على مر الزمن، طرح الكثير من العلماء سؤالًا عن كيفية اكتساب الإنسان لغةً ما، دون إجابة شافية في معظم الحالات. نحن ندرك المدخلات إلى الموقف التعليمي؛ لأن هذه المدخلات نصنعها بأيدينا. ونحن قادرون على قياس المخرجات عن طريق أساليب القياس المختلفة. لكننا لا ندري حتى الآن ماذا يحدث داخل العمليات؛ أي داخل المخ الإنساني، هذه المعجزة المحيرة التي صنعها الله الذي أبدع كل شيء.
وللإجابة عن هذا السؤال استعرض الدكتور علي أحمد مدكور، أستاذ المناهج وطرق التدريس، عميد معهد الدراسات التربوية السابق، بجامعة القاهرة، دراسة له بعنوان: «تربية الملكة اللسانية عند ابن خلدون»، بسؤال يبدو في غاية البساطة وهو: كيف يكتسب الطفل اللغة؟ نظريات تفسير السلوك اللغوي، بصفة عامة، ابتداء بنظرية «النظم» عند عبد القاهر الجرجاني، ومرورًا بنظرية «النظام» أو «البنيوية» عند العالم السويسري دي سوسير في بدايات القرن العشرين، وبنظرية «النحو التوليدي أو التحويلي» عند اللغوي الشهير تشومسكي في النصف الثاني من القرن العشرين.
لكن البحث تركز عند النظرية «السلوكية» التي تفسر السلوك اللغوي وتطرح افتراضاتها في عملية التعليم والتعلم، ويرى الباحث أن النظرية السلوكية لم تكن بدايتها مع واطسون واسْكِنَرْ والسلوكيين المحدثين في القرن العشرين، وإنما بدأت السلوكية اللغوية مع العلامة ابن خلدون المتوفى سنة 727هـ، الذي بنى نظريته في تربية الملكة اللسانية على مجموعة من الأسس.
«النظم» عبد القاهر الجرجاني
يري الباحث أن «البنيوية» اسم حديث نسبيًا لطروحات قديمة، بدأها عبد القاهر الجرجاني– المتوفي سنة 471هـ– فيما سمي بنظرية «النظم» التي تناولها بالتفصيل في كتابه «دلائل الإعجاز»، ثم أعاد طرحها – بشكل أو بآخر العالم اللغوي الكبير دي سوسير في بدايات القرن العشرين تحت اسم «النظام» أو «البنيوية»، ثم أعاد طرحها العالم اللغوي الأشهر تشومسكي في الستينيات من القرن العشرين تحت اسم النظرية «التحويلية التوليدية» أو «النحو التوليدي» الذي ظن كثير من الباحثين أنها ثورة في فقه اللغة غير مسبوقة؛ متجاوزين بذلك الإمام المبدع عبد القاهرة الجرجاني، والمجدد دي سوسير!
إن الغاية من تدريس اللغة– وفق هذه النظريات– إرساء النظام اللغوي في الذهن، وإقامة اللسان، وتجنب اللحن في الكلام؛ فإذا تحدث المتعلم أو قرأ أو كتب كان واضح المعنى، مستقيم العبارة، جميل الأسلوب، حسن الإلقاء.
إن تعلم اللغة هو عملية ذهنية واعية لاكتساب السيطرة على الأنماط الصوتية والنحوية والمعجمية، من خلال دراسة هذه الأنماط وتحليلها بوصفها محتوًى معرفيًّا؛ فتعلم اللغة يستند إلى الفهم الواعي لنظامها كشرط لإتقانها. فالكفاية المعرفية سابقة على الأداء اللغوي الجيد وشرط لحدوثه.
لقد اعتبر عبد القاهر النظم نظم للمعاني؛ فالألفاظ عنده تابعة للمعاني.
فالإعجاز في النص البليغ لا يكمن في الألفاظ، وإنما يكمن في الأفكار بالدرجة الأولى؛ فطريقة بناء الفكرة وترتيبها وإخراجها هي أساس البلاغة. والبلاغة التي ترجع إلى الفكر أكثر من اللفظ تجعل لغتها عالمية، يستمتع بها أصحاب اللغات الأخرى حين تترجم لهم. ويري أنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني، وتابعة لها ولاحقة بها. فالعلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق.
فالنظم إذن عند عبد القاهر هو إدراك المعاني النحوية والملاءمة بينها وبين المعاني النفسية في نسج الكلام وتركيبه. أو بمعنًى آخر؛ هو إدراك المعاني النحوية، واستغلال هذا الإدراك في حسن الاختيار والتأليف.
وهكذا يرى الإمام عبد القاهر أن اللغة عملية معقدة تتجلى في توخي المعاني النفسية والنحوية بين معاني الكلمات بناءً على مقتضيات العقل، لبناء تراكيب في الذهن متطابقة مع مقاصد وأغراض المتكلم. فالتراكيب اللغوية أُسُسُهَا المعاني النفسية والنحوية والمعاني المعجمية؛ حيث إن عمليات التفكير العقلية لا تتعامل مع الكلمات المفردة بل تتعامل معها عندما تكون مرتبطة بمعاني النحو.
هذه العمليات العقلية تربط بين أغراض المتكلم وبين هذه التراكيب في الذهن، كما تربط هذه التراكيب مع شكلها الصوتي في الفم واللسان.
ومع أن اختلاف الألسن آية من آيات الله، إلا أن الله قد أودع في المخ البشري استعدادات وقوانين أساسية لأي لغة إنسانية في كل زمان وفي كل مكان.
فمعاني الكلام: الخبر، والاستفهام، والتعجب، والأمر والنهي... كلها متوفرة لجميع البشر.
كما أن قانون الإسناد من مسند ومسند إليه، هو الركيزة الأساسية في بناء النظم. وعملية الإسناد هذه تقوم على قواعد التعليق، وهي قواعد فطرية وضعها الله في ذهن الإنسان في كل زمان ومكان. كما أنها قواعد تساعد وصف الاختلاف بين اللغات الإنسانية. وهذا ما يطلق عليه الآن «القبليات العرفانية» أو «القبليات المعرفية» أو «ما وراء المعرفة».
وهكذا افترض «عبد القاهر» قبل «كانط» وغيره وجود قدرة ذاتية كامنة في المخ البشري، أو «غريزة» لغوية تتوارثها أجيال البشر، أو «بنية عميقة» – حسب تعبير دي سوسير– قوامها نسق معرفي كامن في العقل، يربط بين المدخلات والمخرجات في عملية الإبداع اللغوي.
لكن ما الذي يحدث في العمليات؟ وكيف تقوم هذه القدرة الذاتية بعملها؟ كيف يربط المتعلم اللفظ بالمعنى في تعلمه للغة. وكيف يقوم المخ الإنساني بعملية الاختيار والتأليف؟ وكيف تتم عملية تحويل المعلومات إلى معرفة؟ باختصار كيف تتم عملية اكتساب الطفل للغة؟
النظرية البنيوية «دي سوسير»
جاء العالم السويسري «دي سوسير» في بداية القرن العشرين فأقام البنيوية على أساس ثنائية الرمز ومدلوله. وأكد ما قاله عبد القاهر قبل ثمانية قرون. فاللغة لدى دي سوسير «نظام» من العناصر القواعدية والمعجمية المترابطة. فهي ليست تلك الظاهرة المتمثلة في التجليات السطحية من الألفاظ والعبارات والنصوص، فتحت ظاهر سطحها ترقد بنية عميقة، متعددة العناصر والمستويات؛ أي نسق معرفي من العلاقات الفكرية التي تربط بين الأفكار والألفاظ، وبين مكونات تركيب الجمل والفقرات، وبين المعنى والسياق، وبين تنغيم الكلام ونية المتكلم، وبين أصل اللفظ ومشتقاته.. وهلم جرًّا. وهذه العلاقات ليست علاقات اعتباطية أو عشوائية، بل يحكمها عدد من المبادئ العامة، التي تشترك فيها جميع اللغات.
وتقوم البنيوية لدي دي سوسير على ركيزتين:
الركيزة الأولي: وجود علاقة عضوية بين الرمز اللغوي ومعناه.
والركيزة الثانية: ضرورة الفصل في التحليل البنيوي بين الموضوع، وبين وجهة النظر الذاتية للشخص الذي يقوم بالتحليل؛ وذلك ضمانًا للموضوعية في التحليل، سواءً كان موضوع التحليل موضوعًا أدبيًا، أو قصةً أو أسطورةً؛ أو نصًّا مقدسًا.
وهذا أمر يختلف عن وجهة النظر التي يقول بها أصحاب النظرية «التفكيكية».
النحو التوليدي «تشومسكي»
على النسق نفسه تقريبا الذي أقام عليه عبد القاهر نظريته في النظم، أقام تشومسكي نظريته اللغوية؛ فرأى أن منظومة اللغة ذات بنية ثنائية. ويقصد بذلك أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة، هي تلك التي ننطق بها «أي الألفاظ»، وبنية منطقية عميقة، وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها «أي المعاني المرتبة».. وعمله الإخراج الصوتي هي عملية تحويل البنية الفكرية العميقة وقد تجسدت ألفاظًا، وأصواتًا، ونبرًا، وتنغيمًا، وتقديمًا، وتأخيرًا، وإظهارًا، وحذفًا وإضمارًا.. إلخ.
لقد أقام تشومسكي نظريته في النحو التوليدي للإجابة عن سؤال: كيف للغة الإنسانية ذات الحروف والكلمات المحددة أن تولد هذه الأعداد اللانهائية من التعابير اللغوية؟ ولخص الإجابة في مقولته الشهيرة: «اللغة هي الاستخدام اللامحدود لموارد محدودة».
وعلى النحو نفسه الذي قال به عبد القاهر من قبل من أنه يمكن توليد المعاني النحوية الكثيرة من ألفاظ قليلة، وذلك باختلاف موقع الكلمة في الجملة، وبإدراك المعاني الدقيقة للكلمة في السياق مما يولد المعاني النحوية المختلفة.
على هذا النمط نفسه رأي تشومسكي صاحب نظرية «النحو التوليدي» في العصر الحديث، أنه يمكن توليد الصيغ اللغوية المتعددة من كلمات قليلة، على نحو ما فعل عبد القاهر مع لفظتي «زيد» و «منطلق»؛ فنقول: زيد منطلق، وينطلق زيد، وزيد ينطلق، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق... إلخ.
لقد تأثر كل من دي سوسير وتشومسكي بافتراض عبد القاهر وكانت وجود قدرة ذاتية تمثل بنية عميقة كامنة في العقل الإنساني، أو غريزة لغوية فطرية فطر الله البشر عليها قوامها استعدادات وأنساق معرفية في العقل الإنساني- قادرة على معالجة المدخلات والمعلومات وإحالتها إلى مخرجات في صورة أنساق لغوية معرفية.
وفي غياب البحث العلمي التطبيقي لإثبات صحة هذه الفرضية لجأ تشومسكي إلى التجريد الفلسفي لإثبات وجود هذه الغريزة أو البنية العميقة، لكي يفسر الكيفية التي يكتسب بها الأطفال لغة الأم، وذلك بتطويع هذه الغريزة للمطالب الخاصة للبيئة اللغوية التي ينشأون فيها.
وهكذا استحالت اللغة وفقًا لهذا النموذج الافتراضي (عبد القاهر، ودي سوسير وتشومسكي) إلى غريزة بشرية أو إنسانية عامة؛ مثلها مثل غيرها من الغرائز التي يشترك فيها الناس على اختلاف أجناسهم، ولغاتهم، وبيئاتهم الاجتماعية.
البنيوية وتدريس اللغة
إن المدخل في تدريس اللغة– وفق هذه النظرية– هو شرح النظام النحوي والصرفي (البنية العميقة). ثم الانطلاق من هذه المعاني النحوية وقواعدها إلى المهارات اللغوية الأخرى والتطبيق علها، من خلال الألفاظ والجمل والأمثلة والشواهد والنصوص... إلخ. وهو ما نسميه حاليا بالطريقة «القياسية» في تعليم اللغة العربية للناطقين بها، وطريقة «النحو والترجمة» في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
والطريقة القياسية هي إحدى طرائق التفكير التي يستخدمها العقل في الوصول من المعلوم إلى المجهول. والفكر في القياس ينتقل من القاعدة العامة إلى الحالات الجزئية بناء على القاعدة؛ أي من القانون العام إلى الحالات الخاصة.
لكن المشكلة أن تدريس النحو أنه صار غاية في ذاته لدى المتأخرين؛ حيث نُظر إليه على أنه وسيلة لتنمية ملكات العقل وطريقة التفكير، بصرف النظر عن الممارسة اللغوية الصحيحة!
وتقوم طريقة النحو والترجمة في التدريس على شرح القواعد، والانطلاق منها إلى تعليم قراءة النصوص العربية وترجمتها إلى اللغات الأم أو اللغات المحلية. فقد اعتُمد على هذه الطريقة في تعليم العربية في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا. حيث كان الطلاب يحفظون سور القرآن. وتُشرح لهم الألفاظ والمعاني، ثم تشرح القواعد التي تساعد على فهم التراكيب، ثم يدربون على قراءة النصوص وكتابتها وترجمتها إلى اللغات المحلية. ومن أهم منطلقات هذه النظرية في تدريس اللغة ما يأتي:
- اللغة نظام من القواعد النحوية التي لا بد من فهمها كشرط لممارسة اللغة على نحو صحيح.
- اللغة نشاط ذهني، وتدريب عقلي، يشتمل على تعلم نظام اللغة، وتذكر قواعدها، والتفريق بين المعاني النحوية، ثم القياس عليها من الأمثلة والنصوص.
- نظام اللغة وقواعدها النحوية والصرفية هو الإطار المرجعي لتعليمها وتعلمها.
- سيطرة الدارسين– وفقًا لهذه النظرية– يكون على مهارات القراءة والكتابة قبل الاستماع والكلام.
طرائق التدريس وفقا للنظرية البنيوية
الطرائق المتبعة في تدريس العربية وفقا للنظرية البنيوية كالطريقة القياسية وطريقة النحو والترجمة، تسير غالبًا على النحو الآتي:
- يلم الدارس بقواعد اللغة العربية ويتعرف أصواتها وقواعدها وخصائصها أولًا.
- تقدم القواعد النحوية حسب الترتيب المنطقي لها، ويتم القياس عليها عن طريق الشواهد والنصوص البلاغية.
- تقدم الأمثلة والنصوص والتراكيب حسب ما يقتضيه نظام اللغة وقواعدها؛ فالألفاظ تابعة للمعاني النحوية والطلاب– بمساعدة المعلم– يردون الفروع إلى الأصول ويطبقون القواعد على النصوص.
- ضبط النصوص والأمثلة والشواهد مرتبط بمعرفة النظام اللغوي والقواعد النحوية والصرفية.
إذن فتنمية قدرات الطالب العقلية هدف أساسي من أهداف هذه الطريقة؛ حتى يستطيع مواجهة مواقف التعلم المختلفة بمشكلاتها غير المتوقعة. من هنا يتدرب الطالب كثيرًا على القياس النحوي، وعلى استقراء القاعدة النحوية في الأمثلة والشواهد والنصوص البلاغية.
نظرية الملكة اللسانية «سلوكية ابن خلدون»
أرى أن السلوكية اللغوية لم تبدأ حديثًا مع السلوكيين في القرن العشرين، وإنما تمتد جذورها عبر التاريخ إلى العلَّامة عبد الرحمن بن خلدون المتوفي سنة 727 هـ، وإلى نظريته السماة «الملكة اللسانية».
تقوم نظرية الملكة اللسانية عن ابن خلدون على مجموعة من الأسس المتكاملة هي:
- أن السمع أبو الملكات اللسانية.
- أن اللغة هي «عبارة المتكلم عن مقصودة. وتلك العبارة فعل لسانيّ؛ فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان».
- أن تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو، الذي هو علم صناعة الإعراب.
- أن تربية الملكة اللسانية يحتاج– خاصة هذه الأيام– إلى اصطناع بيئة لغوية سليمة تحيط بالطفل من كل جانب.
- أن تربية الملكة اللسانية يحتاج إلى حفظ النصوص الجملية، والتكرار، وكثرة الاستعمال.
طريقة تربية الملكة اللسانية
قد يكون من المناسب أن نعيد طرح سؤال تشومسكي: كيف يتعلم الطفل اللغة؟ وكيف ينشأ هذا النسق المعرفي؟ أو كيف تُبني هذه الغريزة أو الملكة؟
يقول العلامة ابن خلدون: «السمع أبو الملكات اللسانية». وهذا يعني أن بناء الغريزة والملكة اللغوية يبدأ بالاستماع الجيد إلى النصوص الجميلة.
- كيف وُضع النحو أو علم صناعة الإعراب؟
يقول ابن خلدون: «لما جاء الإسلام وفارقوا (أي المسلمون) الحجاز لطلب المُلك الذي كان في الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين– والسمع أبو الملكات اللسانية– ففسدت بما أُلقيَ إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على الأفهام، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعرابًا. وتسمية الموجب لذلك التغير عاملًا، وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم. فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة. ويقال بإشارة من على– رضي الله عنه– إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد؛ فهذب الصناعة، وكَمَّل أبوابها، وأخذ عنه سيبوبه، فكمّل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشور، الذي صار إمامًا لكل ما كتب فيها من بعده».
- تربية الملكة لا يحتاج إلى النحو:
ثم يدخل ابن خلون إلى جوهر المشكلة، ويتحدث عن صلة النحو بالملكة اللسانية، فيقول عن صناعة العربية وقوانين الإعراب إنها: «علم بكيفية لا نفس كيفية» ثم يشرح الفكرة بالتفريق بين «الملكة» و«قوانين الملكة»، أي بين العلم النظري، والممارسة العملية، ويقدم تمثيلًا لذلك بمن يُجيد «علم الخياطة» ولا يمارسها عملًا، أو بمن يجيد «علم النجارة» ولا يقدر على ممارستها. فإذا سألته عنها شرحها لك خطوة خطوة، ولو طالبته بتنفيذ ما شرح أو شيء منه لم يُحْكِمْهُ. ويؤكد ابن خلدون رأيه هذا بتمثيل آخر أقرب إلى واقع القضية، وهي العلاقة بين النحو والملكة اللسانية فيقول: «إن كثيرًا ممن درسوا النحو وتعمقوا أصوله وفروعه، وأفنوا أعمارهم في البحث عن مسائله ومشاكله ولم يجيدوا هذه الملكة اللسانية لا يستطيعون التعبير اللغوي الصحيح؛ بينما كثير من الكتاب والشعراء ممن أجادوا هذه الملكة يعبرون عما يريدون بطلاقة وسلاسة وإن لم يتعمقوا النحو وقضاياه».
يوضح ابن خلدون هذه القضية في فصل في المقدمة بعنوان (فصل في أن ملكة هذه اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم): «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهي علم بكيفية، لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علمًا، ولا يحكمها عملًا؛ مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خَرْتِ الإبرة، ثم يغرزها في لفق الثوب مجتمعين، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها.. إلخ، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا. وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة، وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما.. إلخ، وهو إن طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه.
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب، إنما هو علم بكيفية العمل «وليس العمل نفسه». وكذلك تجد كثيرًا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علمًا بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه، أو ذي مودته، أو شكوى ظلامه، أو قصدًا من قصوده، أخطا فيها عن الصواب، وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي؛ وكذا نجد كثيرًا ممن يُحسن هذه الملكة، ويجيد الفَنَّيْنِ من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المفعول من المجرور ولا شيئًا من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة.
- إذن فكيف تربي الملكة اللغوية في رأي ابن خلدون؟
لكن المتعلم العربية الآن– كما كان الأمر في عهد ابن خلدون– لا يملك هذا المناخ اللغوي الصافي، وذلك المشرب العذب المتاح الذي كان ميسورًا لأجيال العرب قبل تسرب اللكنة وحدوث الخلط والاضطراب في اللسان العربي. بل العكس هو الصحيح؛ إذ يحيط به من كل جانب ما يدفعه دفعًا عن صحة اللغة وجمالها اجتماعيًا وثقافيًا استماعًا، وقراءًة وكتابًة، ولم يَعُد في متناول يده ذلك النموذج المثالي الطَّيِّع الأصيل الذي يلفته له المجتمع فيحاكيه ويحتذيه دون تعمد! إذا كان هذا هو حال المجتمع عمومًا، فماذا نعمل على مستوى المناهج الدراسية على وجه الخصوص؟
يري ابن خلدون أنه بعد أن انتهي العهد الذي كان فيه تربية الملكة اللسانية طبعًا وسليقةً، فإنه لابد من اصطناع المناخ اللغوي اصطناعًا متعمدًا، واتخاذ الوسائل التي توصل إلى إجادة الملكة اللسانية، فيقول: «ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم (العرب) القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم. حتى يتنزل- لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور- منزلةَ من نشأ بينهم، ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عبارتهم، وتأليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من أساليبهم، وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخا، وقوة»
ثم يربط بين كثرة المحفوظ والاستعمال وبين قوة التعبير بلاغةً ونقدًا، فيقول: «وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظمًا ونثرًا، ومن حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مُضَر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا يجب أن يكون تَعَلُّمُهَا، والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه».
يقول ابن خلدون: إن «الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقوم أولًا وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة».
كما يرى أن النصوص المختار للدراسة والحفظ يجب أن تبث في ثناياها مسائل اللغة والنحو، بحيث يتعرف الدراس من خلالها أهم القوانين العربية. ويؤكد أن الملكة لا تُربّي من خلال نصوص تحفظ دون فهم «فالملكة لا تحصل من الحفظ دون الفهم».
- لا قيمة لقواعد الإعراب وحدها:
إذن فتربية الملكة لا يتوقف على حفظ القواعد ومعرفة الإعراب وأواخر الكلم. فابن خلدون نفسه يقرر أن الإعراب قد فُقِدَ من اللغة العربية في عهده؛ وأن فقدان هذا الأعراب لم يهدم أداء اللغة لمعناها الصحيح البليغ. بل يمكن أن يعتاض عنه بما أسماه «قرائن الكلام».
كما يقرر أن اللغة العربية على عهده «لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول؛ فاعتاضوا عنها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد؛ لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها، ويبقى ما تقتضيه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود، لأنها صفاته. وتلك والأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. أما في اللسان العربي، فإنما يدل عليها بالحروف غير المستقلة».
ويؤكد ابن خلدون أن البلاغة والبيان كانت ما تزال ديوان العرب ومذهبهم في عهده، فيقول: «ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق؛ حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد (عهد ابن خلدون) ذهبت، وأن اللسان العربي فسد اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه، وهي مقالة دَسَّهَا التَّشَيُّعُ في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم».
ما يستفاد من النصوص السابقة
من العرض السابق لتصور بن خلدون في تربية الملكة اللسانية يمكن استنباط ما يأتي:
أولا: لقد قرر ابن خلدون فكرته، وهي أن تربية الملكة اللسانية لا يضرها عدم حفظ القواعد النحوية، وفقدان الإعراب، إذا تغني عنه القرائن، وهي فكرة جريئة، ولم يجرؤ أحد قبله أو بعده على القول بها على هذا النحو المتكامل.
فهو يرى أن فقدان الإعراب من لغات الأمصار في عهده– وكما هو الحال في لغتنا الآن– ليس بِصَائِرٍ لها، ما دامت تؤدي مهمتها في الفهم والإفهام وتوضيح المراد.
ثانيا: قدم ابن خلدون تصوره في إطار نظرته الاجتماعية للغة على أنها «ملكة» تكتسب بالتعليم والمران والدربة، وما دامت هذه «الملكة» قد تحققت للمستخدمين للغة في الأمصار في عهده، فإنها تكون صحيحة بليغة بدون الإعراب، إذ فيها من القرائن ما يُغني عنه.
ثالثا: يرى ابن خلدون أن تربية «الملكة اللسانية» يمكن أن يُستغني عن حفظ القواعد والعلامات الإعرابية في أداء المعنى، بما أسماه «القرائن الدالة على خصوصيات المقاصد» كالتقديم والتأخير، والحذف، والحروف غير المستقلة.. إلخ.
وقد قال بهذه الفكرة اللغوي العربي المعاصر الدكتور تمام حسان، الذي سمى «قرائن الكلام» عند ابن خلدون بـ «قرائن التعليق» لفظية ومعنوية. كما عقد فصلا في كتابه (اللغة العربية معناها ومبناها) بعنوان (القرائن تغني عن العوامل). وعلى هذا الأساس قدم نظريته لدراسة الفصحى في إطار «المعنى والمبني».
رابعا: أن تربية «الملكة اللسانية» لا تتم إلا من خلال حفظ النصوص الأصلية الراقية والشواهد الحية المتطورة، وعلى قدر المحفوظ، وكثرة الاستعمال، تكون جودة المصنوع نظمًا، ونثرًا، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها.
خامسا: أن يتم تناول النصوص كما تُنطق فعلًا، وأن تتم دراستها من حيث مستوى الأصوات، والحروف، وبنية الكلمة، والتركيب والدلالة، فهذا هو المفهوم الحديث للنحو.
سادسا: أن «الملكة اللسانية» لا تُرَبَّى من خلال نصوص تحفظ دون فهم، فالملكة لا تحصل من الحفظ دون الفهم.
.