لقد اهتم الإسلام بتنظيم حياة الإنسان في كل جوانبها، حيث إذا التزم بهذا التنظيم الإلهي فلا يضل ولا يشقي، سواء أكان في الدنيا أم في الآخرة، وإذا حاد عنه واختار غيره فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا، ويحشر يوم القيامة أعمي.
وقد أولي سبحانه وتعالي التربية العناية البالغة في هذا التنظيم، ابتداء باشتقاقها من صفة من صفاته وهي الرب، ثم بالعناية بتربية نبيه الكريم وشمولا لجميع البشرية؛ فأمر طبيعي أن يصوغ الإسلام الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم بمنهجه التربوي الفريد، ذلك لأن المجتمع صغيرا كان أم كبيرًا يؤثر تأثيرا بالغا في سلوك من يعيشون فيه، ولو أننا قمنا بعمل مقارنة بين المنهج الإسلامي في التربية وبين المناهج الأرضية الأخرى، لوجدنا الفارق شاسعا، لأن الأول من عند الله العليم الخبير بخلقه، وتلك من صنع الناس، الذين لا يستطيعون أن يدركون أسرار النفس الإنسانية، فالمنهج الإسلامي يتصف بالكمال والشمول، ومراعاة جميع جوانب الحياة المادية والمعنوية، ومن ثم فهو يرافق هذا الإنسان في رحلته الحياتية كلها، منذ أن كان جنينا في بطن أمه إلى أن يموت، وما بعد الموت كذلك.
وفى دراسة للدكتور أيمن عيسى أحمد، كلية التربية– فرع القبة بجامعة عمر المختار في ليبيا، بعنوان: «أثر التربية الإسلامية في المجتمع»، تناول فيها بيان أثر التربية الإسلامية في المجتمع إذا التزم أفراده تطبيقها، وما يحل به إذا لم يلتزموا، وأثر التزام الأسرة للتربية الإسلامية في المجتمع، ولمعرفة مدي تأثير التربية الإسلامية في المجتمع، قام الباحث بسؤال 350 فردا من شرائح مختلفة من المجتمع الليبي، وبمستويات علمية مختلفة، حيث تم اختيارهم بطريقة عشوائية، فاشتمل القسم الأكبر عن تعبئة استبيان وزع عليهم، وقام آخرون بالإجابة شفويا عن الأسئلة المطروحة عليهم.
أثر التزام الأسرة للتربية الإسلامية في المجتمع
لقد كان للتربية الإسلامية أكبر الأثر في المجتمع، وذلك من خلال الاهتمام بتربية الأسرة المسلمة، والتي تعد أول مؤسسة تربوية تستقبل المولود ليتلقى فيها تربيته الأولي، وحتى تكون تربيتها للأولاد تربية إسلامية لا بد وأن تكون الأسرة أسرة مسلمة تقوم على أسس معينة، ولأن الأسرة تعتبر اللبنة الأساس في المجتمع، بيّن الشرع الأسس الشرعية لاختيار كل من الزوجين للآخر، وأمر كلا من الوالدين بحسن عشرة الآخر، فإذا ما رزق هذان الوالدان مولودا أمرهم بتحسين اسمه، وحرَّم وأده، ونهاهم عن التفرقة بين البنت والولد في الأعطيات، كما أمر بتربية هذا المولود أحسن التربية، ذكرا كان أم أنثى، فإذا ما كبر الصغير أوجب عليه بر والديه ورعايتهما، كما أوجب عليه صلة رحمه وحرم عليه قطعه، كما جعل كل فرد من أفراد هذه الأسرة راعيا ومسئولا عن رعيته، ومن خلال المطالب الآتية سأقوم ببيان أثر كل صورة من هذه الصور في المجتمع.
- أثر تربية الوالدين على حسن العشرة في المجتمع
إن مسؤولية تربية الأبناء تبدأ منذ اختيار الزوجة الصالحة، التي تستطيع أن تربى أبناءها على المبادئ والأخلاق الحميدة، ومن ثم نستطيع أن نحكم على هذا المجتمع، وإن فسدت فسد هذا المجتمع، ولقد بيّن المربي الأول للمجتمع الإسلامي وحامل رسالة رب البرية إلى البشرية الأسس الشرعية التي يقوم عليها اختيار الزوجة، إذ قال إرشادا للرجال: «تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها ولحَسَبِها وجَمالِها ولدينها، فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ».
كما أمر سبحانه وتعالي كلا من الزوجين بحسن عشرة الآخر إذ قال: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
فمما بينه الله تعالي من حق المرأة عليه قوله تعالي: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقوله تعالي: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ}؛ فأمر بحسن العشرة، وقال تعالي: {وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقوله تعالي: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، فكانت هذه النفقة من حسن العشرة لأنها من حقوقها عليه وقال تعالي: {وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}؛ فجعل من حقها عليه أن يوفيها صداقها، وقال تعالي: {وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}؛ فجعل من حسن العشرة أن لا يأخذ مما أعطاها شيئًا إذا أراد فراقها وكان النشوز من قبله؛ فهو من حقها عليه.
وقال تعالي: {ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}؛ فجعل من حسن العشرة ترك إظهار الميل إلي غيرها، وقد دل ذلك على أن من حقها القسم بينها وبين سائر نسائه؛ لأن فيه ترك إظهار الميل إلي غيرها، ويدل عليه أن عليه وطأها بقوله تعالي: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني: لا فارغة فتتزوج، ولا ذات زوج؛ إذ لم يوفها حقها من الوطء، ومن حسن العشرة أن لا يمسكها ضرارا لقوله تعالي: {ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا}. فهذه كلها من حقوق المرأة على الزوج، وقد انتظمت هذه الآيات إثباتًا لها.
ومما بين الله من حق الزوج على المرأة قوله تعالي: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} فقيل فيه: «حفظ مائه في رحمها ولا تحتال في إسقاطه»، ويحتمل: حفظ فراشها عليه، ويحتمل: حافظات لما في بيوتهن من مال أزواجهن ولأنفسهن؛ وجائز أن يكون المراد جميع ذلك لاحتمال اللفظ له. وقال تعالي: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} قد أفاد ذلك لزومها طاعته؛ لأن وصفه بالقيام عليها يقتضي ذلك.
وقال تعالي: {واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}؛ فدل على أن عليها طاعته في نفسها وترك النشوز عليه.
وقد روي في حق الزوج على المرأة وحق المرأة عليه عن النبي ﷺ أخبار بعضها مواطئ لما دل عليه الكتاب وبعضها زائد عليه؛ فقد قال ﷺ: «اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»، وسئل رسول الله ﷺ حق الزوج على زوجته؟ قال: «لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تصوم يوما إلا بإذنه».
كما قال: «خيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرتْكَ وإذا أمرتَها أطاعتْكَ وإذا غِبتَ عنها حفِظتْكَ في نفسِها ومالِك». وقال: «لَو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ النِّساءَ أن يسجُدنَ لأزواجِهِنَّ لما جعلَ اللَّهُ لَهُم علَيهنَّ منَ الحقِّ»، وقال: «أيُّمَا امرأَةٍ ماتتْ وزوجُها عنها راضٍ دخلتِ الجنة». وأوصى امرأة فقال: «انظُري أينَ أنتِ منه فإنَّه جنَّتُكِ ونارُكِ».
هذه هي بعض الحقوق والواجبات التي ربي عليها الإسلام الأسرة المسلمة، فإذا ما التزم كل من الوالدين بحسن عشرة الآخر وأدي ما عليه من واجبات، فإن الأسرة المسلمة ستستقر استقرارا يتأثر فيه المجتمع تأثرا إيجابيًا؛ فتتفرغ المرأة لتربية أولادها التربية السليمة، ويتفرغ الزوج لدوره في بناء مجتمعه من خلال القيام بوظيفته على أكمل وجه، وذلك لعدم وجود ما يشغل فكره، وإذا ما تخلف حسن العشرة بين الزوجين فإن الأسرة ستضطرب في داخلها، وبالتالي فإن المجتمع سيضطرب باضطرابها؛ فيكون هم كل من الزوجين النيل من الآخر والانتقام منه، فلا يقوم أي منهما بدوره الموكل إليه لبناء المجتمع وتطوره؛ فالأسرة نواة المجتمع، يستقر باستقراره ويضطرب باضطرابه.
- أثر التزام الآباء في تربية أولادهم تربية الإسلامية
لقد جعل الإسلام للأولاد حظا من الحقوق على أبوبهم، ابتداء من حسن اختيار الأم– وقد مر الكلام عنه– ومرورًا بحرمة وأد المولود ذكرا كان أم أنثي، ثم حسن تسميته وعدم التفرقة بين الذكر والأنثى، وتربية هذا الوليد التربية الإسلامية السليمة، فإذا ما تم ذلك فإن المجتمع سيتأثر وبشكل كبير التأثير الإيجابي.
أولًا: أثر تحريم الوأد في المجتمع:
لقد كان بعض العرب قبل الإسلام يقتلون أولادهم– ذكورا وإناثا– إما خشية الفقر وعدم استطاعة الوالد الإنفاق عليهم، أو خشية أن تسبى البنت فتلحق بأبيها وعائلتها العار؛ فحرم الله تعالى على البشرية فعل ذلك فقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُمْ... }، فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك، فنهاهم الله عن ذلك مع ذكر السبب الذي كانوا من أجله يقتلونهم، وأخبر أنه رازقهم ورازق أولادهم، كما حرمه النبي ﷺ، فعن عبد الله بن مسعود قال: سألتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ: أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللَّهِ؟ قال: «أن تجعلَ للَّهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: إنَّ ذلك لعظيمٌ، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: «ثمَّ أن تقتُل ولدَك مخافَةَ أن يطعَمَ معَكَ»، قال قلتُ: ثمَّ أيُّ؟ قال: «ثمَّ أن تُزانِيَ حليلَةَ جارِكَ». فذكر النبي ﷺ من كل نوع من أنواع الذنوب أعْلاه ليطابق جوابه سؤال السائل؛ فأعظم أنواع الشرك أن يجعل العبد لله ندا، وأعظم أنواع القتل أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرباه، وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره؛ فإن مفسدة كل منها تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحرام.
هذا إذا كان القتل بسبب الفقر، أما إذا كان القتل بسبب خشية إلحاق العار بالعائلة، فقد روي عن قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذي كلبه، فعاب الله– سبحانه– ذلك عليهم وتوعدهم بقوله: {وإذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}، والموءودة هي الجارية تدفن وهي حية، وسميت بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيَئِدُها– أي يثقلها– حتى تموت، وكانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين: إحداهما: كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية: إما مخافة الحاجة والإملاق، وإما خوفا من السبي والاسترقاق.
ولم يقتصر قتل البنات على الرجال بل تعداه إلى النساء؛ فقد قال عبد الله ابن عباس– رضي الله عنهما-: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخضت على رأسها، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردت التراب عليها، وإن ولدت غلاما حبسته.
فحرم الله تعالى قتل الأولاد، وأخبر الوالدين بأن رزق الجميع على الله تعالي، والله سيسبب لهم ما ينفقون على الأولاد وعلى أنفسهم، وأن الله تعالي سيرزق كل حيوان خلقه ما دامت حياته باقية، وأنه إنما يقطع رزقة بالموت، وبين الله تعالى ذلك لئلا يتعدى بعضهم على بعض، ولا يتناول مال غيره؛ إذ كان الله قد سبب له من الرزق ما يغنيه عن مال غيره.
فإذا ما التزم الآباء بهذا وتربوا على ذلك، وربوا أولادهم عليه، فإن المجتمع المسلم سيبرز ويظهر للعالم بمحافظته على النفس البشرية، مهما كان حال الوالدين الاجتماعية أو المادية، فيربي الفرد المسلم وهو يعلم أن حياته معصومة كحياة غيره؛ فلا يتعدى بعضهم على بعض بالقتل، لأن الذي حرم قتله صغيرا حرمه كبيرا، لذلك تجد من أثر هذا، أن جرائم القتل في المجتمع المسلم هي الأقل في سائر المجتمعات، سواء أكانت بالاعتداء على النفس– الانتحار– أو الاعتداء على الغير. كما يزداد إيمان الفرد المسلم بأن الرزق إنما هو من عند الله سبحانه، فلا يتناول مال غيره بغير وجه حق، فيكرس حياته في طلب الرزق ويصبر على ذلك، فينمو المجتمع المسلم ويزدهر، وتظهر هوية المسلم الاجتماعية بالفاعلية والنشاط واحترام الحياة، فمهما وصل به الحال من الضيق وشدة الفقر، فلن يقدم على ما يقدم عليه الغرب من الانتحار وإزهاق روح نفسه، فمن تكفل برزقه صغيرا قادر على رزقه كبيرا، كما أنه لا يتواكل على غير في طلب الرزق، ولا يهين نفسه لأحد لأجل تحصيل لقمة العيش، فيظهر المسلم عزيزا عفيفا صبورا.
ثانيًا: أثر تحسين تسمية المولود في المجتمع:
لقد حرص الإسلام أن يربي أفراد المجتمع على حسن تسمية أبنائه، وذلك لما للاسم من أثر واضح في المجتمع؛ فالاسم القبيح يجلب لصاحبه السخرية والهوان على الناس، والاسم الجميل يجلب لصاحبة الاحترام والتقدير، لذلك حث الإسلام الآباء على حسن تسمية الأولاد؛ فقال رسول الله: «إنكم تُدعَونَ يومَ القيامةِ بأسمائِكم وأسماءِ آبائِكم فأَحسِنُوا أسماءَكم»؛ كما أرشد إلى أحب الأسماء إلى الله فقال: «إنَّ أحبَّ أسمائَكم إلى اللهِ عبدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ»؛ كما كان من دأب رسول الله أن يغير الاسم القبيح– إذا ما سمعه– إلي اسم حسن، فقد روي عن ابن عمر أن رسول الله غير اسم عاصية وسماها جميلة، كما روي أن رجلا يقال له أصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله فقال رسول الله: «ما اسمك؟» قال أنا أصرم قال: «بل أن زرعة»، وعن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي قال له: «ما اسمك؟» قال: حزن. قال: «أنت سهل». قال: لا، السهل يوطأ ويمتهن. وغير النبي اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحباب، وشهاب فسماه هشاما، وسمى حربا سلما، وسمى المضطجع المنبعث، ولم يقتصر ذلك على أسماء أفراد المجتمع، بل تعداه إلى أسماء القبائل والأماكن، فقد غير اسم بني الزنية؛ فسماهم بني الرشدة، وسمى بني مغوية بني رشدة، كما أنه غير أرضا تسمى عفرة فسماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى.
ويظهر أثر الاسم الجميل في المجتمع من خلال أن صاحبه لا يسخر منه لأجله؛ فهو متفرغ على القيام بدوره في المجتمع، أما صاحب الاسم القبيح فهو مشغول بالدفاع عن اسمه، من حيث تبريره أو الشكوى منه، أو مقاتلة من يسخر منه؛ فينشغل هو ومن سخر منه عن القيام بدورهم في تنمية المجتمع وتطويره والمحافظة على استقراره، ناهيك عن إيجاد سبب– للمتربصين بالمجتمع المسلم– لنثر بذور الفتنة بين أفراد المجتمع فيوقدوا نارها، وهو مما لا داعي له.
ثالثا: أثر مساواة الوالدين بين الأولاد في المجتمع
لقد حث الإسلام الآباء على المساواة بين أبنائهم في العطية، ونهاهم عن تفضيل ابن عن آخر أو تفضيل ابن عن بنت، لما يترك من سيء الأثر في نفس الأولاد، سواء من جهة الآباء أو من جهة الأخوة؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال أعطاني أبي عطية؛ فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضي حتى تُشهد رسول الله ﷺ؛ فأتى رسول الله فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟» قال: لا. قال: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». وفي رواية: «أليس يسرك أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟»؛ فبين أنه كما أن الأب يفضل أن يبره أبناؤه كلهم فينبغي عليه أن يسوي بينهم فتلك بتلك، بل جاء في رواية: «إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك، أي أن العدل بين الأبناء أساس البر للآباء.
إن للعدل والمساواة أثرا كبيرا على الأولاد فعندما يشعر أحد الأولاد أن أحد والديه أو كلاهما يفضله أكثر من إخوانه، فإنه سيميل عندئذ إلي الشراسة والتعالي على إخوته؛ فيقابلوه بالحسد، ومن ثم البغض والكيد، هذا من جهته، أما من جهة إخوته، فقد ذكر الله تعالى من أمر إخوة يوسف– عليه السلام– ما فيه الموعظة الكافية للآباء، فلما علموا ميل قلب أبيهم إلى يوسف أكثر منهم، رموا أباهم بالخطأ المبين؛ فقال تعالي ذاكرا حالهم: {إذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إلَى أَبِينَا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}؛ فكانت نتيجة قناعتهم هذه أن يقدموا على عمل مشين في حق الأخوة وحق الأبوة، إذ قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وجْهُ أَبِيكُمْ وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}، وهكذا حبكوا هذه المؤامرة على أخيهم الطفل الذي لم يبلغ الحلم، ولا ذنب له إلا إظهار والده حبه له أكثر من إخوته، فكان هذا الحسد وذاك الكيد، فكيف لو كان قد فضله عليهم بما هو أكثر من الحب والميل، اللذان لا يستطيع أن يتحكم بهما إنسان، فماذا عساهم أن يفعلوا حينئذ؟ لذلك مهما قدم الوالدان من نصائح وتوجيهات، وترغيب وترهيب، فلن تكون لها أي جدوى ما لم يلتزم بالعدل والمساواة بين الأطفال، ماديًا ومعنويًا، ولا يظهرا ميلهم القلبي لأحد أبنائهم أمام الباقين.
رابعًا: أثر التزام الوالدين بتربية الأولاد التربية الإسلامية في المجتمع
لقد حث الإسلام الآباء على تربية أبنائهم التربية الإسلامية منذ طفولتهم، ليكونوا عناصر فاعلة في المجتمع المسلم، من حيث تنميته وتطوره اجتماعيا واقتصاديا وعلميا وعسكريا؛ فقد قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وقال النبي: «من ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ، فأَحسنَ إليهنَّ، كُنَّ له سِترًا من النارِ» وقال: «من كان له ثلاثُ بناتٍ، فصبرَ عليهنَّ، وأطعمهنَّ وسقاهنَّ، وكساهنَّ من جِدَّتِه، كنَّ له حجابًا من النارِ يومِ القيامةِ»؛ وقال الإمام الغزالي: «... والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصوره، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه، نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له».
ولا يقتصر الأمر على الآباء، بل يجب أن يتابع ذلك من قبل المربين في كل المؤسسات التعليمية، كخطباء المساجد في مساجدهم، والمعلمون في مدارسهم وغيرهم، لأن كل إنسان منا راع، وهو مسئول عن رعيته، فتأسيس المربي العقيدة السليمة منذ الصغر عند الأولاد، أمر بالغ الأهمية في منهج التربية الإسلامية، وأمر بالغ السهولة كذلك، إذ ما وعى المربون واجباتهم في أداء هذه المهمة التي أوكلها الله عز وجل لهم.
وهذه المرحلة هي أهم مرحلة، بل أخطرها في مجال تربية الأبناء، فهي مرحلة تأسيس العادات الحسنة وتكوينها، وترسيخ العقيدة السليمة في أعماق الفكر والقلب، وتثبيتها والتوجيه إلى الأخلاق الفاضلة وتثبيتها في جميع تصرفاتهم؛ فهي المرحلة الأساسية في التلقين والتوجيه والتأسيس لهذه العقيدة السليمة، التي يجب أن يقوم بها الوالدان بشكل أساس، وبالاستعانة بالمربين إن أمكن ذلك، وضمن المنهج الإسلامي الصحيح النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، مع الاستفادة من تربية السلف وحسن تطبيقهم لهذا المنهج.
وتكمن أهمية مرحلة الطفولة لأنها:
أولًا: مرحلة صفاء وخلو فكر، فتوجيه الطفل للناحية الدينية يجد فراغا في قلبه، ومكانا في فكره، وقبولا في عقله.
ثانيًا: مرحلة تتوقد فيها ملكات الحفظ والذكاء، ولعل ذلك بسبب قلة الهموم، والأشغال التي تشغل القلب في المراحل الأخرى، فوجب استغلال هذه الملكات وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
ثالثًا: مرحلة طهر وبراءة، لم يتلبس الطفل فيها بأفكار هدامة، ولم تلوث عقله الميول الفكرية الفاسدة التي تصده عن الاهتمام بالناحية الدينية، بخلاف لو بدأ التوجيه في مراحل متأخرة قليلا، تكون قد تشكلت لديه أفكار تحول دون تقبله لما تمليه الثقافة الدينية.
رابعًا: أصبح العالم في ظل العولمة الحديثة كالقرية الصغيرة، والفرد المسلم تتناوشه الأفكار المتضادة والمختلفة من كل ناحية، والتي قد تصده عن دينية، وتشوش عليه عقيدته، فوجب تسليح المسلمين بالثقافة الدينية، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، ويواجهوا هذه الأفكار، بعقول واعية.
خامسًا: غرس الثقافة الدينية في هذه المرحلة يؤثر تأثيرا بالغا في تقويم سلوكه وحسن استقامته في المستقبل؛ فينشأ نشأة سليمة، بارًا بوالديه، وعضوا فعالًا في المجتمع.
سادسًا: الأبناء رعية استرعاهم الله آباءهم ومربيهم وأسرهم مجتمعهم، وهؤلاء جميعًا مسئولون عن هذه الرعية، ومحاسبون على التفريط فيها، كما أنهم مأجورون إن هم أحسنوا وأتقنوا.
ومما لا شك فيه أن الفضائل الخلفية والسلوكية والوجدانية هي ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ والتنشئة الدينية الصحيحة؛ فالطفل منذ نعومة أظفاره حين ينشأ على الإيمان بالله ويتربى على الخشية منه، والمراقبة له والاعتماد عليه، تصبح عنده الملكة الفطرية والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضيلة ومكرمة، والاعتياد على كل خلق فاضل كريم، لأن الوازع الديني الذي تأصل في ضميره، والمراقبة الإلهية التي ترسخت في أعماق وجدانه، والمحاسبة النفسية التي سيطرت على تفكيره وإحساساته، بات حائلا بين الطفل وبين الصفات القبيحة، والعادات الآثمة، والتقاليد الجاهلية الفاسدة، بل إٍقباله على الخير يصبح عادة من عاداته، وحبه المكارم والفضائل يصير خلقا أصيلا من أبرز أخلاقه وصفاته، وحينما تكون التربية للطفل بعيدة عن العقيدة الإسلامية، مجردة من للتوجيه الديني والصلة بالله، فإن الطفل على الفسوق والانحلال، وينشأ على الضلال والإلحاد، بل سيتبع نفسه هواها، ويسير خلف نوازع النفس الأمارة وساوس الشيطان، وفقًا لمزاجه وأهوائه وأشواقه الهابطة.
ولا ينبغي أن تقتصر تربية الأولاد على العقيدة والأخلاق فحسب، بل لا بد من أن يصحب ذلك التربية البدنية، وقد حث الإسلام عليها لأهميتها؛ فالعقل السليم في الجسم السليم، ويمكن تلخيص أهمية التربية البدنية بالنقاط التالية:
- تنمية الجسد وتوجيه نموه باتجاه تحصيل الصحة والقوة؛ فتزداد مقاومته للأمراض، فقد قال رسول الله: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّهِ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ؛ احرِص على ما ينفعُكَ، واستِعِن باللَّهِ ولا تعجِزْ، وإن أصابَكَ شيءٌ، فلا تقُل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وَكَذا، ولَكِن قل: قدَّرَ اللَّهُ، وما شاءَ فعلَ، فإنَّ لو تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ».
- كما أن الرياضة تنمي العضلات وتزيد من مقاومتها، وتساعد على النضج الانفعالي، فالتربية الرياضة تعلم الصبر والتحكم بالانفعال والعواطف، وتساعد على إنماء الوظائف الفكرية، فالعناية بالجسد وتحسين صحته ونموه يساعد على تنشيط العملية الفكرية، نظرًا للعلاقة الوطيدة بين الجسد والنشاط الفكري.
- تسهم في تحسين التكيف الاجتماعي عن طريق تنمية العادات الاجتماعية التكيفية، كالتعامل مع الآخرين وتقبلهم أصدقاء كانوا أم خصومًا، إذ تنمو العادات من خلال الألعاب الجماعية.
- تحقيق تربية خلقية، فالتدرب على التعب، وتقبل النجاح أو الفشل في المباريات ينمي الصبر، وتمرينات الجرأة والمهارة تنمي الشجاعة، والألعاب الجماعية تنمي روح التعاون والصدق.
- تساعد في تغميد العواطف والدوافع وعلاج بعض مشكلات الناشئة، وذلك بتوجيهه نحو الرياضة، لانشغاله عن الأعمال المنافية للآداب.
- تنمي حاجات الأطفال للحركة واللعب والنشاط.
ولقد أرشد الإسلام الآباء والمربين إلى بعض الممارسات الرياضية التي ينبغي أن يربوا عليها الأولاد صغارا، وهي: تعليم هم السباحة والرماية وركوب الخيل:
وذلك تحقيقًا لقوله تعالي: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ}، وقد جاء في تفسير القرطبي أن المراد بالقوة في الآية هو الرمي؛ فعن عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ، وهو على المنبر، يقول: «{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إنَّ القوةَ الرميُ، ألا إنَّ القوةَ الرميُ، ألا إنَّ القوةَ الرميُ»، كما نبه النبي ﷺ إلي ذلك إذ قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». وقال: «خرَج رسولُ اللهِ ﷺ على قومٍ مِن أسلَمَ يتناضَلون بالسُّوقِ فقال: «ارموا بني إسماعيلَ فإنَّ أباكم كان راميًا وأنا مع بني فلانٍ»، لأحدِ الفريقينِ فأمسَكوا بأيديهم فقال: «ما لكم ارموا»، قالوا: وكيف نرمي وأنتَ مع بني فلانٍ؟ قال: «ارموا وأنا معكم كلِّكم»؛ وعن النبي أنه قال: «لهْوُ المؤمنِ باطلٌ إلا ثلاثَة: تأديبهُ لفرسِه، ومناضلتُه عن قوسهِ، وملاعبتِهِ مع أهلهِ»؛ وكتب عمر إلي الشام: «أن علموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية».
وإذا علمنا أن الطفل يأتي في المرتبة الثانية في تكوين المجتمع بعد الأسرة، فتبين أن غرس العقيدة في نفوس الأطفال وتربيتهم التربية الإسلامية السليمة، وإعدادهم بدنيا عن طريق ممارسة الرياضة، هي أمثل الطرق لإيجاد أفراد صالحين، يستطيعون أن يقوموا بدورهم كاملًا في الحياة؛ فيستقيم المجتمع وينمو ويزدهر، ويكون في حالة تطور مستمرة، وإذا فسدت تربية الطفل وعقيدته، كان المجتمع فاسدا متشاحنا متنافرا، وهو مما لاشك فيه يؤدى إلى اضطراب المجتمع، مما يعنى بالضرورة التخلف الفكري والاقتصادي، وبالتالي الاعتماد على الدول الكبرى اقتصاديا ما يعني عدم الاستقلالية القرار السياسي؛ فيكون الاستعمار المبطن.
أثر التربية الإسلامية فيما لا تختص به الأسرة في المجتمع
لم تقتصر التربية الإسلامية على ضبط سلوكيات أفراد الأسرة فيما بينهم، بل تعدته لتربية أفراد المجتمع على ما هو أبعد من ذلك، فالمجتمع لا يتوقف عند الأسرة لقيامه، فلا بد لأفراده وإن كانوا صالحين، أن يقوموا بفعل ما من شأنه الرقي في المجتمع وتقدمه، ومن أبرز هذه الأفعال طلب العلم الشرعي النافع، وطلب العلم لا يمكن أن يكون نافعًا مفيدًا إلا إذا صاحبه العمل واقترن به، ومن خلال المطلبين التاليين سأقوم ببيان أثر تربية أفراد المجتمع على طلب العلم والحث على العمل في المجتمع.
اهتم الإسلام بالعلم ورفع من شأن أهله، فقال تعالي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، كما حمل الآباء– في منازلهم– والمربين في مؤسساتهم التربوية– مسؤولية كبرى في تعليم الأولاد، وتنشئتهم على الاغتراف من معين الثقافة والعلم، وتركيز أذهانهم على الفهم المستوعب والمعرفة المجردة والمحاكمة المتزنة، والإدراك الناضج الصحيح، وبهذا تتفتح المواهب ويبرز النبوغ، وتنضج العقول وتظهر العبقرية؛ فكانت أول آية نزلت على قلب الرسول الأعظم ﷺ قوله تعالي: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وما ذاك إلا لأهمية العلم وعلو مكانته في الإسلام، وإيذانا برفع منار الفكر والعقل وفتحا لباب الحضارة على مصراعيه.
ولقد جعل الإسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ذكرا كان أم أنثي، فقد قال ﷺ: «طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ»، وإذا أردنا أن نستعرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على العلم وترفع من منزلة العلماء، نجدها كثيرة ومستفيضة يستظهرها الصغير والكبير ويرويها العالم والمتعلم؛ فمن هذه الآيات قوله تعالي: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}.
ولم يتوقف الأمر عند الاكتفاء بطلب العلم بل أمر بالاستزادة منه، لمن كان عنده؛ فقال سبحانه وتعالي: {وقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
كما أن السنة النبوية الشريفة أكدت على أهمية العلم، وحثت المسلمين على طلبه، فقد قال رسول الله ﷺ: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء إنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دِينارًا ولا دِرهمًا، إنَّما ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافرٍ».
وقال: «الدُّنيا مَلعونةٌ، مَلعونٌ ما فيها؛ إلَّا ذِكْرُ اللهِ وما والاهُ، وعالِمًا ومُتعلِّمًا»، ولا يفهم من هذه النصوص أن العلم المطلوب هو العلم الخاص بالأحكام الشرعية العملية، بل هي عامة في طلب كل علم نافع للفرد والجماعة، كالطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والنحو الصرف وعلم النفس والتربية وغيرها من العلوم؛ فكل ما كان منها نافعًا فهو علم شرعي معتبر ومقصود.
ولم يقتصر الأمر عند وجوب طلب العلم، بل أمر الإسلام حامل العلم تعليمه غيره، وحث على ذلك؛ فقد قال ﷺ: «مَن كتَم عِلْمَا ألجَمه اللهُ يومَ القيامةِ بلِجامٍ مِن نارٍ».
وانطلاقا من هذا التوجيه القرآني والإرشاد النبوي، تربي المسلمون في عصر الرسالة والعصور التي تلت على مدارسة العلوم الكونية، واعتبروا تعلم كل علم نافع من قبيل الفرض والواجب، واستفادوا من حضارات الأمم الأخرى في العالم فجددوا فيها وهضموها، وطبعوها بطابع الإسلام المتميز، وظل العالم قرونًا طويلة يقتبس من علومهم ويستفيد من حضارتهم، وما تألقت الحضارة المادية في العصر الحديث شرقًا ولا غربًا إلا بفضل ما أخذوه من حضارة المسلمين وعلومهم، عن طريق صقلية، والأندلس والحروب الصليبية؛ فكانت الدولة الإسلامية بحق أستاذًا وإمامًا للعالم الضال والإنسانية الحائزة، ولكن لما ترك المسلمون القراءة، وقل طلبهم للعلم واعتمدوا على الغرب في تحصيل العلوم لإرسالهم لنا بعد عشرات السنوات من معرفتها، تخلف العرب فكريا وعسكريا، وباتوا مستعمرين لا يملكون اتخاذ قرارهم في أي شأن عظيم من شؤونهم، وكيف يفعلون وعدوهم هو من يزودهم بالسلاح ويعرف كل أسراره، فإذا كان طلب العلم– في نظر الإسلام– فريضة على المسلم والمسلمة، وإذا كان المستنكف عن تعلم العلم أو تعليمه مهددا– من قبل الشرع– بالعقوبة، وإذا كان من يكتم العلم النافع ملجما بلجام من نار يوم القيامة، أفلا يدل هذا على أن العلم هو من أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها المجتمع، لخطورة الجهل، فالمجتمع المتعلم هو مجتمع قائم تطوره لا ينقطع، والمجتمع الجاهل مجتمع زائل، لذلك تجد الإسلام دينًا يجعل تعلم العلم أو تعليمه واجبا إلزاميا.
إن من المسؤوليات الكبرى التي جعلها الإسلام أمانة في عنق الآباء والمربين توعية الأمة وتثقيفها بأهمية العمل، فلم تقتصر التربية الإسلامية على حث المسلمين على طلب العلم والاعتكاف عليه، وانتظار من ينفق على طالبه بدعوي الانشغال بما هو مفيد، بل حث المسلمين على العمل، لأن العلم إذا خلا من العمل وتجرد عنه فلا قيمة له، فقد قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ فأمر بالاستماع للخطبة، وهي وسيلة من وسائل طلب العلم، ثم قال بعدها: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}؛ أي انطلقوا فاعملوا واكتسبوا.
كما أكدت السنة النبوية على أهمية العمل في الإسلام؛ فقال رسول الله ﷺ: «ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه»، وقال ﷺ أيضًا: «إنَّ أطيبَ ما أكَل الرَّجلُ مِن كَسْبِه وإنَّ ولَدَ الرَّجلِ مِن كَسْبِه»، وحث الفقير على التعفف وعلى العمل وذم المسألة فقال: «لأن يَحتطبَ أحدُكم حُزمَةً على ظهرِه، خيرٌ من أن يَسألَ أَحَدًا، فيُعطيَه أو يمنعَه»، وقال ﷺ وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلى»؛ فاليد العليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة، وقال ابن حجر في تفسير الحديث: والمعني أنه كان يحض الغني على الصدقة، والفقير على التعفف عن المسألة أو يحضه على التعفف ويذم المسألة.
ولم يكتف النبي ﷺ عند ذم المسألة، بل حرما على الغني وعلى الفقير القادر على الكسب فقال: «لا تحلُّ الصدقةُ لغنيٍّ، إلا في سبيلِ اللهِ أو ابنِ السبيلِ أو جارٍ فقيرٍ يُتَصَدَّقُ عليه فيُهدِي لكَ، أوْ لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ إلا لخمسةٍ للعاملِ عليها أو رجلٍ اشتراها بمالِه. أو غارمٍ أو غازٍ في سبيلِ اللهِ، أو مسكينٍ تُصُدِّقَ عليه فأهدَى منها لغنيِّ»؛ وكذلك لا يتوقف حل المسألة على حاجة الفقير للمال، بل لا تحل له المسألة حتى يأتي بثلاثة شهود من ذوي الحجا من قومه؛ فيقسموا بالله لقد حلت لفلان المسألة؛ فما كان سوي ذلك فهو سحت، فقد قال ﷺ: «أَقِمْ حتى تأتيَنا الصدقةُ. فنأمرُ لك بها. قال: ثم قال: يا قَبيصةُ! إنَّ المسألةَ لا تحِلُّ إلا لأحدِ ثلاثةٍ: رجلٍ تحمَّل حمالةً فحلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَها ثم يمسِك. ورجلٍ أصابته جائحةٌ اجتاحت مالَه فحلَّتْ له المسألةُ حتى يصيب قِوامًا من عيشٍ (أو قال سِدادًا من عيشٍ). ورجلٍ أصابتْه فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومِه: لقد أصابَت فلانًا فاقةٌ. فحَلَّتْ له المسألةُ. حتى يُصيبَ قِوامًا من عيشٍ (أو قال سِدادًا من عيشٍ). فما سواهنَّ من المسألةِ يا قَبيصةُ سُحْتًا، يأكلُها صاحبُها سُحتًا».
هذا الحديثُ يوضِّح جانبًا عملِيًّا مِن التربِيَةِ النبويَّةِ للمسلمين على العِفَّةِ وعِزَّةِ النفسِ، وعدمِ سؤالِ الناسِ إلَّا في الحالاتِ التي بيَّنها النبيُّ ﷺ للصَّحابِيِّ الذي جاء يَستَعِينُه بعدَ أن تحمَّل على نفسِه بمالٍ لِيُصْلِحَ بينَ الناسِ، فأعانَه النبيُّ ﷺ؛ لأنَّه مِمَّن يَحِقُّ له السؤالُ ويَستَحِقُّ الصَّدقَةَ.
وهذا الحديثُ له مقدِّمةٌ توضيحيَّةٌ تُبيِّن السببَ المُلجِئَ الذي أَجْبَرَ الصحابِيَّ على طلبِ العَوْنِ مِنَ النبيِّ ﷺ، فقال الصحابيُّ: تَحمَّلْتُ حَمالَةً، أي: تَكفَّلْتُ دَينًا، والحَمالَةُ: هي المالُ الذي يَتحمَّلُه الإنسانُ، أي: يَستَدِينُه ويَدْفَعُه في إصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، كالإصلاحِ بينَ قَبِيلَتَيْنِ، ونحو ذلك. وهذا هو الصنف الأول الذي تحل له المسألة في الحديث.
فأَتَيْتُ رسولَ الله ﷺ أَسْأَلُهُ فيها، فقال: «أَقِمْ حتَّى تَأتِيَنا الصَّدَقةُ، فنَأمُرَ لكَ بها»، أي: ذهَبْتُ أطلُب مِن رسولِ الله ﷺ العَوْنَ على الحَمالَةِ، فقال له النبيُّ ﷺ: انْتَظِرْ حتَّى تَأتِيَنا الصَّدقةُ مِن زَكَوَاتِ الناسِ فنُعْطِيَك منها، وإنَّما حلَّتْ له المسألةُ واستَحَقَّ أن يُعطَى مِن الزَّكاةِ؛ لأنَّه استَدانَ لغيرِ مَعْصِيَةٍ.
والصِّنفُ الثاني الذي تَحِلُّ له المسألةُ: «ورَجُلٌ أصابَتْه جَائِحَة» الجائِحَةُ: الآفَةُ التي تُهلِكُ الثِّمارَ والأموالَ، وتَستأصِلُها، فمَن أصابَتْه الآفةُ السَّماوِيَّةُ، واستأصَلَتْ ثِمارَه أو أموالَه، «فحَلَّتْ له المسألةُ حتَّى يُصيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، أو قال: سِدَادًا من عَيْشٍ»، أي: حَلَّتْ له المسألةُ حتَّى يَحصُلَ على ما يقومُ بحاجتِه الضروريَّةِ، وما يتقوَّم به من العَيْشِ، والقِوَامُ والسِّدادُ: هما ما يُغنِي من الشيءِ، وما تُسَدُّ به الحاجةُ، وكلُّ شيءٍ يُسَدُّ به شيءٌ فهو سِدَادٌ.
والصِّنفُ الثالثُ الذي تَحِلُّ له المَسْأَلةُ: «ورَجُلٌ أصابَتْه فاقَةٌ حتَّى يَقُومَ ثلاثةٌ مِن ذَوِي الحِجَا مِن قومِه: لقد أصابَتْ فُلانًا فاقةٌ، فحلَّتْ له المسألةُ حتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِن عَيْشٍ، أو قال: سِدَادًا مِن عَيْشٍ»، أي: أصابَه الفَقْرُ الشديدُ، واتَّضَحَ وظَهَر «حتَّى يقومَ ثلاثةٌ مِن ذَوِي الحِجَا»، أي: حتَّى يَشْهَدَ ثلاثةٌ مِن قومِه مِن ذَوِي الفَهْمِ والعَقْلِ يقولون: «لقد أصابَتْ فُلانًا فاقةٌ» وقيَّدهم بِذَوِي العُقولِ تنبيهًا على أنَّه يُشترَطُ في الشَّهادةِ: التيقُّظُ، فلا تُقبَلُ من مُغَفَّلٍ، وجعَلهم من قومِه؛ لأنَّهم أعلمُ بحالِه.
والسُّحْتُ: هو الحَرامُ الذي لا يَحِلُّ كَسْبُه؛ لأنَّه يُسحِتُ البَرَكَةَ، أي: يُذهِبُها.
فإذا كانت شهادة الاثنين تُبيح الفرج المحرم بالشهادة على عقد الزواج، وتُبيح الدم بالشهادة على القتل العمد، وتُبيح قطع اليد بالشهادة على السرقة، ولكنها لا تُبيح المسألة للفقير حتى ينضم إليهما ثالث، وما ذاك إلا لخطورة المسألة والحرص على العمل، فاشترط النبي ﷺ الشهود الثلاثة.
ولكننا للأسف لو نظرنا إلي مجتمعاتنا في وقتنا الحالي، لوجدنا المسألة أصبحت حرفة لبعض الناس، ولا يكاد مسجد أو سوق أو مكان يجتمع فيه الناس يخلو من تواجد المتسولين، الذين يسألون الناس أموالهم بغير حق، فأصبحت ظاهرة تهدد أمن المجتمع، لأنها أصبحت تدار بواسطة عصابات تعيث في المجتمع فسادا، وما ذاك إلا لترك الناس الالتزام بالتربية الإسلامية في هذا المجال، إما تقصيرا من المربين في المؤسسات التربوية، أو تقصيرا من المتلقين لهذه التربية من أبناء المجتمع وأفراده؛ فلو تعلم المعطي– من مربيه أو معلمه أو شيخه أو أحد والديه– عدم جواز طلب الفقير المال بغير ثلاثة شهود لما أعطاه، ولو تعلم السائل أنه إنما يأكل سحتا، لما سأل إلا بشهادة الشهود الثلاثة من أهل العقل والرأي من أهله، وعندها يتوقف السؤال، والاعتماد على الآخرين، فينشغل كل فرد بالقيام بدوره في المجتمع؛ فيزدهر المجتمع ويتطور بدل أن يتخلف ويتراجع.
خاتمة الدراسة
وفي الختام فإن الدراسة تظهر أن الأشخاص الذين تدني إقبالهم على الحصول على المعلومات الدينية، كانت ممارساتهم قليلة لتعاليم الشريعة؛ وبالتالي كان وقوعهم في الخطأ أكبر من غيرهم، ومن خلال هذه النتيجة يظهر لنا أهمية التربية الإسلامية– والمستمدة أصلا من القرآن والسنة وما يستنبط منهما– في المجتمع، وأن التربية الإسلامية هي العنصر الفارق والحاسم في مواجهة المشكلات والأزمات الحادة التي يتعرض لها المجتمع إذا التزم أفراده تطبيقه.
وهناك حاجة لإدراج برامج دينية في مجال التوجيه والتعليم الجامعي وغرس دراسة الحضارة الإسلامية في نفوس الشباب وذلك من خلال تدريس الحضارة الإسلامية في المرحلة الجامعية.
.