تمثل قضيَّة التربية في قصَّة سيدنا يوسف عليه السلام مرتكزًا أساسيًا من المرتكزات الأخلاقية التي تقوم عليها أحداث القصة، وتدعو إليها مواقفها المختلفة. وذلك عبر اللفتة الموحية والإشارة الدالة التي حملتها مسيرة القصة منذ بدايتها حتى نهايتها.
وتعد ﻗﺼﺔ ﻳﻮﺳﻒ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ من القصص ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺫﺍﺕ المغزى التربوي الرفيع، ﻓﻬﻲ ﻗﺎﻟﺐ ﺗﺮﺑﻮﻱ ﻭﻣﻨﱪ ﺇﻋﻼﻣﻲ ﺗﻨﻔﺬ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﺇﱃ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻓﺘﻬﺰﻫﺎ وفي مكمنها ﺗﺮﺑﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﺗﺮﰊ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻭﺍﳉﻴﻞ ﺍﳌﺴﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ.
فسورة يوسف عليه السلام، من أعظم السور التي تعالج الجوانب التربوية داخل الأسرة، فهي سورة تتحدث عن نموذج واقعي لأسرة تتعرض كغيرها من الأسر من المشاكل والاحتكاكات، والتحاسد، والتنافس، بين الأخوة، كما تتحدث عن مسيرة شاب بدأت بطفولة طموحة، ومرت بتحديات حسية ومعنوية، ووصلت إلى قمة النجاح.
التربية الأولية
لقد أدرك يعقوب عليه السلام المعاني التربوية التي استنشق رحيقها من سيرة الأنبياء الآباء وسار على دربها متلمسا طريق الرحمن في وقت غابت العبودية لله والقيم السليمة إلا من خلال بيوت النبوة والقليلين الذي تلمسوا درب هؤلاء الأنبياء عليهم السلام.
ومن ثم تربى يوسف وإخوته على المعاني الحقيقية للإيمان وإن كانت النفس البشرية بنزاعها تملكت البعض وسيطرت عليه في محاولة لإراحة القلب مما ينغص عليها مسيرتها حتى ولو كان عن طريق الخطأ، وحدث الصراع بين: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ...} وبين {... وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} (يوسف:9).. وهذا هو مكمن التربية الحقيقية التي تجعل النفس حينما تقدم على معصية ربها يحدث صراع بين جينات الإيمان والجينات التي سيطر عليها الشيطان ولابد للنفس كذلك حتى ينتصر الحق.
مسيرة تربية
لقد حفلت مسيرة حياة يوسف عليه السلام بالقيم التربوية التي ستنهض الإنسان من غفلته، وتدفعه للهمة العالية والسمو:
1- التخطيط واتخاذ الأسباب:
جمعت مسيرة سيدنا يوسف عليه السلام معانيَ التخطيط واتخاذ الأسباب مع حسن التوكل على الله وبالرغم من صغر سنه أو شقاءه في طفولته إلا أنه ما ترك حسن التخطيط أو التوكل على الله.
فنجد إخوته رغم كيدهم إلا أنهم بدأوا بالتخطيط وحسن الإدارة حينما تدارسوا موقفهم من يوسف وأخيه ثم وضع خطتهم التي يحتالون بها على والدهم ثم رعايتهم لهذا التخطيط حتى تم مرادهم بأفول نجم يوسف عنهم.
فيأتي تسلسل الأحداث منظما ومترابط مع بعضه البعض: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ...} ثم {... أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ...} ثم {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ...} ثم {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ...} ثم {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ...}. ولم يتوقف التخطيط عند هذا الحد بل رأيناه في زوجة العزيز كيف رتبت وخططت ووضعت المتلازمات وردود الفعل وكيفية التعامل معها حتى انتهت باتهام المظلوم الذي لولا رحمة الله عليه لكان حقًّا ظهر كمتهم: {... قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ...}، واستعملها يوسف في الكشف عمن سرق وعاء الملك، كما استعملتها امرأة العزيز حينما تحدثت النسوة عن علاقتها بيوسف- عليه السلام- ولهذا أمرنا الإسلام بحسن الإعداد والتخطيط وعدم العشوائية في القرارات.
2- العدل بين الأبناء:
ما كان الدافع لإخوة يوسف من الإقدام على فعل ما فعلوه معه إلا عدم العدل الذي رأوه من والدهم نحوهم فولّد حسدًا تملّك عليهم نفوسهم نحو أخيهم، رغم أن يوسف هو أخوهم الصغير الذي لا حول له ولا قوة، وهم الأقوياء الأشداء لكن الحسد الذي ملكهم أعمى أبصارهم حتى جعل أرحمهم يعترض على قتله لكنه وافق على إبعاده: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا ...} (يوسف:8).
فمن قصتك تعلمتُ الأمة أن العدل بين الأبناء مطلب ضروري وأن الآباء يوغرون صدور أولادهم على بعضهم دون أن يشعروا.
كما أنه من الخير أن لا تقصص على الجميع كلَّ خيرٍ وهبه الله إياك لأن البعض عيونهم ضيقة وقلوبهم أضيق ينظرون إلى ما في أيدي غيرهم أكثر مما ينظرون ما فى أيديهم: {... لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ...}(يوسف: 5).
3- الأمانة الحقيقية لا تكون إلا مع قدرة على الخيانة:
فليست الأمانة أن يدعي الإنسان أنه أمين وهو عاجز عن حفظها، أو لا يستطيع فعل الخيانة ولو تيسرت له الخيانة لسارع لها، لكن ضيق ذات اليد وعدم استطاعته الخيانة جعلته يتغنى بالأمانة.. فالأمين الحقيقي هو الذي تتيسر له سبل الخيانة ومع ذلك لا تنطفئ في هذه اللحظات ومضات الإيمان، بل تظل تنير له ظلمات الطريق فينجو منها بقوة إيمانه وورعه.. ولقد تيسرت سبل الخيانة ليوسف عليه السلام وتهيأت له بكل السبل وتزخرفت وكان قادرًا عليها إلا أن روعة الإيمان والخشية من الرحمن صدته عن الإقدام على هذا الجُرم: {... وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}؛ فالتربية ليست تلك التي نتعلمها في الكتب بالمدارس أو الجامعات أو نقرأها في المجلات أو نستقيها من الصحف فحسب، لكن التربية غرس يتعهده الله سبحانه في قلب كل من توجه إليه واتّقاه، فالله يهب العلم على قدر التقوى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} والمسألة لم تكن مسألة عقول بقدر ما هي مسألة قلوب.
4- إشراقات الأمل بالله والوثوق به سمة المسلم:
المسلم الذي آمن بالأنبياء وكتب الرحمن لديه الثقة في ربه ووثق به في كل حياته فلا يخالجه شك في ربه حتى ولو كانت الأحداث في ظاهرها مؤلمة واستمرت حينًا من الدهر. فما الذي يحياه كل من تمسك بدينه في هذا الزمن إلا نموذج من هذه التربية التي سبقنا بها يوسف عليه السلام وأبيه.
لم تأتي الطعنة من الذئب كما ادَّعى إخوة يوسف لكنها جاءت منهم، وما كادوا يخبرون أباهم أن ابنه أكله الذئب إلا وقد انصهر القلب بإيمانه بالرحمن فنطق: {... فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ...} ثم أعقبها: {... وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} لوثوقه بربه أن الأمور غير ما أخبره به أبنائه، ثم تتلاحم القصة حتى يفقد ابنه الثاني فيزداد الوثوق باللهك {... فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(يوسف: 83).
ثم يفصح عن هذه الثقة الربانية فيقول: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ...}(يوسف: 87).
5- تطوير الواقع لا استحداث واقع:
من المفسدات التي غزت بلداننا الإسلامية هي طمس إنجازات السابقين حتى لا تكون شاهدة إذا عجز من خلفه، فنرى كل من يتولى منصبًا يمحو سيرة سابِقِهِ وكل خططه وأعماله ويبدأ من جديد وهكذا؛ حتى لا يترك الذكر الحسن له.
لكن يوسف– وقد استفاد منها الغرب- نظر للواقع فطوره واستحدث آليته، فحينما حلم الملك بوجود خطر وفسرها يوسف مؤكدا الخطر لم يتركوا الأمر كعادتهم للظروف لكن يوسف بادر: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ}(يوسف: 47)ثم أكد مبادرته حينما وجدهم عاجزين عن التنفيذك {قال اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(يوسف: 55).
للأسفّ.. إن ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ ﻳﻜﻮﻥ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ ﺳﻮﺀ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ ﻻ ﻗﻠﺔ في الموﺍﺭﺩ، فقد نجت ﻣﺼﺮ- وما حولها من بلدان- ﺑﻌﻘﻠﻴﺔ ﺇﺩﺍﺭﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻟﻠﻤﻮﺍﺭﺩ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ولم تأت بموارد جديدة.
ولهذا وجب على المسلم أن يعرف أن ﺍﻟﻤﺠﺮﻣﻴﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮﻥ ﺃﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺛﻴﺎﺏ ﺍﻟﻨﺎﺻﺤﻴﻦ، ﻓﻘﺪ ﻗﺎﻝ ﺇﺑﻠﻴﺲُ لآﺩﻡ- عليه السلام-: {... ﻫَﻞْ ﺃَﺩُﻟُّﻚَ ﻋَﻠَﻰ ﺷَﺠَﺮَﺓِ ﺍﻟْﺨُﻠْﺪِ ...}، ﻭﻗﺎﻝ ﺇﺧﻮته ﻷبيه ﻳﻌﻘﻮﺏ: {... ﺇِﻧَّﺎ ﻟَﻪُ ﻟَﻨَﺎﺻِﺤُﻮﻥَ} و{ﻭَﺇِﻧَّﺎ ﻟَﻪُ ﻟَﺤَﺎﻓِﻈُﻮﻥَ}، ففي قصة يوسف الكثير من معانِ التربية ودورسها.
.