التربية هي عملية التأثير الواعي المتعمد والمسئول، الذي يحدثه الكبار في الأطفال والشباب الصغار. وهي جزء من التربية الشاملة التي تقدم للمتعلم، بداية من الأسرة إلى المؤسسات العامة، المتعددة الخدمات؛ لمساعدة الأسرة في أداء رسالتها التربوية، مثل مؤسسات الخدمات الصحية، ورياض الأطفال.
وفي المدرسة يتم استمرار عملية التربية، وإصلاح الأخطاء الوالدية، وتقديم ما عجزت عنه الأسرة والتربية = خاصية إنسانية، ولازمة ضرورية للإنسان بحكم طبيعة الطفولة فيه؛ إذ تمتد سنوات طويلة يحتاج فيها إلى من يعلمه، ويوجهه، ويساعده في قضاء مطالبه التي يتعذر عليه القيام بها منفردًا بعكس الكائنات الحية الأخرى التي تستقل فيها بنفسها، ولو بعد ساعات من الولادة. الأمر الذي يؤكد حقيقة أن تربية الإنسان تبدأ من المهد وتنتهي إلى اللحد، ولعل طول مدة الطفولة هذه فرصة لتزويد الطفل بكثير من المهارات الحياتية، التي يحتاج إليها في مستقبل حياته.
وفى دراسة بعنوان: «التربية الخلقية.. بديهيات حياتية وبحثية»، للأستاذ الدكتور إبراهيم محمد عطا، قسم المناهج وطرق التدريس، كلية التربية جامعة الفيوم، يرى أن التربية الخلقية هي قوام الحياة، وعماد النشاط الإنساني فيها، بل حتى في النشاط مع الكائنات الأخرى، وهي تتسع لكل ما يدور في المدرسة؛ انطلاقا من المسؤولية الاجتماعية للتربية، كما تتسع لكل ما يجري في المجتمع من قواعد وقوانين، وعادات، وتقاليد، ومعاملات، وأنظمة، وغير ذلك؛ باعتبارها الحاكم لكل ذلك، وباعتبارها المسئولة عن إعداد الأجيال القادمة لتحمل أعباء العمل السياسي والاجتماعي.
التربية الخلقية
التربية الخلقية ليست بدهية تربوية فقط بل هي بديهية حياتية؛ لأن الحياة لن تستقيم بالبعد عنها، أو إهمالها ولهذا كانت هدفًا دينيًا لصلاح الكون؛ فقد قال رسول الله ﷺ: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، كما مدحه المولى سبحانه الرسول الكريم بقوله: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (ن: 4).
وليس هناك دليل أقوى على ضرورة التربية الخلقية من تصور مؤداه: ماذا لو غاب الحياء، والكرم، والشجاعة، والصفح، والحلم والأمانة، والصدق، والعفة، والكرامة، والاعتزاز بالنفس، والنزاهة، وكل الفضائل الإنسانية عن حياة الناس؟! كيف يصير حال المجتمع؟ تصور ما شئت، وافترض ما شئت.
يقول أحمد شوقي عن العلم والتعليم، وواجب المعلم:
ربوا على الإنصاف فتيان الحمى تجدوهم كهف الحقوق كهولًا
فهو الذي يبني الطباع قويمة وهو الذي يبني النفوس عدولًا
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا
مصادر الأخلاق
وهذه الفطرة تتمثل في ميزان العدل والحق في الإنسان، وحاجة الإنسان إلى الخلق الطيب ليتعايش مع غيره من البشر، حتى قبل الديانات السماوية، بدليل أن الإسلام حينما جاء؛ أقر بعض الفضائل الإنسانية، ولم يقر البعض الآخر. فأقر الكرم، والشجاعة، والمروءة، والنجدة، والصدق والأمانة، إلى غير ذلك من الفضائل الخلقية، ولم يقر الثأر، والتفاخر بالأنساب، والتسلط على الآخرين والرق، وغيرها، بل إن العرب- وهم عينة من البشر- حددوا درجات لبعض القيم السابقة. فطرفة بن العبد- وهو شاعر جاهلي- وضع درجات للظلم- مع أن الظلم هو الظلم- في قوله:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وأقر العرب بعض القيم التي تتماشى مع طبيعة حياتهم، مثل قول الشاعر:
ومن لم يُمَالِئ في أمور كثيرة يُضَرَّس بأنيابٍ ويُوطأ بِمَنْسِم
تجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم ليس كتاب علم، أو فن، أو أدب، بل إنه كتاب حياة، إذا التزم الإنسان بما جاء فيه، وصل إلى قمة السعادة، واستشعر الأمن والطمأنينة، وتعالى عما في الحياة من صغائر الأمور وسفاسفها. ونظرًا لأن الناس صنعة الله في الأرض، فالأولى بهم أن يتخذوا مما جاء عن صانعهم لأنفسهم، وللآخرين؛ ولهذا فإن المطالبين بتقرير مادة دراسية اسمها «الأخلاق» بدلًا من تدريس مادة «الدين» يمكن القول فيهم إنهم مغرضون ينفذون سياسة غيرهم، ممكن يولون ظهورهم تُجاه الدين ويعتبرونه مانعًا يحول بينهم وبين تحقيق نزواتهم الخاصة– وهي غير شرعية بحق- وإما أنهم يجهلون طبيعة الحياة الإنسانية، التي لا تستساغ إلا بقبول الانصياع لشرع الله في أرضه، والرضا بما جاء عن الحق سبحانه.
ويحتم هذا الموقف القول بأن شرع الله: تشريعًا وخلقًا، يَسهُل العمل به في حياة الناس، وليس أمرًا متعذرًا، فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي ﷺ، فقالت: «كان خلقُه القرآنَ».
ورسول الله ﷺ بشر في صورته المثلى، ونموذجه الأعلى. فمن أراد الاقتراب منه فليفعل، ومجال الاختيار فيه مفتوح، وفيه ﷺ القدوة الشاملة. وإحقاقًا للحق القول: إن الالتزام الخلقي يتطلب نوعًا من المجاهدة، وضبط النفس، كما قال الشاعر:
صُنِ النفس واحملها على ما يزينها تعش سالمًا والقول فيك جميل
ولا ترين الناس إلا تجملا نبا بك دهر أو جفاك خليل
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غدٍ عسى نكبات الدهر عنك تزول
أما التمرد على القيم الخلقية فأمر سهل، انطلاقُا مما قيل: «صعوبة البناء وسهولة الهدم».
هو ما استقر في النفوس من جهة شهادات العقول، وتلقفته الطباع السليمة بالقبول. ومنه عرف اللسان، وهو ما يفهم من اللفظ بحسب وضعه اللغوي، ومنه عرف الشرع، وهو ما فهم منه حملة الشرع وجعلوه مبنى الأحكام؛ وبهذا المعنى فإن القيمة الخُلُقية تمثل مستوى أو معيارًا للانتقاء من بين بدائل، أو ممكنات اجتماعية متاحة أمام الشخص الاجتماعي في الموقف الاجتماعي.
والقيم الخلقية بهذا المعنى يمكن أن تختلف من مجتمع لآخر؛ لأن لكل مجتمع مرجعياته الخاصة به، وإن كان هناك قاسم مشترك بينها، من واقع إنسانية كل فرد. ومعروف أن الصحة النفسية ترتبط ارتباطًا وثيقا بالأخلاق السائدة في المجتمع.
بعض ملامح التربية الخلقية
نظرًا لأن التربية الخلقية ضرورة إنسانية وبحثية، ولا حياة لمجتمع ما إلا بها؛ فإن هناك بعض الملامح التي تميزها، ومنها:
- أن حسن الخلق مؤشر صادق لبعد الأصالة؛ فرُوي عن ابن عمر قوله: لم يكن رسول الله ﷺ فاحشًا، ولا متفحشًا، وكان يقول: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا». ويؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13).
- أن حسن الخلق ضابط لسلوك الفرد، بمعنى أنه مِحك تقويمي، أو معتقد ما، من واقع خبرة جديدة، بحيث يصبح هذا المحك، أو هذا المعتقد ذا فاعلية في تشكيل سلوك الفرد، ومن ثم إحداث تغير ما فيما كان محتضنًا من قيم سابقة، يتحدد شكله بقدر مسايرة هذه القيم للمعتقد، أو المحك الجديد.
- أن حسن الخلق مظهر من مظاهر التوافق النفسي الاجتماعي. ولعله من المعروف أن لكل مرحلة عمرية نسق من القيم تتميز به عن غيرها من المراحل، طبقًا للخصائص المعرفية والوجدانية والسلوكية لها. ويحفظ هذا النسق حالة التوازن والتوافق مع القواعد والمعايير الاجتماعية والأخلاقية السائدة في المجتمع.
- أن التربية الخلقية تظهر في شكل: طلاقة الوجه وبذل المعروف، وكف الأذى. وهي دليل الحب لرسول الله ﷺ فيما روى عن جابر– رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون، والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» رواه الترمذي.
والثرثار: هو كثير الكلام تكلفًا، والمتشدق: هو المتطاول على الناس بكلامه، يتكلم بملء فيه تناصحًا وتعظيمًا لكلامه، والمتفيهق: هو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به تكبرًا وارتفاعًا، وإظهارًا للفضيلة على غيره.
الخلق وواقع الحياة
تبدو الحياة برمتها خليطًا من الخطأ والصواب، والحق والباطل، والخير والشر، لأننا بشر، وقلّ منا من يصل إلى مرحلة الكمال، خاصة في مجال القيم، والخلق الرفيع، الأمر الذي يحتم على التربية– باعتبارها علمًا تطبيقيًا- أن ترصد القيم لدى الأفراد، وتحاول التركيز على الجانب القيمي الضعيف فيها؛ حتى يتداركه الأفراد.
وقد يقصر محتوى المنهج الدراسي في معالجة القيم السالبة، التي ليست في مصلحة المجتمع، والتي من الممكن أن تلوث سمعته. وعليه فإن المعلم هو المعول عليه في تحمل العبء الأكبر في تنبيه الطلاب إلى مواقع الخلل القيمي من خلال طريقة التدريس التي يتبناها، والوسائل التعليمية التي يستخدمها، والنشاط المدرسي الذي يشرف عليه، بحيث يتخذ من هذا النشاط، وما يمارسه الطلاب محورًا تدور عليه معالجة القيمة الضعيفة السائدة، وكذا من خلال القيام بتقويم الطلاب، بأساليبه المتعددة، والتي يستشف منها القيم الإيجابية، مثل الدقة والموضوعية، والعدالة، والإتقان.
إن المتعلم أيًا كان عمره، وأيًا كان مستواه ملاحظ دقيق، ومسجل أمين لكل ما يدور في المدرسة، خاصة ما يصدر عن المعلم، ومدير المدرسة، وهما قطبا العملية التعليمية، الأمر الذي يتطلب منهما العلم بنقائض الأخلاق، وخبايا النفوس.
ولعل أفضل ما يؤخذ به هنا، ما روى أن عمر بن الخطاب كان يحب أن يعرف الشر، كما يعرف الخير، لأن الذي لا يعرف الشر أحرى أن يقع فيه، وأنه كان يحب أن يعرف الأعذار، كما يعرف الذنوب، وحيث يقول: أعقل الناس أعذرهم للناس. وهو القائل: احترسوا من الناس بسوء الظن. وهو القائل مع ذاك: أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر.
أخلاق أهل القمة
الحقيقة التي لا تقبل الشك أن هناك مستوى أعلى في القيم الخلقية الإسلامية، تمثل– ضمن ما تمثل- في الآية الكريمة: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40) فهي تعني أن من حق الفرد أن يرد على الإساءة بمثلها لأن فيها ردعًا لكل من تسول له نفسه بالتطاول على الآخرين، إلا أن هناك مستوى أرقى من ذلك وهو العفو عند المقدرة، وهي مرتبة التسامي، والبعد عن الخلق الدنيوي، والترفع إلى الخلق الأخروي، ومن هذا الخلق أيضًا قوله تعالى: {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر:9)، فهي تعني من يقدمون حاجات الناس على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم، في حالة احتياجهم إلى ذلك.
وليست أخلاق أهل القمة خاصة بالأفراد فقط، بل تتعداه إلى المجتمع الإسلامي؛ ليكون نموذجًا يقتدي به، وعلامة مضيئة لمن في الأرض جميعًا، ومن هذه القيم الخلقية العالية، ما يلي:
- فعن معاوية بن حيدة القشيري أنه سمِع النبيَّ ﷺ يقولُ في قولِه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: إنكم تُتِمُّونَ سبعينَ أمةً، أنتم خيرَها وأكرمَها على اللهِ.
- أن الأمة المحمدية لها الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية: {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِين} (آل عمران: 139).
- أن الأمة المحمدية مأمورة بالتعاون فعل الخير، ومنهية عن التناحر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَان} (المائدة: 2)؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: تحجِزُه، أو تمنعُه، من الظلمِ فإنَّ ذلك نصرُه».
- أن الأمة المحمدية تتميز بالرحمة: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29). وقال ﷺ: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ. إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى».
- أن الأمة المحمدية مأمورة بأداء الأمانات إلى أهلها، والعدل في القضاء: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (النساء: 58)، قال ﷺ: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
- أن الأمة المحمدية مأمورة في السلم وفي الحرب، وما جرى مجراهما بالشورى: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) للاستنارة بآراء الآخرين، فضلًا عن تتطيب نفوسهم، وتنشيطًا لهم فيما يفعلونه. عن أبي هريرة– رضي الله عنه- عن النبي ﷺ قال: «المستشار مؤتمن» (رواه أبو داود والترمذي).
هذه بعض المظاهر الخلقية في الإسلام، وهي تستهدف في المقام الأول نبذ الخلافات، وتقريب الفواصل بين الناس، وشيوع الطمأنينة والحب، واستقرار الأوضاع في المجتمع. ولئن خلا المنهج الدراسي منها، أو من بعضها فإن على المعلم أن يقدمها لطلابه، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة؛ لأن هذا من صلب مهمته. ومن أوفى بمهمة الرسل عليم السلام من معلم أمين، وموجه صادق، وقائد غير مطعون في خلقه.
.