددية السياسية والاجتماعية ...الخ، فهل نقوم في الحركات الإسلامية بذلك أم يوجد ضيق الصدر في التعامل مع الجماعات الأخرى أو العلماء الآخرين أو الأحزاب السياسية الأخرى؟
قديمًا قالوا إذا كان الشخص لا يفكر بحرية ويقود المجتمع بها يكون مقلدًا ويتبع مفكرًا أو قائدًا آخر، ويسمى من يفكر بحرية مجتهدٌ أو فقيه؛ لذا إذا كان القائد أو المفكر ليس لديه تصور عن الحرية فإن لدينا إشكالية حقيقية، وقديمًا علماؤنا كانوا يجمعون بين الفقه والسياسة والقيادة، هذا الأمر أصبح نادرًا في العصور الحديثة، وأحد أسباب ذلك أن الكثير في البلاد العربية والإسلامية فضلوا العلوم التطبيقية مثل الطب والهندسة على العلوم الاجتماعية والسياسية، والآن ندفع الفاتورة كبيرة جدًا، حيث أدركت الحركات الإسلامية أن من يديرون الصراعات بمهارة هم أهل السياسة والفسلفة والعلوم الاجتماعية، ولذلك بعض الشباب في مصر مثلًا بعد أن درسوا الطب والهندسة يدرسون الماجستير والدكتوراة في العلوم الاجتماعية، وهذا بداية خير، لكن نحن نتمنى من الشباب الذين يدرسون في الأزهر وغيرها من الجامعات أن يجمعوا بين دراسة العلوم الاجتماعية وغيرها من العلوم مثل الرياضيات المهمة لإعمال التفكير المنطقي، فهؤلاء ربما هم من سيصنعون لنا المستقبل.
ولأن المفكرين هم من يحركون المجتمعات؛ فعادة ما يكون عددهم قليل لكنهم في عمل دؤوب وحركة مستمرة، وقد سئل أحد المفكرين وكان يعمل كثيرًا: لماذا تعمل كثيرًا ولا تنام إلا قليلًا، فقال: إذ لم أعمل أنا فغيري لن يستيقظ.
والمجتمعات الإسلامية إذ لم تكن فيها أفكار متعددة واتجاهات متنوعة لن يكون فيها تقدمٌ ولا تحضرٌ اجتماعي أو سياسي. لذلك إذا حصرنا شبابنا في بعض الكتب المحددة ومنعناهم من الاطلاع على كتب وأفكار أخرى؛ بذلك نكون قد حجمنا الحرية كثيرًا للشباب وسنُخرج أجيالًا محدودة التصورات والأفق، وغالبًا من يفعل ذلك يكون بدعوى رفض التقليد لكنه يصنع أشخاصًا مقلدين.
هناك علاقة جوهرية بين الحرية والتحرر والتحرير والكتابة، من لم يكن محررًا في كتاباته لن يستطيع تحرير الشعوب، ولذلك يبدأ التحرر أولًا في الأدب والثقافة، والبلاد العربية لديها القدر الكافي من المحررين، لكن مفهوم التعددية الذي كنا نعيشه في التاريخ لا نجده عند الكثير في الفكر المعاصر، ففي الدولة العثمانية كانت التعددية كبيرة جدًا إسلامية وغير إسلامية، فمدينة اسطنبول بعد فتحها سنة 1453م عاش المسلمون بها أقلية أكثر من 400 سنة، النصارى واليهود والعرقيات الأخرى كانوا يعيشون بكل حرية وهذا كان يعطي الدولة قوة عجيبة.
الإشكالية الموجودة حول الحرية حلها يبدأ بالأسرة ثم في المدراس ثم في الأحزاب السياسية ثم منها إلى الدولة، وإذ لم تعالج قضية الحرية بالتربية في الأسرة ثم باقي السلسلة فإن كل من يأتي إلى السلطة سوف يكون ديكتاتوريا هو الآخر. ولذلك إذا لم نربي أبناءنا في البيوت على التعددية بشكل صحيح لن نجد التعددية في المجتمعات ولا في الأحزاب السياسية ولا في البرلمانات.
الحرية والديمقراطية
وعندما نتحدث عن الحرية يأتي مصطلح الديمقراطية، وعندما نتحدث عن الديمقراطية غالبا نقصد بها الحرية، لكن هناك من ينزعج من مصطلح الديمقراطية؛ فعندما نذكر الديمقراطية يأتي فورًا بمصطلح الشذوذ ويقول ماذا تفعلون في الشذوذ؟ وماذا تفعلون في بيوت الدعارة؟ وماذا تفعلون بالأحزاب الملحدة في البلد؟ لكن هذا مدخل غير صحيح في فهم الديمقراطية، فالديمقراطية تنبثق من الشعب، والشعب إذا كان مسلم هو من يحدد هذه الأمور، وعادة المجتمعات الإسلامية لا تتقبل هذه الأمور، فلا يفرض علينا أحد ما ليس من أولويات الشعب، ومن هنا لا نضحي بالحرية الكبرى التي نفقدها في مجتمعاتنا وهي في أشد الحاجة لها بسبب هذه النقاشات وهذه القضايا الفرعية، أما الأمور التي حددها الشرع بنصوص فهي ثابتة وأصلية، فمسألة الشذوذ والزنا وغيرها ليست مسائل فرعية ولكن يتم علاجها بالتدريج.
تحويل الإسلام إلى برامج عملية
مشهور عن الحركة الإسلامية شعار «الإسلام هو الحل» ونريد أن ننزله من الشعار إلى البرامج العملية، الحل في الصحة والتعليم والاقتصاد، حيث نقدم البديل للاقتصاد الموروث الذي يدرس في كليات الاقتصاد في العالم العربي وهو مترجم عن الرؤية والدراسات الغربية، لكن نحن نتحدث عن الاقتصاد البديل المستمد من المشروع الإسلامي الذي سيكون متقدمًا أكثر من المشروع الاقتصادي الربوي، وقد تأخرنا كثيرًا مثلًا في فتح البنوك الإسلامية، لكننا بدأنا وهذا مؤشر جيد، وكذلك في باقي المجالات.
تأخرنا كثيرًا حوالي 30 أو 40 سنة، ولكن الآن أصبحت البنوك غير الربوية منتشرة بشكل كبير حتى عند الغربيين، كما تأخرنا في مجال الإعلام من قبل أن نلتحق به مؤخرًا، مع عدم تغطيته بشكل كامل، فما زال ينقصنا سينما إسلامية.
ولا نجد مجاهدون كثر في إنتاج السينما، ولكن نجد مجاهدون كثر يريدون الموت في سبيل الله، ولذلك تعجبني كلمة للأستاذ راشد الغنوشي يقول فيها: «يعجبني مجاهدوا السينما».
والجهاد هو أن نوصل المجتمع إلى أحسن حالٍ حتى يتعبد لله سبحانه بشكل صحيح، عبر إعطاء الحرية للشعوب وليس قمعها.
ولا أدرى لماذا انتشرت مؤخرًا كتب المراجعات الفكرية التى تصدرها بعض التيارات الإسلامية بعد خراب مالطا كما يقولون، لا أدرى لما لم يتقيدوا منذ البداية بالفقه الإسلامي وأصوله ومقاصد التشريع، ولا بالتجربة الزهرية العريقة بغض النظر عن بعض التفاصيل.
مع أن كثيرًا من الأفعال التى ارتكبها كاتبوا المراجعات متعلقة بحقوق العباد، ومهما كتبوا من مراجعات فإن الله سبحانه وتعالى لن يسامحهم، لأن حقوق العباد مرتبطة بالعباد وليس بالله سبحانه وتعالى.
وهناك سؤال هام يجب طرحه، هل الحريات والتعددية تقسم البلد أم تطوره؟ اختلفوا في الإجابة على هذا السؤال؛ فهناك من يقول إن الحريات الكثيرة تؤدى إلى انقسام البلاد، وهذا ليس صحيح، ولذا نرى بعض الأنظمة هنا وهناك تقيد الحريات بشكل كبير لأنه هو الذي في السلطة. وهذا غير صحيح، فالحريات هى التي تجعل الشعوب تثق في نظامها ودولتها، وتجربتنا الإسلامية تاريخيًا مليئة بهذه النماذج، والسلطة إذا كانت عادلة توزع الثروة والحرية بشكل عادل، فليس هناك مشكلة.
لماذا التجربة التركية
عندما نتحدث عن التجربة التركية فلا ينبغي أن ننسى تجربة الدولة العثمانية، لأن التجربة التركية أتت بعد الدولة العثمانية، وهناك هلالين ما بين تجربة الدولة العثمانية وتجربة الحركات الإسلامية المعاصرة.
خلال الستين سنة الماضية لم تكن هناك تعددية في هذا البلد، وبدأت التعددية تدخل منذ ثلاثين سنة تقريبًا، لكن كيف تعاملت تجربتنا الإسلامية في نهضة تركيا مع التدخلات في فترة من الفترات، هذا ما لا بد أن نشير إليه.
وحين نتحدث عن النهضة التركية الإسلامية لا بد أن نتحدث عن المعلم نجم الدين أربكان رحمه الله، فأربكان كان يتميز ببعض المواصفات هي التي مكنته من جعل تركيا تتقدم إلى الأمام، لذلك أنا دائمًا أهتم بتكوين الشخصية ومعرفة خلفية الرجل وكيف توصل إلى ما توصل إليه.
مثلا السلطان محمد الفاتح، كيف وصل إلى ما كان عليه؟ وما هي المناهج التي درسها؟ ومَن العلماء الذين تولوا تربيته وقاموا على رعايته؟ وأربكان نفس الشيء.
أربكان يتميز ببعض الخصائص، أولها: أنه درس على أيدي بعض العلماء وجمع بين العلم والهداية، والله سبحانه وتعالى أعطى له الفراسة والدراية، وكان يجمع بين الأدب الإسلامي، والأخلاق العالية، والتجربة الأكاديمية المتقدمة.
هذا التصور صنع في تركيا الإسلام السياسي المعاصر التقدمي، وتختلف عن الجماعات الدينية في تركيا وفى خارجها، وبالتالي فهو منذ صغره حين كان في السادسة والعشرين وكان يدرس في ألمانيا، رأى أن المجتمع الألماني يتقدم بشكل سريع، مع أنهم دخلوا في الحرب العالمية الثانية بينما تركيا لم تدخل، ومع ذلك فهم يتقدمون وتركيا تتخلف.
وهو في هذه السن، كتب رسالة إلى شيخه في خمسين صفحة يشرح فيها كيف تنهض تركيا اقتصاديًا، ولذلك كان يركز في الحقيقة على «الاقتصاد» و«النظام العادل»، وكان يعتقد أن هذين المشروعين لا يمكن أن يطبقا إلا من خلال حزب سياسي.
وأدرك أيضًا أن الاقتصاد التركي لا يكفي لنهضة أمة؛ ولذا أسس مجموعة دول الثمانية؛ لأنه كان يعتقد أن تركيا وحدها لا يمكنها أن تنقذ الأمة، لذا أشرك معه بعض الدول الإسلامية والعربية.
أيضًا، طور منظومة اجتماعية داخليًا وسماها «النظام العادل»، مع مجموعة من المفكرين الذين لديهم أفكار شاذة استفاد منهم حتى آخر لحظة، وأمثال هؤلاء كثير ولا بد أن نبحث عنهم في مجتمعاتنا كما نبحث عن النفط بالإبر. هؤلاء الذين يفكرون بطريقة مختلفة ربما لا تعجبنا في بعض الأحيان.
هو استطاع تطبيق الأفكار التى طورها بنفسه على نظام البلديات، وطبقها في الفترة القصيرة التي قضاها في السلطة، ولذلك كنت أسأله لماذا الاقتصاد؟ فكان يقولك إن الاقتصاد هو من باب {والمؤلفة قلوبهم} للشعوب، وإذا لم نُشبع الشعوب فلن يقفوا معنا ولن يدعموا مشروعنا.
وأخيرًا، فهو الذي ملأ هذه البلد بالمصانع الكبيرة، وغيّر كثيرًا من المعادلات، وكانت هناك أسئلة محرجة للإسلامين، ألغى هو بجوابه عنها هذا الحرج، ولم يعودوا يسألون عنها، من ضمن هذه الأسئلة: ما رأى الإسلاميين في مصطفى كمال أتاتورك؟ وأيضًا ما رأى الإسلاميين في العلمانية؟
فقد أجاب عنهما بطريقة سلسلة وحكمة إسلامية لطيفة وقال: «لو كان أتاتورك يعيش لانضم لحزب الرفاه؛ لأنه كان يتحدث عن نهضة تركيا، وإذا كانت هذه مواصفات أتاتورك فإذن نحن نركض خلف هذه المواصفات»؛ فانتهى هذا السؤال.
أما السؤال الثانى بالنسبة للعلمانية، فقد قال إن الإسلام يؤمن بالتعددية وحرية الأديان، وبالتالي أنتم فاشيون ولستم علمانيون، ونحن نطبق النظام الحقيقى للعدالة والديمقراطية.
وأخيرًا، أشير إلى أن أربكان أغلقت له أربعة أحزاب سياسية، لكنه كان يرى أن الأحزاب السياسية مثل الحصان، وأنه إذا أُخذ منه حصانه في طريقه ومشروعه فما زال الطريق له، وهو كان يمشى في الطريق.
والنقطة الثانية، أنه برغم اختلافه مع القوانين والأنظمة الموجودة، إلا أنه لم يخرج عن إطار القانون أبدًا، لأنه كان يعتقد أنه سيغير القانون بالقانون، ولذلك حين أُغلق حزب الرفاه، عقد مؤتمرًا صحفيًا والكل كان ينتظر أن تدخل تركيا في التجربة الجزائرية الدموية، لكنه خرج أمام الإعلام وقال بكل بساطة: «أيها الشعب التركي، أيها الإخوة والأخوات، أبنائي أريدكم أن تلتزموا بيوتكم حتى لا يُستغل خروجكم في الشوارع».
أما ما حدث اليوم، فهو نقطة بسيطة جدًا في مسيرتنا الحضارية، لا نهتم بهذه الأشياء، صراعنا ليس مع هؤلاء الأشخاص الذين حاولوا القيام بانقلاب عسكري، وإنما هو أكبر من ذلك، مع الأشخاص الذين يديرونهم. وأشرت إلى هذه النقطة لأنه بدون هذا الموقف، لم يكن ليكون هناك الطيب أردوغان، ولما كان هناك حزب العدالة والتنمية، ولا غيره، فهذا الرجل كان حكيمًا.
وبعد عهد أربكان، نُفّذت الكثير من المشاريع التى كان يحلم بها أربكان، وتغيرت تركيا تمامًا. وفى النهاية فهذه المدرسة الموجودة ممتدة من تلك المدرسة، بمناهج ومواد مختلفة.
وأخيرًا، فإن لم نعرف المجتمعات المعاصرة التى نعيش فيها بكل تفاصيلها، فلا نتكلم في الأمور السياسية، لا بد أن ندرس بشكل دقيق، وأوصي الشباب بقراءة كتاب «سيكولوجية الجماهير» لجوستاف لوبون، فهذا الكتاب يعيطينا الكثير من الخيوط التى يمكن بها أن نفهم المجتمعات وغيرها الكثير.
.