استيقظ الجميع في لحظة فوجدوا الزوج وقد أحاطت به جنود الظلم، تبث رياح الرعب، وزفير الغضب على من في البيت، ولم يغادروا قبل أن يحطموا كل شيء، وعبثت أيديهم في كل شيء، ثم خرجوا وقد تركوا البيت تلالًا من الركام.
وفي دراسة خاصة (للمنتدى الإسلامي العالمي للتربية) للباحث (عبده دسوقي) حول (بيوت ما بعد الاعتقال) يوضح فيها الكواليس النفسية التي يمر بها المعتقل، أثناء اعتقاله، وبعد الخروج من المعتقل؛ وما يواجهه من مشكلات مع زوجته وأبناءه؛ والضغوط التي تتعرض لها الزوجة والأسرة كلها أثناء فترة الاعتقال وما بعد الخروج. وعرض بعض الحلول للتغلب على هذه الأمور النفسية الصعبة.
ثم غاب الزوج واختفى ولا يعلم أحد مكانه، ومر اليوم ثم الأيام وما زال الزوج مختفيًا لا يُعرف أين ذهب؟ ثم مرت السنوات وما زال الزوج قابعًا خلف القضبان لتبدأ مرحلة جديدة، يستيقظ الزوج على أصوات الرعب ماذا جرى؟ تفتيش، ويوم آخر عندك محاكمة؛ وفي زنزانة جمعت ما بين مختلف الطباع، وقليلًا منهم من يحمل في قلبه اللين وحب الغير، لكنها حياة مملوءة بالوقوف في طوابير لدخول الحمام، وطوابير أخرى لتجهيز الطعام، بل في بعض الزنازين توجد استباحة للخصوصيات، والتعدي على الممتلكات، وغيرها من منغصات الحياة التي لا تنتهي في هذه الأماكن.
وعلى الطرف الآخر هناك رحلة طويلة تبدأ من منتصف الليل لتجهيز الطعام وشراء المستلزمات والسفر للعديد من الكيلومترات للوقوف أمام البوابات وانتظار دخول ما يسمى بالزيارات، لتجلس الزوجة مع زوجها قليلًا من الوقت حيث تراقبها العيون، وتعكر صفو جلستهم أجساد قاسية تُسمى نفسها عبد المأمور، كل ذلك بعد رحلة من التفتيش الشديد والألفاظ النابية للجميع، وبعثرة الأشياء وحجبها عن الدخول، وبكاء الأطفال لشدة ما يرون من إهانات، وأخطاء في جدول الزيارات أحيانًا فتعود الزوجة إلى بيتها تحمل الأسى والحزن الشديد، وتمر السنين تلو السنون والأيام تلاحقها الأيام ويظل الزوج خلف السجون في عالم المجهول، حيث صعوبة مكان النوم الذي ربما لا يجده، بعد أن كان ينعم بالسرير الواسع الفاره، الآن لا يستطيع النوم في أقل من خمسين من السنتيمترات.
يعيش الزوج كل يوم في رعب؛ فكل يوم ينتظر هجومًا شرس من قبل القائمين على السجن لبعثرة كل ما لديه، فهذا تفتيش سجن، وآخر تفتيش مصلحة وربما كل يوم وربما يتم تجريده من كل شيء.
وليس ذلك فحسب بل صعوبة الذهاب للمستشفى ونيل بعض الحقوق، بل يخشى كل يوم أن يُحرم من التَّرَيُّض والخروج من جحيم زنزانته في الهواء قليلًا، بل الروتين اليومي القاتل الذي يغلف كيانه ويسيطر على وجدانه، ومن المفارقات أن الناس في الحياة الطبيعية تنتظر النهار لتنعم بالأمن بعد ليل مرعب، لكن السجين ينتظر الليل لينعم ببعض الراحة والهدوء لأنه الوقت الذي – غالبا- لا يأتي فيه تفتيش أو تعكير صفو.
لا يتوقف الأمر عند ذلك بل انتظار الجلسات والنطق بالإحكام وتجديد تلو تجديد، ومن قاضٍ لقاضٍ ومن تُهم لتُهم، ومن تبديل ملابس بيضاء لزرقاء ثم إلى حمراء.. وانتظار التنفيذ وانفرادية الزنازين..كل هذه الحياة وأكثر تركت ندبات على الأجساد، وغيبة في الأذهان، ورعبًا في المحيا والمنام، وفزع مما هو آت.
ولو نظرنا للزوجة الثكلى، والأطفال الجوعى.. ونظرة الناس لهم واتهامهم بالإرهاب، والتضييق عليهم في الحياة، وهجران الأهل والأحباب، وضيق ذات اليد– إلا من المخلصين الأتقياء- والخوف من أن يطرق عليهم أحد الباب، والشعور بالغربة وقسوة الحرمان، والخوف من أن يهجم عليهم أحد إذا أقبل الليل، ونظرة أطفال المعتقل للآباء وهم يصحبون في أيديهم أولادهم، ويظهرون خوفهم عليهم وشغفهم لطلباتهم في وقت وقوف هذا الطفل غائر العين، حزين القلب يتذكر أباه، ويسرع إلى أمه يحكى لها ما رآه ويسأل عن أباه الغائب سؤالًا كأنه خنجر سُدِّد في صدر الزوجة المكلومة، والتي حرمت دفء زوجها، ورُميت بالكلام من كل صاحب قلب به هوى.
تظل الزوجة منشغلة بزوجها فتتحمل مسئولية فوق المسئوليات التي زادت عليها فحرمتها نِعَمَ الحياة، بل أكثر من ذلك تنتظر في كل وقت أن تُختطف من وسط أبنائها في دولة لا قانون لها ولا اعتبار.
وفي مكان الزيارات منهم من يقابل الزوج ومنهم من يراه من خلف الأسلاك، ومنهم من يحرم منه بالشهور بل بالسنين.. معاناة ما بعدها معاناة.. وقهر وظلم لم يتخيل أحدهما أن يعيش فيه، أو أنه موجود على قيد الحياة، كل ذلك– بلا شك- يترك في النفوس آثارًا، وفي القلوب أشجانًا، وشروخًا تنتظر السنوات لتلتأم بالحب والعرفان والحنان المتبادل بين الزوج وزوجته بعد رحلة العذاب.
فالزوجة تعوّدت طيلة فترة غيابه على أن تكون صاحبة القرار، اقتصاديًا وأسريًا، مما خلق خلافات كثيرة، كما لعب العامل الاقتصادي في هذه الحالة الدور الحاسم، فعدم عمل السجين بعد الخروج أثر في العلاقة الزوجية طالما أن خروجه لم يسهم في تغيير مكانة وأدوار أفراد الأسرة والعلاقة بينهم، فبقيت المسؤولية الاقتصادية على عاتق الزوجة، مما لم يسمح له بممارسة دور رب الأسرة، وهو ما ساعد في خلق الأزمات.
أيضا غالبًا ما وَجد السجناء المفرج عنهم صعوبة في التعاطي مع أولادهم الذين عانوا هم بدورهم من تبعات علاقتهم بآباء سجناء سياسيين([1]).
لكن هل هذا يتحقق؟ للأسف ومن المتابعات والنظر في حال من خرجوا لم يعد الأمر للوئام بالسرعة المرجوة خاصة إذا كانت مدة الغياب طويلة، وإن كانت ليست في كل البيوت لكنها مشكلة تؤرق كل البيوت.
الانفصال الصامت بين الزوجين
بعد رحلة طويلة ومتعددة الآهات يخرج الزوج فيعود البيت الذي تنطلق منه صيحات الفرح، وكلمات الشوق، وسعادة غامر تظلل الجميع، ويحيا الزوج والزوجة والأولاد فترة هنيئة يحاول كل واحد منهم التعرف على خصال الآخر بعد فترة انقطاع صعبة، تخللتها محن وانزعاجات ومضايقات، وتغيير في النفسيات، واضطراب في المشاعر والأحاسيس.
ينعم الزوج بدفء الحياة مع زوجته، وتنال الزوجة قسطًا من الحنان من زوجها بعد الجفاء، وتنطلق ضحكات الأطفال، وذلك قبل أن يتبدل الحال وتطفوا نفسية كل منهما في وقت المشاحنات الروتينية، أو تمسك الزوج ببعض التصرفات التي كان يمارسها خلف القضبان والتي لا تتناسب في ظل المكان الجديد والوضع الذي غاب عنه السنين، وتشعر الزوجة– والتي كانت تحمل كل شيء وشعرت بذاتها في تلك الفترة- بتجاهل الزوج لكم التضحيات أو محاولة فرض سلطاته دون اعتبار لزوجة أو أولاد، في هذا الوقت تتذبذب المشاعر فتعلوا شيئًا وتنهار أشياء، ويصبح كل واحد يلتمس الأخطاء للآخر– وهو في ذلك معذور وهي أيضا له العذر- لأن هناك أمور قد تبدلت وأوضاع قد تغيرت ولابد أن يفهمها الجميع.
أضف لذلك حياة الرعب والقلق الذي يحياه البيت من أن يهجم عليهم زوار الليل مرة أخرى، فيختطفون رب البيت من وسطهم، أو لربما هذه المرة يختطفوا الزوجة بكثير من التهم والبرهان.
فالشعور بالجفوة بين الزوجين سبب كل أزمة منزلية، ومبدأ كل خلاف، فقد تتصاعد المشاكل بين الأزواج وتظهر علامات العبوس في الوجوه، ويشعر كل من الزوجين بمحنته وعدم راحة باله بمجرد التعرض لمشكلة ما– المشاكل العارضة قد تحدث يوميًا- يتعنت كلٌّ برأيه ويرفض رأي الطرف الآخر، ويترك للشياطين فرصتها التي تسعى إليها بكل ما أوتيت من حيل للإفساد والتفريق.
فتظل الزوجة أو الزوج يذكر كل منهما المشاكل السابقة لدى الآخر بمجرد التعرض لمشكلة ولو صغيرة، ويبدأ كل منهما بتذكر سيئات الآخر وسقطاته، ناسيًا كل حسنة أو خير أو جميل قد قام به من قبل تجاهه .
ويشعر كل منهما أثناء المشاكل أنه يعاني من الجفاء لدى الطرف الآخر، ومن مظاهر ذلك:
- أن يعيش في قوقعته داخل البيت تاركًا الحوار مع الطرف الآخر.
- أو يكبر عنده الجفاء عندما ينظر لغيره من الأسر وكأنها الأسرة السعيدة الناجحة، متصورًا الفشل في أسرته وعدم متانة بنيانه.. لكنه لو دقّقَ وعمّقَ تفكيره ولو قليلًا لعرف وظهرت له الحقيقة التي قد تغيب عليه.
- عدم كفاءة الزوجين في حل مشاكلهما الحياتية وتجميد المناقشة والمصارحة ما يؤدي إلى إقامة حاجز بينهما. ومن المحزن إذا احتلت الكراهية محل المحبة، والحياة النكدة محل الحياة السعيدة؛ تصبح الحياة بين الشريكين حياة نكدة ومتعبة.
- افتقاد الجو الأسري... حيث يسعى كل واحد لاستكمال جوانب حياته التي تَعَوّد عليها.
- حدوث فجوة بين مفاهيمه ومفاهيم زوجته وأبناءه نظرًا لاختلاف البيئة التي عاش فيها كل منهما.
- كبت مشاعرها طول الوقت: وما يتبع ذلك الكبت من ضعف المشاعر أو تشوهها أو تحولها إلى أعراض نفسية أو نفسجسدية([2]).
بل يخرج الزوج وقد طبعت الممارسات التي ذكرناها آنفا عليه عدة تغيّرات تطال شخصيته والتي تكون من إفرازاتها ما يلي:
- طبيعة شخصية حادة وغير متكيَفة للفرد.
- نمط من عدم الثبات النفسي عاطفيًا.
- إعاقة قدرة الفرد على التفكير والحكم على الواقع.
- اضطرابات وقلق مزمن وتهيج واستنفار مستمرين.
- عنف ومشاجرات وردود فعل صاخبة عاطفية ونفسية مقارنةً مع الحدث([3]).
لكن السؤال المهم هل اعتاد الأولاد أن يكونوا بلا أب، واعتادت الأم أن تكون بلا زوج، فلم تنتبه أنها تفقد أحاسيس معينة.. حتى ماتت هذه الأحاسيس بداخلها؟
واقع مر
يقول عزت غنيم- الأمين العام للتنسيقية المصرية للحقوق والحريات- طبقًا لحالات موثقة فإن المفرج عنهم يتعرضون لأزمات نفسية ومادية بعد خروجهم، نظرًا لتغير الأوضاع التي تركوها قبل حبسهم، وعن أبرز المشاكل التي رصدوها قال غنيم: «الخوف من الملاحقات الأمنية هي الأكثر، مما يدفع المفرج عنه للبحث عن محل إقامة آخر غير الذي كان يعيش فيه، وربما يضطر إلى تغيير إقامته أكثر من مرة، ويكون مجبرًا وقتها لتغيير مدارس أبنائه، وعلاقاته الاجتماعية، وغالبا ما يلجأ إلى العزلة والانطواء حتى لا يعرفه أحد»، هذا بالإضافة إلى مشاكل الحصول على عمل، نظرًا للإجراءات الأمنية القاسية التي فرضتها أجهزة الأمن على أصحاب العمل، لكن حتى إذا لجأ إلى السفر للخارج فإنه يواجه أزمة كبيرة في الخروج الرسمي من المطار، لأن بعضهم ممنوع من السفر، وفي حالة ذهابه إلى المطار فإن القبض عليه مرة أخرى أمر وارد للغاية، أما إذا خرج بشكل غير رسمي فإنه بهذا الشكل قد فرض على نفسه الهجرة الدائمة، أو كما يقولون اشترى تذكرة ذهاب بلا عودة.
وعلى الرغم من أن القانون المصري لم يضع نصوصًا مقيدة للمفرج عنهم في العمل أو الحركة، إلا أن الأمر مختلف مع السجين السياسي الذي يواجه تعنتًا إما نتيجة الخوف الذي يسيطر على المجتمع المصري الآن، أو نتيجة تأثر بعضهم بالحملات الإعلامية التي شوهت المخالفين للنظام الحاكم في مصر.
ما ذهب إليه غنيم عبرت عنه حالة شريف الحلواني الذي أفرجت عنه السلطات المصرية في يوليو/تموز 2017 بعد اعتقال استمر لثلاث سنوات بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين والعمل على قلب نظام الحكم، إذ يعاني الحلواني من عزلة تدفعه إلى البقاء في منزله طوال اليوم، وحتى عمله الذي استطاع أن يعود إليه بعد إطلاق سراحه أصبح يشعر فيه بالوحدة والكراهية، فزملاؤه في العمل خائفون من التعامل معه حتى لا يتعرضوا للمساءلة الأمنية، وما ينطبق على شريف ينطبق على آلاف من المفرج عنهم من السجون والمعتقلات([4])».
وما السبيل؟
السجن عالم سلبي بكل معنى الكلمة، ولا يوجد أحد يريد الخوض في هذه التجربة، لكن إذا أُجبر على التعامل مع هذا العالم، فيجب أن تكون هناك وسائل تحقق له التكيّف مع هذا العالم الجديد.
فالاعتقال أحيانًا يسبب شرخًا عاطفيًا مع الأهل، بالإضافة لخوف بعض الأصدقاء من التواصل مع المعتقل خاصة مع بداية الإفراج، كما أنه سبب حالةً من القلق والتوتر الدائم مما انعكس على العلاقات داخل الأسرة؛ ولذا لابد من البحث عن علاج حتى تستقيم الأسر، ويتغلب المعتقل على ما رصده الخصوم من أهداف لتدمير حياته وتحجيم دوره، وتشريد أسرته، وهذا العلاج ذو شقين، شق قبل الخروج من المعتقل، وآخر بعد الخروج.
أولًا: قبل الخروج
- الدعاء.. فالطرفين بحاجة إلى دعاء لبعضهما لبعض بالخير والفرج، سيما في أوقات الإجابة، فلا يغفل طرف عن الدعاء مع الثقة أن الله يستجيب لدعائكما.
- على الطرفين أن يستشعرا الغاية التي من أجلها ضحيا بحريتهما طوال هذه السنوات، فيلجأ الزوج إلى تنظيم وقته والاستفادة من كل فرصة تتيح له سواء بالاستزادة من القراءة، أو إخراج الطاقة السلبية بممارسة الرياضة، واللجوء لحفظ كتاب الله وفهمه والعمل به.
- يحرص أيضًا على شغل وقته بتعلم عمل يدوي يفرغ فيها طاقته ويسعد بها أسرته، ويدخل السرور على أولاده، وينسيه ما يلقيه من عنت وعذاب على يدي جلاديه.
- على الزوجة ألا تكثر عليه من الشكوى وقت الزيارة.. فهو أحوج إلى أن تطمئنه على أبنائه وأهله وبيته وكل شيء له.
- في كل زيارة ارفعي مستوى التفاؤل عنده والأمل بالله، ونبهيه بطريقة هادئة إلى أهميّة التوبة والاستغفار والعودة إلى الله.
- كوني أكثر حرصًا على أبناءه بحسن التربية والتوجيه والقيام على شئونهم، حتى تهدأ نفسه ويطمئن قلبه([5]).
- عدم إهمال الزوج للخطابات والكلمات الطيبات والتعبير عن مكنون المشاعر، والثناء على موقف الزوجة وصبرها في تعاملها مع المحنة، ورضاها وتعبها.
- تقبل الأسرة لتجربة المعتقل: فسيادة جوّ من القبول الأسري لضرورة العمل السياسي، أو أحقية الفرد داخل الأسرة باختياراته السياسية، ساهم إلى حد كبير في وضع تجربة السجن كعامل دفع وتحدٍ وليس عامل إحباط، فالتقدير الأسري والعائلي لتجربة السجين تزيل الكثير من المعوقات الحياتية أمامه، خصوصًا أنه يخرج من مجتمع ضيق، يكون العنف سمته الرئيسة، إلى مجتمع أكبر بمزيج من الأنماط والتناقضات، مما قد يشكل أمامه عقبة حقيقية.
وهنا نجد أن بعض الأسر قد ساهمت في ترسيخ جدية وإيجابية التجربة، وساهمت كذلك في تجنيب السجين الإرباكات الاقتصادية المعيشية أثناء وبعد خروجه من السجن، في الفترات الأولى. كما هو الأمر مع معظم من التقينا بهم، وذلك بخلاف بعض التجارب التي ساهم اللوم والعتاب وسوء التقدير في تكريس مشكلات حقيقية في العلاقة الأسرية وبالتالي الاجتماعية.
ومثلما يساعد الجو الأسري في تحصين السجين مجتمعيًا، يساعد أيضًا بسلبيته في أزمة اغترابية تجعل من الصعوبة بمكان اندماجه داخل المجتمع، ووضع تجربته الشخصية كعامل دفع، وهذا ما حدث في بعض الأسر التي ساهمت بوجود مشكلات بين أفرادها نتيجة الاختلافات بين الزوجين مرة، وبين الأخوة مرة أخرى، أو بالعلاقة مع الأهل بشكل عام.
لكن المسألة تبقى في حدودها الفردية، على مستوى التجربة. وفي هذا يعاني السجين الخارج إلى الحياة العامة جهدًا مزدوجًا، ففي كل مرحلة من حياته عليه أن يجد من وسائل التكيف ما هو مناسب لمحيطه، هذا في ظل عدم وجود هيئات أو جمعيات من شأنها العمل على حل الأزمات التي تنشأ من جراء الاختلاف الزماني والمكاني والقيمي بين السجين ومحيطه الاجتماعي بفعل تباعد الفترة الزمنية بينهما، واختلاف القيم أيضًا.
ولهذا السبب فإن تركيب أسرة السجين وقيمها هي التي تلعب الدور الحاسم في مسألة إيجابية التجربة وعلاقتها بالخارج- الاجتماعي([6]).
ثانيًا: بعد الخروج
- استقبليه بالشوق والحب وعودي عروسًا كما كنت في أول حياتكما، وتخيلي أن هذه الليلة هي ليلة زواجكما، فماذا أنت صانعة وأنت تبدئين حياتك الزوجية لأول مرة.
- البشاشة من الطرفين لدى الآخر، فالوجه البشوش قادر على تغيير الأمر من حال إلى حال، يقول ﷺ: «تبسمك في وجه أخيك صدقه»، فكيف لو كانت هذه الابتسامة من أحد الزوجين تجاه الآخر؟
- محاولة الحوار والمشورة في أحوال البيت والأولاد أو في أي شيء آخر، مع اتساع الصدر في السمع ويبدي الاهتمام لرأي من أمامه دون الرد بالكلمة الحادة أو الهزلية التي قد تفسد جوهر الحوار.
- الهدية المتبادلة بين الزوجين ولو قليلة، والمتبادلة بينهم وبين الأبناء، فالهدية كما نصح رسولنا الكريم ﷺ رسول للمحبة وقال فيها: «تهادوا تحابوا».
- اهتمام كل من الزوجين بالآخر فلا تهتم الزوجة بالأبناء على حساب الزوج، ولا يفرط الزوج في بعض مسؤولياته الأسرية تجاه زوجته أو أبنائه أو ضيوفه أو أهل زوجته أو أقاربها أو غير ذلك.
- عدم الإهمال من قبل أحد الزوجين في أداء حقوق الطرف الآخر حتى لا يتصاعد الشعور بالجفاء.
- لا حرج من استشارة مختص نفسي من أجل زوجك إن كان هناك حاجة لذلك، كأن يكون زوجك يعاني من بعض الأعراض النفسية بسبب خروجه من السجن، كالاكتئاب أو العزلة أو غيرها من الأعراض النفسية([7]).
- المرآة ذات طبيعة شفافة وحساسة إلى أبعد الحدود ويجب الاهتمام بها من خلال تخصيص الزوج وقتا ولو قليلا للجلوس معها و إطرائها بعبارات تحبها وكذا الثناء على اهتمامها بنفسها وواجباتها المنزلية ما يدفعها إلى القيام بواجباتها الأسرية على أحسن حال؛ وبذلك تبتعد الأسرة عن كل ما يعكر صفوها و كل ما يسبب الجفاء العاطفي والجفاف الأسري ويوفر جوًّا عائليًا صحيًا تحيطه مشاعر الحب والدفء الأسري([8]).
إن الخروج إلى واقع مختلف تمامًا، يخلق مشاكل حقيقية على المستوى النفسي للسجين، وعلى مستوى التواصل مع المجتمع. وعدم التصريح بتلك المشكلات قد يؤدي إلى مزيد من الأزمات.
مصادر:
([1]) ميشيل فوكو: ولادة السجن، المراقبة والمعاقبة- ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990)
([2]) أميمه الجابر: الجفاء .. مشكلة الأزواج، موقع المسلم، 21 شعبان 1435ه رابط goo.gl/WNSohb
([3]) حسام السعد ..رزان زيتونة: تقرير دروب ما بعد المعتقل أوضاع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي المفرج عنهم في سورية، آب/أغسطس 2006م.
([4]) محمد القاضي: المعتقلون في مصر... "طريق الآلام" يبدأ عقب الحرية، العربي الجديد، 30 يناير 2018م، رابط goo.gl/cU3h4z
([5]) منير بن فرحان الصالح..موقع ناصح، 17/3/2011م، رابط goo.gl/b9eqH6
([6]) حسام السعد.. رزان زيتونة: تقرير سبق ذكره.
([7]) محاسن الشيخ: الشعور بالجفاء بين الزوجين سبب كل أزمة منزلية، اليوم السابع، السبت، 23 أغسطس 2014م، رابط goo.gl/6D1wFr
([8]) محمد سعيد الشهراني:زوجي سيخرج من السجن فكيف أتعامل معه؟، لها اون لاين، 6 ربيع الآخر 1433 هـ: 28 فبراير 2012م، رابط goo.gl/Gh1s59
.