استقر الأمر في باب النظر إلى أمر النبوة في الاعتقاد الإسلامي أنها هبة ربانية، لا مدخل للصناعة البشرية فيها، وهو ما يفسره قول القائلين إن النبوة اصطفاء رباني، ومع هذا المستقر فإن ثمة ملامح مهمة توحي بما يمكن للناس أن يستفيدوه، من علامات الرعاية الربانية للنبي ﷺ على طريق تهيئته لحمل الرسالة وتوظيف ذلك الذي استفادوه في برامج التربية المختلفة، ولا سيما اللغوية منها.
ومن ثم فإن بإمكاننا أن نقرر أن رعاية الله تعالي لنبيه بتربيته لغويا أمر ظاهر العلامات، ومنطقي من جهة أن اللغة هي الآلة العبقرية الحاملة للرسالة، والمؤدية للهدى والمحققة للبلاغ. صحيح أن العالم الإسلامي يري في الصحابة مُنجَزا تربويا أنتجه النبي بامتياز، لكن أحدًا لم يفحص جهده ﷺ في تربيتهم لغويا.
وفي دارسة للدكتور خالد فهمي، بعنوان: «ملامح منهج النبي في التربية اللغوية للصحابة» -2013-، يقف فيها أمام مجموعة من العلامات والملامح التي يمكن أن نقرر من ورائها أن ثمة منهجا نبويا للتربية اللغوية للصحابة، وهذا المنهج النبوي يحتاج إلى قدر كبير من الصبر على تتبع إجراءاته وأساليبه، ويحتاج إلى مزيد دراسة، وفحص واستجماع الأدوات للكشف عنه والإفادة منه في التخطيط التربوي في برامج التربية اللغوية.
وفيما يلي محاولة للكشف عن هذه الملامح الكبرى العامة التي توافر عليها المقام النبوي الكريم في تربية الصحابة تربية لغوية تعينهم على حمل رسالة الإسلام، وأداء الدعوة إلى الله سبحانه، ومن ثم فإن تربية النبي ﷺ للصحابة لغويا تدخل في باب قيامه بالبلاغ والبيان بتنشئة الجيل الأول الذي سيواصل بلاغ الرسالة وحملها إلى الآفاق.
تربية النبي ﷺ للصحابة لغويا: علامات على الطريق
نبدأ فنقرر أن التربية اللغوية مبحث شركة بين علم اللغة التطبيقي وبين علم النفس وعلم التربية وعلم الاجتماع، ويقصد بها دراسة كيفية تنمية لغة قطاع من الناس، وتطوير ما لديهم، ودراسة وسائل هذه التنمية، وإجراءاتها ووسائلها.
وثمة سؤال مهم يقول: لماذا نفترض أن هناك منهجية نبوية في تربية الصحابة لغويا؟ للإجابة عن هذا السؤال أرجو أن نتذكر ما يلي:
أولًا: أن للغة أهمية تأسيسية في تصور البلاغ والبيان والدعوة النبوية.
ثانيًا: أن ثمة أخبارًا وروايات تقرر عناية النبي ﷺ بتربية الصحابة لغويا، ولاسيما أن اللغة كانت بابا واسعا لإيمان كثير من العرب الفصحاء.
ثالثًا: أن عددا كبيرا من علماء العربية، ولاسيما علماء البلاغة يقررون أن هناك ما يشبه أن يكون طريقة خاصة لكلام جيل الصحابة، يسميها الدكتور محمد محمد أبو موسي (سمت الكلام الأول)، يقول: «لم أجد دراسة تُعني ببيان مذهب الكلام ومنهاجه.. وبيان سمت البيان في الأزمنة المختلفة وخصوصًا سمت كلام الجيل الذي نـزل فيه القرآن». ومراجعة كتاب الرجل: (شرح أحاديث من صحيح البخاري: دراسة في سمت الكلام الأول) توقفـنا على نسب تكرارية مرتفعة لهذا المصطلح: سمت الكلام الأول، مستعمل في سياقات تحليلية للأحاديث المختارة.
رابعًا: استقرار أمر تأثير البيئة في لغة الأفراد.
خامسًا: استقرار أمر تأثير القادة النوعيين في لغة متبوعيهم، وهو ما نلمسه في المدارس الشعرية والأدبية، من تأثير المتقدم المبدع في عدد كبير ممن يأخذون ويروون عنه، وتعلق الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي ﷺ وملازمته والحرص على تقليده والتأسي به أمور متواترة.
وإليك العلامات التي توفرت لنا في هذا المجال المبكر:
أولًا: المدونة الحديثية الراعية للتربية اللغوية (تهيئة البيئة التربوية):
أخرجت كثير من كتب السنة الشريفة عددا من الأحاديث تدور حول ما يمكن أن يسمي إطارا إعداديا للتربية اللغوية للصحابة رضي الله عنهم منها:
1- يقول رسول الله ﷺ لرجل لحن- أي: أخطأ- في اللغة بحضرته: «أرشدوا أخاكم فقد ضل».
2- ما جاء عن عمر من أنه كان يعاقب عمال الدولة (موظفي الجهاز الإداري للدولة) على الخطأ في اللغة، فيما يرفعونه من وثائق وتقارير ومستندات، روي أبو الطيب اللغوي في كتابه (مراتب اللغويين): «وكتب كاتب لأبي موسي الأشعري إلى عمر «من أبو موسى»، فكتب إليه عمر: سلام عليك «أما بعد فاضرب كاتبك سوطا وأخر عطاءه». وبعيدا عن فحص الأثر من جهة الرد والقبول، فإن تواتر الرواية تاريخيا كاف في تقدير المسألة.
3- ما روي من أن الصحابة العلماء كانوا يرون الخطأ في اللسان كالخطأ في الرمي أو أقبح.
من هذه النصوص أو الأخبار وغيرها ندرك أن ثمة بيئة أولية تهيأت للصحابة رضوان الله عليهم تتلخص ملامحها في الرفض للخطأ في اللغة، وهذه البيئة أو الأجواء من العوامل المعينة على الاستجابة لبرامج التربية اللغوية، كنوع من الفرار مما هو مذموم معيب من جهة النبي ﷺ على الأقل، لو كان من باب الكراهة التي ترفضها أخلاق الناس أو ما يسمي باسم خوارم المروءة.
ثانيًا: تدريب النبي ﷺ للصحابة على النطق الصحيح بالطرق المختلفة:
مما تواتر الخبر به أن النبي ﷺ كان يٌقرئ الصحابة؛ أي: يُسمعهم كيفية أداء النص الكريم أداء صحيحا، وهناك أدلة كثيرة على هذا الذي نقرره:
1- تواتر الأحاديث التي تأمر بقراءة القرآن: «اقرءوا القرآن» والمفهوم من القراءة هو تحريك اللسان بالكلام.
2- اشتراط القراءة، التي هي تحريك اللسان، في الصلاة، وهو تكرار يؤدي إلى اشتقاقه الملكة اللغوية، وهو الأمر المعروف بتمارين التقدم في الكلام بالتدريب المستمر.
3- تواتر الأحاديث المخبرة عن أن النبي ﷺ كان يُقرئ الصحابة؛ أي: يعلمهم قراءة الذكر الحكيم من مثل:
- أقرأني رسول الله.
- أقرأنيها رسول الله.
- إنك أقرأتها إياه.
- اقرأتني آية كذا.
- على غير ما أقرأتنيها.
- أم تقرئني كذا؟
والإقراء باب ضخم من أبواب تدريب اللسان على القراءة الصحيحة، وهو الأمر المستقر اليوم في باب تعلم اللغات عن طريق الاستماع، إلى المتدرب المتعلم والتصحيح له.
4- تواتر تشجيع حلقات القراءة، بما هي معامل تربوية لغوية، يقول سهل بن سعد الأنصاري، قال: خرج علينا رسول الله ﷺ، ونحن نقترئ، يُقرئ بعضنا بعضًا، فقال: «الحمد لله، كتاب الله عز وجل واحد فيه الأحمر والأسود، اقرءوا. اقرءوا. اقرءوا» ومصطلح الاقتراء هنا مصطلح شديد الأهمية في برامج التربية اللغوية، تقوم عليه المختبرات اللغوية المعاصرة.
5- تواتر الأحاديث التي تخبر أن رسول الله ﷺ كان يسمع القرآن من الصحابة، وهو نوع من التدريب لهم، تعرفه أدبيات التربية اللغوية المعاصرة في باب تثمين القراءة بالصوت المرتفع وأثرها في تنمية الملكة اللغوية لمن يفعلها.
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إني أحب أن أسمعه من غيرى» (المعجم المفهرس 2/538)، ذلك أن القراءة بالصوت المرتفع مقدرة الأثر في التربية اللغوية.
ثالثًا: قيام النبي ﷺ بوظيفة المعجم الحي المتحرك:
وأقصد بذلك ما كان يؤديه رسول الله ﷺ لمجتمع الصحابة رضي الله عنهم من بيان للألفاظ والتعابير الغامضة، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بأنه كان يقوم بوظيفة المعجم الحي المتحرك بينهم.
ولعل أظهر دليل على ذلك هو ما جمعه علماء السنة في مصنفاتهم تحت عنوان باب التفسير؛ أي ما فسره النبي ﷺ من كلمات القرآن وآياته للصحابة، وهناك أمثلة كثيرة جدًّا لهذا الباب بلغ حجمها في البخاري ما يقرب من ثمن الصحيح.
وهذا النوع من الأحاديث مهم جدا في باب التربية اللغوية للصحابة باعتبار أنهم حاملو الرسالة ومؤدوها، ذلك أن بيان معاني المفردات بعد تحصيل نطقها الصحيح يكمل دائرة الارتقاء اللغوي بتحصيل عنصري العلامة اللغوية: (الدالي أو اللفظ، والمدلول أو المعنى)
ويرتبط بهذا النوع من الأحاديث، أحاديث تصحيح المفاهيم من مثل سؤالاته ﷺ للصحابة عن مفاهيم معينة، وتصحيحه لما في أذهانهم من مثل حديث: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، فأنشأ مفهوما جديدا للشديد يتعلق بنسق قيمي مراد، هو امتلاك النفس عند الغضب.
ويرتبط بهذا النوع أيضا الأحاديث التي يمكن تسميتها بالحوارية، التي يتبادل فيها النبي ﷺ الحوار مع بعض صحابته من مثل حديث: «كيف أصبحت يا حارثة فقال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال: وما حقيقة إيمانك؟ فقال: أصبحت زاهدا في الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري... قال: عرفت فألزم».
وعلماء التربية اللغوية المعاصرين يقررون الأثر الإيجابي للحوار في عملية التربية اللغوية، ومنهم جان بياجيه، وسيرجيوسبيني فيما كتبه عن التربية اللغوية.
رابعًا: استعمال الموضحات البصرية في تجويد عمليات التواصل:
لقد ورد في السنة الشريفة آثار كثيرة ظهر فيها استعمال الموضحات البصرية، من الرسوم والخطوط والأشكال، والحركات؛ لتتميم عمليات التواصل بجوار الكلام أو الحديث.
والتربية اللغوية في العصر الحديث تقرر أهمية الوسائل المساعدة في عمليات التواصل وتحصيل المفاهيم، ومن ثم يقولون إن عمليات التواصل الناجحة هي التي تعتمد الحديث اللغوي مضموما إليه العناصر غير اللغوية مما ذكرت لك.
وقد تواتر الخبر عنه ﷺ باستعمال عدد من الموضحات على طريق صناعة تواصل جديد، من مثل ما ورد من الإشارة، ورسم الخطوط على الأرض بالنكت بالعصا، إلى غير ذلك مما ورد عنه ﷺ، وقد وقف عدد من المعاصرين أمام استعمال النبي ﷺ لوسائط الاتصال غير اللفظي بالفحص والتحليل من مثل الدكتور الصاوي الجويني رحمه الله.
خامسًا: تأسيس النبي ﷺ لما يشبه ديوان الإنشاء:
ومن المدهش حقا أن نقف أمام شيء معروف في سيرته، ونتأمله بشكل مختلف، فقد عرف عنه ﷺ مخاطبة الملوك والأمراء على عهده، من باب دعوتهم إلى الإسلام وعرضه عليهم.
وقد اتخذ له من أجل ذلك كُتابا عرفوا في التاريخ الإسلامي بكُتاب النبي ﷺ، وقد اعتني غير واحد بجمعهم وجمع ما كتبوه له ﷺ في مراسلات الملوك والأمراء في مصنفات مستقلة من مثل:
1- المصباح المضيء في كتاب النبي ﷺ إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي، لابن حديدة الأنصاري المتوفي سنة 783هـ.
2- إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين ﷺ، لابن طولون الدمشقي المتوفي سنة 953هـ.
وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، والأرقم بن أبي الأرقم، وثابت بن قيس، وجهم بن سعد، وحنظلة بن الربيع، وحويطب ابن عبد الله، والحصين بن غير، وخاطب بن عمرو وحذيفة بن اليمان، وأبو أيوب الأنصاري، وخالد ابن سعيد، وخالد بن الوليد وزيد بن ثابت والزبير بن العوام وسعيد بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، وأبو سفيان بن حرب، وطلحة بن عبيد الله، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن رواحة، وعمرو بن العاص، والعلاء ابن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم.
ومن الممكن النظر إلى هؤلاء باعتبار أنهم مدرسة بالمعني العلمي، كان لهم فضل إنشاء أول ديوان للإنشاء، تدرب فيه الصحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله ﷺ على نوع من التربية اللغوية في مكاتبة عظماء ذلك الزمان ممن دعاهم النبي ﷺ إلى الإسلام والإيمان، وهي مؤسسة نبوية رعت ما يلي:
1- تدريب الصحابة على الكتابة بالمعنى الفني.
2- تدريب الصحابة على مراعاة اختلاف البيئات المتلقية في رعاية مقام المخاطب المكتوب إليه من جهة:
أ- جغرافية الإقامة من بدو أو حضر.. إلخ.
ب- مقام المتلقي الرسمي (ملك، أمير، عظيم.. إلخ).
ج- مقام المتلقي الفكري (الأيديولوجي) (عربي مشرك، نصراني، وثني، مجوسي.. إلخ).
د- مقام المتلقي النفسي، وخصائصه الوجدانية.
وهي الأمور التي نلمح لها آثارًا في تصميم الرسائل التي كان يرسل بها رسول الله ﷺ إلى ملوك الأرض وأمرائها.
من مجموع العلامات السابقة وغيرها يتضح لنا أن ثمة ملامح لمنهج نبوي في تربية الصحابة تربية لغوية، وهو باب من العلم يحتاج إلى قدر من التأني، ومزيد من الفحص والدراسة. وهو أمر يزيد المسلمين المعاصرين ثقة ويقينا في عظمة النبوة وشمول رعايتها للمجتمع الإنساني في كل جوانب الحياة.
نتائج الدراسة
أولا: نحن نري في تربية النبي ﷺ لُغويا من تمام قيامه بالبلاغ بتنشئة الجيل الأول لُغويا؛ لأن اللغة آلة البلاغ.
ثانيا: نحن نرى شمول المنهج النبوي في التربية اللغوية، ورعايته للأداء اللغوي، نطقا، وترقية للفهم، واستعمالا للقراءة بالصوت المرتفع، ورعاية للوسائل غير اللغوية (غير اللفظية) وتقدير قيمتها في عمليات التواصل الناجح.
ثالثا: نحن نرى في العناية بجيل من الكتاب بذرة أول مؤسسة تدربت على الكتابة الفنية والوظيفية، فيما يعرف تاريخيا بديوان الإنشاء، ونرى في كتاب النبي ﷺ أول مؤسسة اعتنت بتخريج جيل من الكتاب المدربين على تنويع الكتابات، ومراعاة مقامات المرسل إليهم، ومراعاة تنوع بيئاتهم المختلفة.
رابعا: اتضح مما سبق أن في السيرة النبوية أبوابا لا حدود لها يمكن أن تنفع المجتمع المعاصر في برامج التربية عموما، وبرامج التربية اللغوية خصوصا، من مثل تقدير:
1- السماع وأثره في التربية اللغوية، من قبل المتعلمين.
2- الاستماع والتصحيح وأثرهما في التربية اللغوية على يد المعلمين.
3- تشجيع برامج القراءة بالصوت المرتفع وأثرها في التربية اللغوية؛ استثمارا لآثار الإقراء والاقتراء.
.