Business

حنان عطية تكتب: احترام الكبير.. قيمة يتعلمها الصغار بالقدوة والعمل

 

بينما كنت استقِلُّ الحافلة وأنا عائدة إلى بيتي، وكعادتي اتفحص كل ساكن ومتحرك على الطريق بنظراتي.. أحب أن أرقب حركة الحياة من حولي وأسرح وأفكر فيما يستوقفني من مواقف.. هناك على الرصيف لمحت شابًا طويلا ذا ملامح أوروبية.. يسير متأبطا جدته.. بخطوات متباطئة كي تنسجم مع خطواتها، كان يخطو بجوارها وقد أحنى رأسه برقبته وكتفه الأيمن مائلا تجاهها حتى يلقي بأذنه قريبا منها كي لا يفوته شيء من حديثها، باهتمام شديد.. وبحب لم تخفيها ملامح وجه، وهو يتجاذب مع الجدة أطراف حديث جذاب بدا وكأنه حديث بين عاشقين!
ليس هذا مشهدًا وحيدًا ومتفردًا رأيته في هذا المجتمع الذي لا أعرف لغته ولا عاداته ولا طريقة تفكير أهله، يظهر لنا فقط أنهم بعيدين عن معرفة الدين الإسلامي بالشكل الكافي نتيجة لسنوات حكم وتحكم العلمانية في إدارة بلادهم.. ورغم ذلك ظلت الصورة السابقة بين الحين والآخر تتكرر بمعنى واحد وإن كانت بتفاصيل مختلفة. فهناك في المول التجاري في أدواره الشاهقة وممراته الممتدة لمسافات شاسعة تتناثر المحلات التجارية ومطاعم الوجبات السريعة، تجد فردا أو مجموعًا وقد اصطحب والده أو جده على كرسيه المتحرك وصعد به تلك الطوابق كي يشاركه وجبة وجلسه دافئة وحوار مليء بالود والصداقة.
هناك في الذاكرة تتراص الملفات، وهذا الملف بين الحين والآخر أضيف إلى ورقاته ورقة وإلى صوره صورة، وأظل هكذا حتى تتضح عندي الصورة وبعدها أصدر حكمي أقول شهادتي.
بالقرب من بيتي، كنت أرقب أيضا هؤلاء الذين انتهزوا فرصة الشمس الساطعة فيأخذون أطفالهم وأحبتهم وحيواناتهم الأليفة وأكواب الشاي وبعض الطعام ويقضون أوقاتا دافئة يبددون بها ركود الأيام الباردة التي تضطرهم إلى ملازمة بيوتهم، وعند نهاية اليوم المشمس شاهدت عائلة تركب السيارة، كانوا شبابا وشابات وكهولا وكهلات، وكانت معهم الجدة الثمانينية؛ كان واضحا عليها ضعف الإدراك، وشيءٌ من غربة الإحساس، كنت أرقب وأنا على يقين أنهم سيُجلسونها كما نُجلس الأطفال في المقاعد الخلفية، بينما ستأتي شقراء شابة تجلس بجوار الشاب الذي سوف يقود السيارة، ولكن خاب حدسي، فقد أجلسوها في المقعد الأمامي في حين تزاحم الباقون في الخلف!

صور كثيرة صادفتني في ذلك المجتمع مشابهة للصور التي ذكرتها كلها تؤكد أن قيمة احترام الكبير موجودة بكامل قوتها ومُحَافَظ عليها من قبل المجتمع رغم المنعطفات الصعبة التي مروا بها مثلنا في الشرق.
الحقيقة المؤكدة أن مجتمعا كهذا يأخذ الكبير فيه مكانته اللائقة، حيث الاحترام والحب والإنسانية، هو مجتمع يحمل في طياته عوامل البقاء، ففيه يتوارث الأبناء القيم من أفعال من حولهم ومن سلوكياتهم ولذا سوف يستمر، فهو ليس مجتمعا مثلنا يتلو القيم ويتحدث عنها ويُحدث بها، ثم على الأرض تجد الكبير يواجه الشقاء وقلة الاحترام والضياع.
كثيرة هي مآسينا في التعامل مع من هم أكبر منا؛ استهانة، وألفاظ غير رقيقة، وتكهُّم، وجرح للكرامة، والتقليل من جدوى ما يفعل، وغمطٍ لحقه، والنكران لفضله!

إن مجتمعا يكابد فيه عجائزه صعوبة الحياة وقلة الرعاية المجتمعية وقلة الاحترام والرحمة، هو مجتمع يُهدده الفناء الذي تسبقه دوامة من الهمجية المهلكة؛ إذ أن مجافاتنا لتلك القيم الجميلة وابتعادنا عنها ليست دليل تقدم، ولكنها مؤشر من مؤشرات ضياع الأمم وأفول نجمها وعدم استحقاقها لريادة الأمم.

فاحترام الكبير من القيم المهمة التي تحفظ حياة المجتمعات، وتجعلها أكثر نظامًا وقوّةً؛ لذلك حثّ الإسلام في تربية الصغار على احترام الكبار وتقديرهم، ويُعرّف التّوقير في الإسلام بأنّه الاحترام والإجلال لمن هم أكبر سنًّا، وتوقير الكبير لا يقتصر على كبير السنّ فقط، وإنما يشمل كبير السن ذي المنزلة الأدنى، وكبير المنزلة والمكانة.

وحثَّ الإسلام على حُسن معاملة الكبير والاهتمام به من خلال احترامه وتوقيره وتقديمه في الكثير من الأمور والأعمال، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ليس منا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صغيرنا ويوَقِّرْ كبيرنا ويأمُرْ بالمعروفِ وينْهَ عنِ المنكَرِ».

  وحذر الإسلام من استخفاف الصغير بالكبير فقد روى المنذري وغيره عن أبي أمامة-رضي الله عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «ثلاثٌ لا يستخفُّ بِهِم إلَّا مُنافقٌ: ذو الشَّيبةِ في الإسلامِ، وذو العلمِ، وإمامٌ مُقسطٌ».

لذا وجب علينا أن نعلم الصغار أن يرحموا الكبار ويقدرونهم ويوقرونهم ويُجِلُّونهم؛ فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا فإن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم