Business

توعية الشباب المسلم بالتحديات العلمية والحضارية بأسلمة العلوم

نحو إعداد الشباب المسلم لمواجهة التحديات العلمية والحضارية

 

أيقنت المجتمعات المتقدمة، أو التي تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم، أن الدعامة الأساسية في تحقيق نهضتها ومواصلة تقدمها يجب أن تقوم على تأصيل ثقافتها وتعزيز قيمها بما يجعل سلوك الفرد فيها متوافقًا مع الإطار الفكري الذي يحكم حركتها ويحدد أهدافها فالعلاقة جدًّا وثيقة بين تنمية الإنسان حضاريًّا وبين انتمائه فكريًّا وعقائديًّا.

وتتوقف الحصيلة الحضارية على درجة استيعاب الإنسان لعلوم عصره وحسن استخدامه لها وفق مقومات ثقافته ومنهج تفكيره، وفي إطار القيم والمعايير والضوابط التى يرتضيها المجتمع أساسًا لتوجيه السلوك ورسم خطى التقدم والرقي.

ولقد ظهر مصطلح (أسلمه العلوم) أو (إسلامية المعرفة)، في الفكر الإسلامي المعاصر ليقصد به إقامة العلاقة السليمة بين العلوم النقلية التي مصدرها الوحي، والعلوم العقلية التي مصدرها الكون والإنسان، وذلك وفق منهجية إسلامية رشيدة، تلتزم تعاليم الإسلام، وتتمثل مقاصده وقيمه وغاياته، دون أن تعطل عمل العقل أو تعوق حرية البحث والتفكير. ويأتي في مقدمة الخصائص الأساسية لأسلمة العلوم من حيث هي مشروع حضاري، أنها تسهم في تكوين العقلية العلمية القادرة على تقديم الطاقة والزاد لإزكاء الصحوة الإسلامية المعاصرة وإنجاح مسيرتها نحو النهضة المنشودة.

وفى دراسة للدكتور أحمد فؤاد باشا بعنوان: (نحو إعداد الشباب المسلم لمواجهة التحديات العلمية والحضارية بالإسهام في أسلمة العلوم الكونية) -2000-، قدّم فيها تصورًا عامًّا لإعداد الشباب المسلم القادر، فكريًّا وعمليًّا، على مواجهة التحديات العلمية والحضارية بالإسهام في أسلمة العلوم الكونية وتقنياتها، بحيث يفاد منها فيما يعمر الحياة وينفع الناس ويعمق الإيمان بالله سبحانه وتعالى على هدى وبصيرة.

 

الإطار الفكري لأسلمة العلوم الكونية:

أ) المقصود بمصطلح أسلمة العلوم:

إن المقصود بأسلمة العلوم، أو إسلاميتها، في إطارها العام: إقامة العلاقة الصحيحة بين (الإلهي) و(الإنساني) في العلوم والمعارف، وفق منهجية إسلامية رشيدة، تلتزم تعاليم الوحي، وتتمثل مقاصده وقيمه وغاياته، دون أن تعطل عمل العقل، أو تعوق حرية البحـــث والتفكير، ابتغـاء مرضاة الله في الدنيا والآخرة، وتحقيق إرادته، بإعمار الحياة وترقيتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويتميز هذا المذهب في المعرفة بأنه يعتمد كلًا من (كتاب الوحي) و(كتاب الكون) مصدرًا لإدراك الحقائق في كل من المصدرين؛ لأنها إن نهضت بمهام الإدراك لحقائق الكون في عالم الشهادة، فلن تفي بإدراك الحقائق في عالم الغيب، كما أخبر بها (كتاب الوحي) ممثلًا في القرآن الكريم وبيانه النبوي.

 

ب) خصائص العلم في التصور الإسلامي:

الأصل في معنى لفظ (العلم) عند العرب هو الإدراك العميق لحقيقة الأشياء. وهو معنى مطلق غير مقيد بتصنيف بعينه، مثل إضافات: الطبيعة أو الإنسانية أو النقلية أو التجريبية أو العقلية، فهذه كلها صفات تعبر عن موضوعات العلم والطرائق التى يحصل بها. والإنسان يولد في هذه الدنيا لا علم له بشيء من هذا الكون على الإطلاق، فيدعوه الإسلام إلى العلم، ويحثه على تحصيل المعرفة والاستفادة من تطبيقاتها وتقنياتها، ووسائله في ذلك كل ما منحه الله من ملكات إدراكية. قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَـارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} (النحل: 78).

والعلوم التي يحث الإسلام على تحصيلها والاستفادة منها تشمل كل علم نافع يهدف إلى تكوين الإنسان الصالح، ويزيد من صلته بالله سبحانه وتعالى، ويمكنه من القيام بواجبات الخلافة عن الله في الأرض، سواء كان هذا العلم دينيًّا أوكان دنيويًّا، نظريًّا أو تجريبيًّا، فرضًا عينيًّا أو كفائيًّا، مادام أنه في خدمة الدين الإسلامي ولصالح الحياة والإنسان. وهذا ما نفهمه من إطلاق لفظ العلم في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). ومن إطلاق معنى الأمر الإلهي في أول ما نزل من آيات القرآن الكريم ليشمل فهم وتدبر وقراءة كلمات الله القرآنية في كتابه المسطور وكلماته الكونية في كتابه المنظور، حيث قال عز من قائل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:1 -5). وقد ورد دعاؤه عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أعوذ بك من أربع: من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشـبع، ودعاء لا يسمع». ومقياس النفع لهذا ليس ذلك المعيار الفردي الذي نراه في الفلسفة (البراجماتية)، وخاصة عند (وليم جيمس)، وإنما هو مصلحة الأمة وإقامة أمر الدين، فمصلحة الأمة وقيام أمر الدين أمران لا ينفصلان.

وتأكيدنا على شمولية المفهوم الإسلامي للعلم نورده هنا لإظهار مدى القصور في المفهوم الشائع عن العلم في مختلف الفلسفات الوضعية، والذي يقصد به تلك الخصائص أو الصفات المشتركة في كل نشاط عقلى إنساني حين ينصرف بشكل منظم إلى محاولة تفسير وفهم موضوعات معينة، وغالبًا ما ينصرف الذهن حينئذ بصورة كلية إلى ما يطلق عليه (العلم الطبيعي Natural Science) الذي يعول أساسًا على الملاحظة والتجربة بغرض التوصل إلى قوانين عامة تفسر اطراد الظواهر المعنية بالبحث والدراسة. ذلك أن المعنى الإسلامي للعلم مرتبط بإرادته سبحانه وتعالى التى شاءت أن تبين لنا استمرارية السنن الكونية لنراقبها وندركها وننتفع بها في حياتنا الواقعية، بعد أن نقف على طبيعة علاقاتها ونستدل بها على قدرة الخالق ووحدانيته، مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِــهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُـــمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53)، وهذا من شأنه أن يجعل الطريق مفتوحًا دائمًا أمام تجدد المعرفة العلمية وتطورها، على أن تظل العلاقة بين إرادة الله سبحانه وتعالى واطراد سنته واضحة جلية لما تفسحه من مكان لتفسير كل ما لا يقوى العقل البشري على استيعابه من قضايا الغيب والمعجزات. وإذا ما شاء الله أن يوقف استمرارية نظام السنن الكونية الثابتة، فإن هذا في كتاب الإسلام يعني اقتراب قيام الساعة ويؤذن بانتهاء الحياة على الأرض، على نحو ما جاء في قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَر * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُــولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِــذٍ أَيْنَ الْمَفَر} (القيامة: 7 -10).

ويعني هذا التصور الإسلامي أن الله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق، وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التى أخبر بها في قرآنه الكريم، أو أمرنا بالبحث عنها واستقرائها في وحدة النظام بين الظواهر الطبيعية والإنسانية باعتبارها مصدرًا للثقة واستخلاص الحقائق. وعلى هذا الأساس يكون العلم الإسلامي شاملًا للعلوم الكونية التي يظهرها الله سبحانه وتعالى على أيدي من يشاء من عباده عن طريق البحث المنهجي السليم في عالم الشهادة، وشاملًا كذلك للعلم الغيببي الذي أخبرنا به في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه الأُمِّي الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام. ومن ثم يكون لدينا مصدران رئيسيان للمعرفة، تنقسم العلوم على أساسهما إلى قسمين رئيسيين: يشمل أولهما تلك العلوم التي لا يمكن للمسلم أن يتلقاها إلا من مصدر رباني، وهي العلوم المتعلقة بالعقيدة والقيم والتصور العام للوجود والنفس الإنسانية ونظام المجتمع. بينما يشمل القسم الثاني علوم البحث في ظواهر الكون والحياة، وهي التي يهتدي الإنسان إليها بمداركه البشرية التي أنعم الله بها عليه ليبصر طريق المعرفة ويفتح مغاليق الحضارة. على أن تظل العلوم الكونية في عالم الشهادة دنيوية بعلاقتها مع الأشياء، وتعبدية في نفس الوقت لصلتها بالخالق الواحد.

فالعلم في الإسلام إذن يتناول كل موجود، وكل ما يوجد فمن الواجب أن يعلم، فهو علم أعم من العلم الذي يراد لأداء الفرائض والشعائر؛ لأنه عبادة أعم من عبادة الصلاة والصيام، إذ كان خير عبادة لله أن يهتدي الإنسان إلى سر الله في خلقه، وأن يعرف حقائق الوجود في نفسه ومن حوله.. والعلم الذي أمر به القرآن هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء... ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أوغير ذي حياة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْء} (الأعراف: 185). وقال عز من قائل:{إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَار رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد} (آل عمران: 190 - 194).

لكن أخطر ما واجه المعرفة البشرية في تاريخها هو ذلك الخلط لمصادرها والخطأ في تناول مناهجها، حيث دُنست الفطرة الحنيفة المؤمنة بالله والموحدة له عندما كان يراد اقتحام عالم الغيب بالوسائل التي لا تصلح إلا لعالم الشهادة. وكان من نتائج هذا الخلط أن ظهرت النظريات والمذاهب الوضعية التي تجاهلت وجود القوة الخالقة والمسيرة لظواهر الكون والحياة، وأحالتها إلى مسميات خيالية كالطبيعة والقوة الذاتية والعقل والغريزة والمصادفة وغيرها؛ مما لا يتفق مع التصور الإسلامي. وما ظهور (العلمانية) في الغرب، لتضع حدًّا فاصلًا بين العلم والدين، ولتحصر اللاهوت الكنسي في جانب محدود من العلاقة بين الفرد وربه، إلا أحد الأمثلة لهذه الفلسفات الخابطة في الظلام، والتى انتقلت عدواها إلى الفكر الإسلامي في عهود الاستعمار للدول الإسلامية، وتركت آثارها الضارة التي تعاني الأمة من ويلاتها حتى اليوم؛ ذلك لأن التصورات والمذاهب والفلسفات الوضعية التي يضعها البشر لأنفسهم، بمعزل عن هدى الله، تحتاج دائمًا إلى التطور في أصولها، والانقلاب أحيانًا عليها كلها حين تضيق عن البشرية في حاجاتها المتطورة. أما التصور الإسلامي- بربانيته- فهو يخالف في أصل تكوينه وفي خصائصه تلك الفلسفات الوضعية؛ لأن الذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان، ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور، ويختار بلا تأثر من الشهوات والانفعالات، ومن ثم يضع للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها، أصلًا ثابتًا تتطور هي في حدوده وترتقي وتنمو وتتقدم دون أن تحتك بجدران هذا الإطار.

 

ج) أسلمة العلوم الكونية ضرورة حضارية:

إن الأخذ بالمفهوم الإسلامي للعلم- كما أسلفنا- يجعلنا نسلم بأن إسلامية العلوم الكونية حقيقة واقعية، وأن التوجيه الإسلامي لهذه العلوم ضرورة حضارية؛ ذلك أن العلوم الكونية إسلامية بطبيعتها، لأن مادة البحث التي تعرض لها هي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى في عالم الشهادة، ولأن واجب البحث فيها مطلب إسلامي من أجل تعميق الإيمان بالخالق الواحد على هدى وبصيرة، ولعمارة الكون بالحياة إلى ما شاء الله. هذا بالإضافة إلى أن هذه العلوم قد نشأت وتأسست، أو شهدت تطورًا وازدهارًا، على أيدي علماء الحضارة الإسلامية بفضل توجهاتهم الإسلامية الرشيدة.

أما قولنا بأن التوجيه الإسلامي للعلوم الكونية بخاصة، والعلوم بعامة، ضرورة حضارية؛ فذلك لأن إسلامية المنهج العلمي، أو أسلمته، من شأنها أن تحفظ للعلوم الكونية موضوعيتها، وأن تخلع عليها من خصائص الإسلام ما يجعلها صالحة للتطبيق في كل زمان بما يحقق الخير للإنسان أينما كان.

وعندما انتقلت العلوم الإسلامية إلى أوروبا لم تأخذ النهضة الأوربية سوى الجانب المادي من المنهج الإسلامي، وتركت جانب الإيمان الذي يوجهها نحو الله تعالى؛ ولذا فإن العلم في الحضارة المادية الحديثة والمعاصرة، بتخليه عن الإيمان والسمو الروحي، قد اعتبر قيمه حقيقة مطلقة في حد ذاته، وبالغ الناس في تقديسه وتمجيده على أساس أنه هو القوة القادرة على تحقيق الجنة الموعودة للإنسان على الأرض، فأنصار هذه النزعة العلمية المتطرفة Scientism يردون كل شيء إلى العلم، ولا يسلمون إلا بالمنهج العلمي والحقيقة العلمية. كذلك أصبح التطور الكمي للعلم والتقنية غاية في حد ذاته، ونشأت النزعة التقنية المتطرفة Technocracy التى يرمى أنصارها من التقنيين والخبراء الفنيين إلى فرض سيطرتهم باعتبارهم الأحق في هذا العصر بإدارة المجتمع واتخاذ القرارات الكبرى بشأنه. وأمام هذا التطرف العلمي والتقني- وفي مقابله- ظهرت حركات عقلية جديدة تدعو إلى (اللاعلمية Antiscience) وتحارب الانغماس الأعمى في ماديات الحضارة الصناعية، وترفع صيحات التحذير من اطراد التقدم العلمي والتقني بدون النظر إلى صلته بمعنى الحياة الإنسانية والذي سوف ينتهي بالإنسان إلى القضاء على حضارته. بل إن بعض هذه الحركات المناهضة لتقديس العلم والتقنية أخذت تدعو إلى الهروب من الحضارة المادية المعاصرة بكل ما فيها من مظاهر خادعة، ورفعت شعارات العودة إلى الفطرة.

وإذا تأملنا واقع الفكر الإنساني في مرحلتيه الحديثة والمعاصرة، فإننا نجد العديد من القوميات والأيديولوجيات التى تحاول عن طريق العلم أن تثبت قدرتها على تقديم رؤية شاملة لهذا الواقع الإنساني، وتسعى جاهدة إلى استبعاد أي إدراك يخالف إدراكها الخاص، مؤكدة ميزتها بالاستناد إلى العلم في بناء نسق فكرى يبدو وكأنه نتاج منطقي للمعرفة البشرية. لكن هذه الأيديولوجيات في حقيقتها لا تخلو أبدًا من معتقدات يغلب عليها روح التعصب، وتكتنفها نزعة الذاتية والمصالح الخاصة، ويكفي شاهدًا على ذلك ما نراه من تصارع بين أيديولوجيات ومذاهب فلسفية عديدة تسلقت على قوانين نيوتن وآراء دارون واحتمالية هيزنبرج ونسبية أينشتين وغيرها.

من هنا كانت أهمية الدعوة إلى توجيه العلوم بصورة عامة، والعلوم الكونية وتقنياتها بصورة خاصة، توجيهًا إسلاميًّا باعتباره ضرورة حضارية لضمان مواصلة التقدم العلمي والتقني مع الحفاظ على إنسانية الإنسان. وإذا كان هناك من يرى أن الصراع الأيديولوجي بين البشر سوف يخلي مكانه مستقبلًا للتقدم العلمي والتقني، مستشهدًا بما يحدث في العالم الآن من تقارب بين أكثر الأيديولوجيات تعارضًا فإننا نرى أن التوجيه الإسلامي للعلوم هو السبيل الوحيد لتحقيق مستقبل حضاري أفضل للإنسانية، تراعى فيه مصلحة الإنسان في كل زمان ومكان، بغض النظر عن فوارق اللون والجنس والموطن والعقيدة؛ ذلك لأن المنهج الإسلامي هو وحده المؤهل لأن يكون موضع تأمل عميق في عقلية إنسان العصر، وتهيئته لاستيعاب كل ما تأتي به حضارة العلم والتقنية في المستقبل القريب أو البعيد. وليس هناك من شك في أن هذا التصحيح الإسلامي لواقع الفكر المعاصر سوف يكون له أَجَلُّ الأثر في تصحيح وجهة العلوم لدى عقلاء العالم ومفكريه، إذا ما درسوا الإسلام في حقائقه واستفادوا منه في إصلاح حضارتهم، وعندئذ يكون التفكير العلمي لدى البشر قد استعاد طبيعته الحقة بوصفه بحثًا موضوعيًّا نزيهًا في مختلف فروع المعرفة عن الحقيقة الخالصة، يعلو على كل ضروب الهوى والتحيز، ويزن كل شيء بميزان واحد سبق له أن أنقذ امبراطوريات كبرى متهافتة من الفناء، هو ميزان الإسلام بكل ميزاته وخصائصه التى قامت عليها قواعده الاعتقادية والعملية.

 

د) دور معاهد التعليم في توجيه العلوم إسلاميًّا:

يدلنا استقراء الآثار الحضارية على أن الإنسان إنما خرج إلى نور التاريخ بعد أن غدا قادرًا على التفكير، وأصبح مدركًا لأهمية العلم ومواصلة التحصيل المعرفي في صنع التقدم وفهم المزيد من أسرار الكون والحياة، ومن ثم كانت بداية مشواره الطويل نحو تشييد الحضارات المتعاقبة التى جاءت ثمرة لتطور التفكير وإبداعات العقل في مختلف مجالات النشاط الإنساني. وإذا كانت المعرفة في حد ذاتها تمثل لدى الإنسان حاجة عقلية ملحة تدفعه دفعًا إلى التماس الحقيقة في كل مظهر من مظاهر الوجود، فإنها في الوقت نفسه تستمد قيمتها من حصيلة مردها للمجتمع البشري. وتتوقف هذه الحصيلة على درجة استيعاب الإنسان لعلوم عصره، وحسن استخدامه لها وفق مقومات ثقافته ومنهج تفكيره، وفي إطار القيم والمعايير والضوابط التي يرتضيها المجتمع أساسًا لتوجيه السلوك ورسم خطى التقدم والرقي.

لهذا نجد أن المجتمعات المتقدمة، أو التى تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم والمدنية، قد أدركت جوهر العلاقة الوثيقة بين تنمية الإنسان حضاريًّا وبين انتمائه فكريًّا وعقائديًّا. وأيقنت هذه المجتمعات أن الدعامة الأساسية في تحقيق نهضتها ومواصلة تقدمها يجب أن تقوم على تأصيل ثقافتها وتعزيز قيمها بما يجعل سلوك الفرد فيها متوافقًا مع الإطار الفكري الذي يحكم حركتها ويحدد أهدافها. وعادة ما يقع العبء الأكبر في هذا الصدد على عاتق المؤسسات التربوية والتعليمية التي تضطلع بتدريس مناهج محددة في مراحل التعليم العام، والتي يكون لها أكبر الأثر في البناء الحضاري لمجتمعاتهم. هذا هو ما تأخذ به دول كثيرة في أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية على حد سواء، وفي اليابان والصين وكوريا وإسرائيل وغيرها، بصرف النظر عن مدى نضج وصواب الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفلسفية والعقائدية المطروحة في هذا المجتمع أو ذاك.

وتخضع العملية التعليمية، حتى في أكثر الدول تقدمًا للفحص والمراجعة بصورة مستمرة بغرض الكشف عن مواطن القوة للاستزادة منها، والتعرف على مواطن الضعف للتخلص منها، والوقوف على المستوى الحقيقي لكفاية الأداء والقدرة على بلوغ الأهداف مع الحفاظ على الجمع بين تحديث الثقافة الذاتية وتأصيلها في نفوس النشء. ويكفي أن نسوق المثال على ذلك بما جاء في ديباجة التقرير النهائي للجنة تقييم مؤسسات التعليم النظامي في الولايات المتحدة الأمريكية من أنه لو قامت (قوة معادية) بفرض أداء تعليمي قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة للحرب، ولكن ذلك يحدث الآن من خلالنا نحن الذين سمحنا به. لقد بددنا هدرًا المكاسب التى حصلنا عليها في رفع مستوى التحصيل التعليمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي (سبوتنيك). إن هذا التدني في قبول تلك المستويات من التعليم عمل بلا تفكير وعملية نزع لسلاح التعليم). وعندما يقترح هتشنجر Hichinger، أحد أعلام التربية الأمريكيين، تصورًا لإصلاح التعليم يقضي باعتبار المدرسة الثانوية المخطط لها بعناية فائقة في أوروبا مثالًا يجب أن يحتذى في أمريكا، فإنه يواجه باعتراضات شديدة على أساس أن هذا التصور لا يلبي حاجات طلاب التعليم العام في أمريكا من الأقليات التى تنتمي إلى أصول ثقافية مختلفة؛ ولهذا فهو لا يخدم مواقع العمل في الثقافة الأمريكية المعاصرة التى تتسم بالتقدم العلمي والتقني، فضلًا عن أنه يعكس ظلال الثقافة الغربية بوجه عام، ويحرم الأمريكيين من التعرف على ثقافات الأمم التى تؤدي فيها أمريكا دورًا ما، قل أو كبر.

وإذا ما انتقلنا الآن إلى استعراض سريع لواقع التعليم العام في الأمة العربية والإسلامية، فإن النشرات الإحصائية توضح لنا أن جهدًا ملحوظًا يبذل في تعميم التعليم وتوسيع رقعة انتشاره، لكن الدراسات التحليلية والتقويمية تؤكد لنا أن هذا التطور الكمي لا يواكبه تطور نوعي يفي باحتياجات الأمة ويقيلها من عثرتها. وأن الفجـوة واسعة بين الهدف والتطبيق. وتعزي الدراسات العالمية المقارنة هذا العجز الذي يصيب نظام التعليم العام في دول العالم الثالث عمومًا إلى أن كثيرًا من الدول النامية قد غدت معرضًا عالميًّا كبيرًا لأشتات من النماذج والفلسفات التعليمية الوافدة من كل أنحاء العالم الصناعي، وأنها تحاول تطبيقها كما هي، أو مرتدية شعارات التجديد والتطوير في بيئة تختلف عن بيئاتها الأصلية.

والآن، إذا ما أردنا أن نستفيد من تجارب المجتمعات المتقدمة في اعتبار التعليم العام أداة لتأكيد الهوية الثقافية وتجديدها، يكون علينا أن نعول على ثقافتنا الإسلامية وليس على ثقافة الغير، وأن ننطلق من التصورات والمعتقدات والقيم التى يؤمن بها أبناء أمتنا الإسلامية لتكون زادهم الحقيقي في العمل والكفاح من أجل حياة أفضل. ويقيني أن هذا هو ما يجب أن يمثل حجر الزاوية في فكر الصحوة الإسلامية المعاصرة التى تؤمن بدور العلم في صنع التقدم وتدعو إلى الأخذ به بنية ونهجًا، على أن يبدأ الإصلاح بإعادة نظر شاملة وفورية في جميع المناهج الدراسية لتنقيتها من أي مفاهيم غير إسلامية وإعادة صياغتها بعد تحديد أهدافها ومحتواها وأساليب تدريسها وتعلمها وعملية تقويمها في ضوء التصور الإسلامي المستند إلى كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين. إن المنهج الإسلامي قد احتضن حضارة المسلمين الأولى، ولا يزال قادرًا على ابتعاث حضارة جديدة إذا ما أدركنا الحاجة الماسة إلى إحياء تراثنا الإسلامي وتنقيته وتوسيع دائرته وترشيد العقول المفكرة به في إطار الإلمام الواعي بحقائق الواقع المعيش، وباحتياجات الأمة وآمالها، وباتجاهات الفكر العالمي وفلسفاته التقليدية والمعاصرة، دون انبهار بنماذج غربية أو شرقية. ويتفق المفكرون الإسلاميون وعلماء التربية الإسلامية على أن غاية التربية الإسلامية العليا هي بلوغ الكمال الإنساني؛ لأن الإسلام نفسه يمثل بلوغ الكمال الديني، مصداقًا لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة: 3).

 

منهج إجرائي لأسلمة العلوم الكونية:

حاولنا فيما سبق أن نطرح تصورًا إسلاميًّا للإطار الفكري العام الذي يمكن في ضوئه تحقيق التوجيه الإسلامي للعلوم، مع التركيز على إيضاح أهمية هذا التوجيه ومفاهيمه الأساسية والمبادئ الإيمانية التى يرتكز عليها، بالإضافة إلى الغايات والأهداف التى يسعى إلى تحقيقها. ويبقى الآن أن نُجمل خطة إجرائية للتوجيه الإسلامي للعلوم بعامة، والعلوم الكونية بخاصة، في الخطوات التالية:

1- إيجاد حل لمشكلة الازدواج التعليمي في العالم الإسلامي، والمتمثلة في وجود نظامين، أحدهما ديني والآخر (علماني). إذ لا يمكن أن يكون هنالك أي أمل في إحياء حقيقي للأمة ما لم يستحدث لها نظام تعليمي واحد ينبع من الروح الإسلامية ويعمل باعتباره وحدة متكاملة مع برنامج الإسلام العَقَدِيّ.

إن الحالة الراهنة لازدواجية التعليم لا تساعد على غرس الرؤية الإسلامية المستنيرة لدى طلاب العلم الذين يتعرضون في قاعات الدرس، ومن خلال الكتب المقررة إلى مفاهيم غريبة تقدم إليهم باسم العلم والمدنية الحديثة. وبطبيعة الحال، يكون ارتباط مثل هؤلاء الطلاب بالموقف الإسلامي وليد عاطفة لا قناعة واعية، ويصبح التزامهم بالإسلام أضعف من أن يصمد أمام الهجمة العنيفة لما يقدم زيفًا على أنه الحقيقة (العلمية) أو (الموضوعية) أو (العصرية). لهذا، وفي غياب أية مفاهيم وحجج إسلامية مقابلة تطرح بنفس القوة من الموضوعية والعلمية وبنفس الروح العصرية، تبدأ عملية إبعاد الطلاب عن جذورهم الإسلامية، ويسهل استسلامهم إلى الادعاءات اللادينية وتقبلها، وبعد سنوات من هذا التأثير، إضافة إلى تأثير مماثل، إن لم يكن أقوى، من جانب وسائل الإعلام ومن الأقران، يكون الوعي الإسلامي لدى الطالب المسلم قد تعرض للتخريب، ولا غرابة بعد ذلك في أن يصبح ذا نزعة مادية وساخرًا مما حوله، لا هو بالمسلم السوي، ولا هو بالغربي.

كما تجدر الإشارة من ناحية أخرى إلى أن معظم علماء المسلمين المعاصرين قد تلقوا تعليمهم ونموا خبراتهم وفق نظام التعليم الغربي، ومن خلال الفلسفات الغربية، الرأسمالية منها والشيوعية، وصيغها العلمية، وهي بطبيعة الحال فلسفات غريبة عن الإسلام، ولا يمكن استيعابها استيعابًا كاملًا داخل الهياكل الإسلامية للمعرفة والعمل. وقد يوجد عدد قليل جدًّا من العلماء المسلمين الذين يمسكون بناصية المعرفة الإسلامية والمعارف الحديثة للعلوم الاجتماعية والكونية بقدر متساو، الأمر الذي يشكل مشكلة خطيرة عند اختيار الكفاءات القادرة على إعداد برامج الإصلاح وتنفيذه. لكن الشروع في الإصلاح على أساس الالتزام بالإسلام كرسالة حياة هو أمر ضروري للذين يقدمون على المساهمة في هذه الرسالة، وكلما قطعوا في العمل شوطًا سوف يجدون أن الله سبحانه وتعالى قد وهبهم المساعدة وألهمهم الهداية للاستمرار في تحقيق رسالتهم.

2) العمل على زيادة التقارب بين علماء الدين الإسلامي والعلماء المتخصصين في العلوم الكونية، فهم جميعًا مطالبون بأن يشغلوا أنفسهم بإعادة فحص شاملة للثقافة الإسلامية؛ لفهمها وتشربها والتكامل معها. يجب عليهم أن يؤمنوا أولًا بحقيقة العلاقة بين العلم والإسلام، وأن يعملوا كفريق واحد ينطلق في تفكيره من مسلمات واضحة تقرر أن علوم الوحي لها مكانة متفوقة في المجتمع الإسلامي، وكل الإرشادات والتعاليم يجب أن تنبثق منها وتأخذ من معينها، وتقرر في الوقت نفسه أن التوجيه الإسلامي للعلوم الكونية الحديثة إنما يعني ذلك المجهود الذي يستوعب هذه العلوم داخل هيكل إسلامي بهدف الإفادة منها لجني أكبر مردود للمجتمع المسلم. إن على هؤلاء تبعة تنوير المجتمع المسلم بأهمية العلم في حياته، وضرورة امتلاكه كقوة ثقافية ذات أثر كبير في تفكير الناس وسلوكياتهم، وإن عليهم أيضًا واجب الارتقاء بالذوق العلمي وبالثقافة العلمية في المجتمع الإسلامي ككل، خاصة وأن العلم في المجتمع الغربي قد طلق القيم الأخلاقية وأصبح على درجة كبيرة من الآلية وانعدام القيم.

3) القيام بمسح شامل لكتب ومخطوطات التراث العلمي للحضارة الإسلامية، وإعادة صياغتها وتحقيقها بلغة العصر وأسلوبه ومصطلحاته بواسطة علماء متخصصين، بهدف تنقية هذا التراث من مزاعم المستشرقين والمؤرخين غير المنصفين، وأيضًا للوقوف على ما به من نظريات وآراء علمية ذات قيمة معرفية أو منهجية في تاريخ العلم والحضارة. ويمكن الاستعانة بالحاسب الآلي وتطوير وسائله لخدمة أغراض المسح الشامل لكتب التراث وإحصاء النصوص الإسلامية وتصنيفها، وبذلك يسهل التعامل معها والانتفاع الكامل بها في إطار تصنيف جديد للعلوم يستند إلى المفهوم الإسلامي للعلم القائم على وحدة العقل الإنساني وتضافر جميع ملكاته من أجل تحصيل العلوم وتطويرها.

4) اعتماد اللغة العربية لغة للعلوم والتقنية في جميع مراحل التعليم، بما فيها مراحل التعليم العالي والدراسات العليا؛ فاللغة صورة من حياة أصحابها، ترقى برقيهم وتتخلف بتخلفهم، وحين كان العرب متقدمين بالإسلام تقدمت بهم لغتهم. فحين تخلفوا عنه تخلفت بهم أيضًا، ذلك أن قَدَرَ هذه العربية أنها وعاء الإسلام الحنيف، هكذا كانت في غابر الزمن، وهكذا تكون إلى أبده، بل إن الإسلام دفع بالعربية إلى ارتياد آفاق العلوم الكونية حتى صارت لغة العلوم والتقنية كما هي لغة الدين والأدب، وامتد نفوذها من المحيط إلى الخليج، حتى أصبحت لغة دولية للعلم والحضارة. وقد استفادت أوروبا عبر التاريخ من العلوم العربية الإسلامية، وخاصة في مجالات الفلسفة والعلوم التجريبية. كما تركت اللغة العربية آثارًا على لغات أخرى غربية، وكانت تدرس في الجامعات الأوربية. ولم يطرأ على العربية شيء يخلع عنها هذا الثوب الذي كساها به الإسلام، فهي لغة صالحة لتكون لغة العالمين، صلاح الإسلام ليكون دينًا للعالمين.

لكن نجاح هذه الخطوة المهمة في عملية التوجيه الإسلامي للعلوم مرهون باتخاذ خطوة أخرى مماثلة لا تقل عنها في الأهمية، وهي تنشيط حركة الترجمة والتعريب من اللغات الحضارية الأخرى، وهذا يؤكد بالضرورة أهمية دراسة وإتقان اللغات الأجنبية، خاصة وأن دراستها تعتبر مطلبًا أساسيًّا لإعداد المترجم الجيد من اللغة العربية وإليها.

5) التأكيد على ضرورة التفتح على العلوم النافعة في الثقافات والحضارات الأخرى، وأن نعرف ماذا نأخذ وماذا نترك منها، وأن نتفاعل معها ونفيد من علومها وفنونها ومناهجها، فالإسلام يخبرنا أن الحكمة ضالة المؤمن، عليه أن يلتقطها أنى وجدها. ولا شك أن إحدى الخطوات الإجرائية المهمة في منهج التوجيه الإسلامي للعلوم تتمثل في البدء فورًا في إعداد وتنفيذ برنامج ترجمة لأمهات الكتب العلمية في العالم إلى اللغة العربية، على أن يتم فحصها جيدًا بواسطة علماء متخصصين لتنقيتها مما بها من ألفاظ وعبارات لا تتفق مع الإسلام، وذلك على هيئة تعليق للترجمة بهوامش الكتابة، خاصة وأننا نرى تجاهلًا ملحوظًا لدور العلماء المسلمين في الوقت الذي يحرص فيه المؤلفون لهذه الكتب على تمجيد دور علمائهم القدامى والمحدثين. وفي حقيقة الأمر، يجب على مؤرخي العلوم من المسلمين أن يساهموا في كشف المزيد من الآراء والقوانين والنظريات العلمية التى تدين بنشأتها وتطورها لعلماء الحضارة الإسلامية، وذلك بكشف المصادر الأصلية لهذه المكتشفات بعد البحث عنها وتجميعها من مظانها المختلفة في جميع أنحاء العالم. وأن الجامعات ومعاهد البحوث الإسلامية تزخر بالعديد من العلماء المسلمين القادرين على إثراء المكتبة العربية خلال فترة وجيزة بكمّ هائل من الترجمات والكتابات العلمية البحتة والتطبيقية في مختلف التخصصات.

6) إعداد مناهج جديدة للعلوم في مختلف مراحل التعليم العام من منظور إسلامي. وهذه الخطوة ذات أهمية خاصة؛ لاعتقادنا بأن المناهج والكتب الدراسية هي في النهاية المحصلة الأكثر موضوعية للعملية التعليمية، وأن تفحصها من شأنه أن يلقى أضواء كاشفة على موضوعنا.

ومن يتفحص الإطار الحالي الذي توضع فيه العلوم ومناهجها سوف يجد أنه يستند إلى فلسفة مادية علمانية ترى أن الظواهر الكونية ينبغي أن تفسر بأسباب من داخل الكون ولا دخل فيها للإرادة الإلهية ولا التجارب الروحية. وهذه الفلسفة المادية لا يقتصر دورها عند هذا المعنى اللاديني، بل إنها تتجاوزه وتنهج نهجًا معاديًا للدين، ينتقده أنصارها باسم العلم ويهاجمونه ويسعون لمحاصرته ويعملون جاهدين على إبعاده عن مجال العلم. وإن ما يكتب من العلوم في عالمنا الإسلامي المعاصر يتبع في معظمه ذلك الاتجاه المادي؛ لأنه يكتب بلغات أجنبية وينشر في دوريات محلية أو خارجية على نمط الكتابات الغربية تمامًا، وحتى ما ينشر من هذه الكتابات باللغة العربية أو باللغات المحلية لا يكاد يخرج في مجموعه عن كونه ترجمة مباشرة أو غير مباشرة للفكر العلمي الوافد بكل ما فيه من تعارض واضح أحيانًا مع نصوص الدين. من هنا كانت الضرورة الملحة لإعادة كتابة العلوم ومناهجها من وجهة النظر الإسلامية. وعلى الرغم من أن الحقائق العلمية لا يمكن أن تتغير في حدود الظروف والشروط التى اكتشفت عندها، إلا أن عرضها وشرحها يمكن بالتأكيد أن يتم بصورة تطابق التصور الإسلامي وتحقق أهداف وغايات التربية الإسلامية.

لهذا يجب أن يكون محتوى مناهج العلوم، بما يشمله من معارف وحقائق ومهارات، متناسقًا مع المرتكزات الإيمانية والأهداف التربوية لعملية التوجيه الإسلامي للعلوم، وذلك عن طريق تنظيم المحتوى الذي يمثله الكتاب المنهجي على النحو التالي:

أ) مقدمات أساسية: تحدد بوضوح لكل من الطالب والمعلم الهدف من عملية التعلّم، وتبرز الرؤية الإسلامية التى بني على أساسها محتوى المنهج الدراسي بحيث يتحقق تحصيل المعرفة وممارسة التفكير العلمي على اعتبار أنهما من الفروض الإسلامية والضرورات الحضارية والمقومات الأساسية في تكوين شخصية المسلم المعاصر. فمن المعروف لكل مشتغل بمجالات التريبة وعلم النفس أنه كلما تشرّب الفرد فكرة ما عن اقتناع تام في قرارة نفسه كلما كانت دوافعه لتحقيق هذه الفكرة أقوى وكان معدل سعيه نحو اكتسابها أسرع مما لو أحس بأنها مجرد أمر عابر مفروض عليه أن يتعلمه ويدرسه. وهنا لا بد أن تتحول التربية الإسلامية من خلال هذه المقدمات، وليس من مجرد فرضها كمقرر دراسي ثانوي، إلى سلوك عملي للأفراد، وتصبح حياة تسري في جميع المقررات الدراسية. كما يجب إبراز الدور الرائد الذي قام به علماء المسلمين في دفع مسيرة التقدم العلمي والحضاري استنادًا إلى منهج علمي سليم هدتهم إليه التعاليم الإسلامية، واتبعوه في دراساتهم وبحوثهم، وأخذته عنهم أوروبا، فكان أساسًا لقيام النهضة العلمية والتقنية الحديثة والمعاصرة، ولولا هذا الدور الإسلامي في تاريخ العلم لتأخرت مسيرة المدنية عدة قرون.

ب) موضوعات المنهج الدراسي، التى تقدم المفاهيم والأفكار والقوانين والنظريات العلمية التي يتفق عليها العلماء وخبراء مناهج العلوم، ويتوقع أن يتعلمها الطالب باستيعاب كامل بعد الانتهاء من دراسة المقرر. وتعنى أسلمة هذه الموضوعات أن تصاغ بما يتفق ومبادئ الإسلام. وليس هناك ما يمنع من تضمين المحتوى نظريات اشتهرت بتعارضها مع الدين مع مناقشتها وتفنيد حججها وإبطال مزاعم المناصرين لها، فالعلم الصحيح لا يتعارض أبدًا مع الدين الصحيح. كما تجدر الإشارة في المحتوى إلى معجزات الخلق الإلهي في الظواهر موضع الدراسة كلما كانت هناك فرصة لذلك مع البعد عن تفسير آيات القرآن الكريم في ضوء نتائج وآراء ونظريات علمية قد تكون صحيحة اليوم وغير ذلك غدًا.

ج) دراسات تطبيقية، في شكل قراءات ومشروعات تعقب كل باب من المنهج الدراسي، بل يمكن أن يتضمنها كتيب مستقل. أما القراءات العلمية من منظور إسلامي فيمكن أن تشمل قراءات عن العلاقة بين العلم والدين أو قراءات عن تاريخ حياة العلماء المسلمين البارزين وإسهاماتهم العلمية ودور الإسلام في تكوين عقليتهم وبناء شخصيتهم. كما يمكن أن تشمل القراءات مواد علمية مبسطة عن بعض الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية الجديدة؛ وذلك بهدف توسيع مدارك التلاميذ إلى أبعد من حدود الموضوعات الدراسية المقررة، وأما المشروعات فيقترح أن يقوم بها التلاميذ بأنفسهم تخطيطًا وتنفيذًا بالمشاركة مع المدرس بهدف زيادة ميولهم الإيجابية نحو العلوم والأنشطة والمهن المتصلة بها، وتعويدهم على حسن الاستفادة من كل ملكات الفكر والعمل التي وهبها الله للإنسان.

 

نماذج لأسلمة بعض النظريات والعلوم المعاصرة

أ) النظرية الذرية:

نشأت فكرة (الذرة) في تفكير الإنسان لأول مرة عندما واجهته أول مشكلة فلسفية تتعلق بالتساؤل عن مبدأ الكون، أو المادة الأولى التى نشأ منها الكون، وعن مدى إمكانية تقسيم المادة وصولًا إلى الجزء الأصغر منها، ويبدو أن هذا التساؤل كان بدوره نتيجة منطقية لاعتقاد مؤداه أن فهم الكون يتطلب معرفة بعض الشيء عن أجزائه الصغرى، وهو اعتقاد فطرى صحيح إلى حد كبير ولا يزال له انعكاس فيما يتردد الآن من نظريات معاصرة حول أصل الكون ونشأته، بعد أن زاد عليه (هيزنبرج) بقوله: «إن فهم أي شيء عن تركيب الظواهر الطبيعية يتم عن طريق اكتشاف العلاقات الرياضية المعبرة عن أجزائها الصغرى».

وتنسب النظرية الذرية في نشأتها عادة إلى فلاسفة الإغريق، ولا يزال منهجهم الذري يحظى باهتمام كبير من جانب بعض المؤرخين الذين يعرضون لتاريخ النظرية الذرية بالتحليل والتأصيل. لكن الأمر من جانبنا- نحن المسلمين- ينبغي أن نتناوله بكل الحذر، ولا نبالغ في تقديره فوق ما يجب؛ لأن هذا قام على كثير من الخيال ومن الجدل النظري العقيم، ولم يقم على منهج علمي منظم، وهو بعيد كل البعد عن المدرك المعاصر في تركيب المادة وبناء الذرة، فضلًا عن أنه يستند عند أنصاره ويذهب بهم إلى أقصى حدود النزعة المادية الآلية التى تسيّر- في نظرهم- جميع الأشياء بحتمية القانون الطبيعي.

وقد اطلع المسلمون الأوائل على آراء فلاسفة الإغريق في (الذرة) أو (الجوهر الفرد) أو (الجزء الذي لا يتجزأ) من خلال مترجماتهم إلى اللغة العربية، وخاصة ما جاء عن المذهب الذري لديمقريطس في كتاب (المتيافيزيقا) وأرسطو في كتاب (النفس). وكان طبيعيًّا أن يتبرأ مفكرو الإسلام من هذا المذهب الذي يجحد أصحابه الصانع المدبر للعالم، وينكرون وجود الخالق الواحد جل وعلا، كما ينكرون النبوة والبعث والحساب. وقد وصفهم الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضـــلال بـ (الزنادقة)، كما وسموا (بالدهرية) الذين عناهم القرآن الكريم بقوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّون} (الجاثية: 24).

ولما كان المجال هنا لا يسمح بالحديث حول كل ما جاء في التراث الإسلامي بخصوص (النظرية الذرية) فإننا سنكتفي بالإشارة إلى مثالين ذوي مغزى يوضحان كيفية تناول المسلمين لهذه القضية الهامة من جانبيها الفكري والعلمي التطبيقي:

1) بالنسبة لفكرة الذرة، يأتي أبو الهذيل العلاف في مقدمة فلاسفة المسلمين الذين أسهموا في أول صياغة إسلامية لنظرية (الجزء الذي لا يتجزأ) بحيث تنسجم مع عقيدتهم الدينية. ويقضي السياق العام لهذه النظرية عند العلاف بأن العالم يتكون من عدد من الجواهر المفردة، أو الأجزاء البسيطة التى لا تتجزأ (أي الذرات)، وإلى هذه الأجزاء التى لا تتجزأ تتحلل جميع الموجودات: «إن الخردلة يجوز أن تتجزأ نصفين، ثم أربعة، ثم ثمانية، إلى أن يصير كل جزء منها لا يتجزأ، ويجوز على الجوهر الواحد الذي لا ينقسم إذا انفرد ما يجوز على الأجسام من الحركة والسكون، وما يتولد عنهما من المجامعة والمفارقة. وهذه الأجزاء تتحرك في خلاء، ولكنها لا تتحرك ولا تسكن بذاتها؛ لأن الله من حيث هو ذات مريدة وقادرة، هو الذي أوجد الحركة فيها والسكون».

ويهمنا في هذا النص التراثي الإشارة إلى الطابع الإيماني المميز للفكر الإسلامي في معالجته لقضايا العلوم الكونية.

2) أما بالنسبة للجانب العلمي من النظرية الذرية في التراث الإسلامي، فإننا نختار ما يدل عليه من إحدى التجارب الكيميائية العملية التى أجراها جابر بن حيان (738 - 815م) لتحضير مادة (الزنجفر) (أو كبريتوز الزئبق)، حيث يقول: «لتحويل الزئبق إلى مادة صلبة حمراء، خذ قارورة مستديرة وصب فيها مقدارًا ملائمًا من الزئبق واستحضر آنية من الفخار بها كمية من الكبريت حتى يصل إلى حافة القارورة، ثم أدخل الآنية في فرن واتركها فيه ليلة بعد أن تحكم سدها، فإذا ما فحصتها بعد ذلك، وجدت الزئبق قد تحول إلى حجر أحمر، وهو ما يسميه العلماء بالزنجفر، وهي ليست مادة جديدة في كليتها، والحقيقة أن هاتين المادتين لم تفقدا ماهيتهما، وكل ماحدث أنهما تحولتا إلى دقائق صغيرة امتزجت ببعضها فأصبحت العين المجردة عاجزة عن التمييز بينهما، وظهرت المادة الناتجة من الاتحاد متجانسة التركيب، ولو كان في قدرتنا وسيلة تفرق بين دقائق النوعين لأدركنا أن كلًا منهما محتفظ بهيئته الطبيعية الدائمة».

ويعلق أحد العلماء المعاصرين على هذا الوصف العلمي بأنه تصوير عجيب للاتحاد الكيميائي لعل فيه شبهًا من تصوير (دالتون) (1766 - 1844م) الذي جاء بعد جابر بألف عام. وقال بأن الاتحاد الكيميائي يكون باتصال ذرات العناصر المتفاعلة بعضها مع بعض.

وإذا كانت الذرة الكيميائية كما تصورها (جابر) و(دالتون) في عمليات الاتحاد الكيميائي بين العناصر لم تعد مع حلول القرن العشرين ذلك الجزء الذي لا يتجزأ، فإن ظهور عالم الجسيمات الأولية وفيزياء الطاقات العالية قد أدى بنا الآن إلى البحث في أعماق (الذرة) عن جزء جديد منها لا يقبل التجزئة!

 

ب) علم البصريات:

يعتبر علم البصريات أحد المباحث الفيزيائية الذي يعنى بدراسة نظرية الضوء وخواصه وظواهره وتطبيقاته. وتكمن أهمية هذا البحث في أن أي تقدم يحرزه المتخصصون فيه ينعكس مباشرة على باقي فروع العلم، وهل تقدمت أبحاث الفضاء وعلوم الفلك والكيمياء والطب والصيدلة والجيولوجية والنبات والحيوان وغيرها إلا بتقدم أبحاث الضوء وتقنية البصريات؟! وقد كتب الكثير من علماء المسلمين في هذا الفن تحت اسم (المناظر) ويتضمن كتاب (المناظر) للحسن بن الهيثم تفصيلات للعديد من الموضوعات التى تشكل ما نعرفه اليوم باسم (البصريات الهندسية) ومن أهم ما جاء به الحسن بن الهيثم في هذا المجال، وما نعتبره ثورة علمية بكل المقاييس التى وضعها فلاسفة العلم ومؤرخوه، هو أنه اتبع منهجًا استقرائيًّا دقيقًا لتحقيق نظريته الجديدة في الإبصار على أساس الشروط أو (المعاني) التى لا يتم الإبصار إلا بها، وهي أن يكون الجسم المرئي مضيئًا بذاته أو بإشراق ضوء عليه، وأن يكون بين الجسم المرئي والعين بعد ما، وأن يكون الوسط الفاصل بينهما مشفًّا، وأن تكون المرئيات ذات حجم وكثافة يسمحان للعين بالإبصار، وأن تكون العين خالية من عيوب الإبصار.

وعندما تعرض ابن الهيثم لشرح الظواهر المتعلقة بانعكاس الضوء وانعطافه وانتشاره، لجأ في بعض الحالات إلى استخدام الخيال العلمي المرتبط بالواقع في المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التى تربط بين وقائع متناثرة، وكان التمثيل الذي استخدمه هو النموذج الميكانيكي لحركة كرة صغيرة من الحديد أو الصلب تسقط على سطح مستو أملس فترتد عنه. وقد أثبت ابن الهيثم أن سرعة الضوء في الوسط المشف الألطف أعظم من سرعته في الوسط المشف الأغلظ، وأوضح كيف يترتب على ذلك أن ينعطف الضوء عند نفوذه من الألطف إلى الأغلظ مقتربًا جهة العمود على سطح الانفصال. وهو بهذا يسبق كلًا من (ديكارت) و(سنيل) و(نيوتن) في تقديم وصف دقيق للرسم التوضيحي المعروف لطلاب عصرنا فيما يتعلق بقانوني انعطاف الضوء وقابليته لعكس مساره، ولم يزد العلم الحديث عليه إلا حساب معامل الانعطاف (الانكسار) النسبي بين الوسطين.

كذلك حقق الحسن بن الهيثم سبقًا عظيمًا عندما تخطى حدود الحواس وارتقى في مراتب التفكير العلمي إلى مستوى صياغة الفرض العلمي وبلورته نتيجة لإضفاء مقولات العقل على نتائج الملاحظة والتجربة، وذلك باكتشافه أن الضوء ينتقل بحركة غاية في السرعة يحسبها المرء غير متناهية. والخيال العلمي على هذا النحو الذي قرر فيه ابن الهيثم أن للضوء سرعة محددة عن الخيال (الميتافيزيقي) في أنه يبدأ من ملاحظة الظواهر في الواقع لتفسيرها ويرتد إليها ليستخلص في النهاية فرضًا يمكن التحقق من صدقه إذا ما توافرت إمكانيات التجربة، وهو ما تحقق عمليًّا بعد ذلك في العصر الحديث عندما أجريت تجارب رومر وبرادلي وفيزو وفوكو وغيرهم لقياس سرعة الضوء. ولو أنصف ألبرت أنشتين لنسب فضل البداية الحقيقية للعلوم التجريبية إلى علماء الحضارة الإسلامية بدلًا من أن يقصر هذا الفضل في علم الفيزياء على إسحاق نيوتن، عندما صاغ الأخير قانون القصور الذاتي، واعتبره أينشتين نموذجًا غير مسبوق لأهمية الخيال العلمي الناضج المرتبط بالواقع كأداة من أدوات المنهج العلمي الاستقرائي القائم على الملاحظة والتجربة.

 

ج) علم الصوت وتقنية الصوتيات:

لم يصلنا شيء ذو قيمة علمية عن اهتمام أهل الحضارات القديمة بدراسة ظاهرة الصوت وتطبيقاتها، اللهم إلا فيما يتعلق ببعض أنواع الغناء والعزف (الموسيقى)؛ ولهذا فإننا لا نستطيع أن نبدأ الحديث عن مبحث (الصوتيات) إلا من حيث بدأ علماء الحضارة الإسلامية في تناول ظاهرة الصوت بالدراسة والتحليل على أسس منهجية سليمة. فقد أجمعوا من حيث المبدأ على أن هناك شيئين ضروريين لانبعاث الصوت وانتشاره. أما الشيء الأول فلا بد من وجود جسم يهتز لإحداث موجات الصوت (التضاغطية)، على نحو ما نجد في وتر العــــــود أو الأوتار (الحبال) الصوتية عند الإنسان. وأما الشيء الثاني فلا بد من وجود وسط مادي، كالهواء أو الماء تنتقل خلاله هذه الموجات الصوتية إلى أن تصل إلى الأذن ويحدث الإحساس بالسمع. والتجربة البسيطة التى يجريها الطلاب في المعمل للتأكد من صحة هذه الحقيقة العلمية تتمثل في وضع ناقوس زجاجي فوق ساعة (منبه) به جرس يدق، واستخدام مضخة هوائية لتفريغ ما يمكن إفراغه من هواء الناقوس. وعندما يسمح بدخول الهواء تحت الناقوس مرة أخرى يلاحظ أن صوت دقات الجرس يخفت رويدًا رويدًا أثناء تفريغ الناقوس من الهواء، ثم يشتد الصوت عندما يدخل الهواء في الناقوس. كذلك أجمع علماء المسلمين على تفسير جيد لحدوث (الصدى) نتيجة انعكاس الموجات الصوتية عندما يعترض مسارها عائق، فتحدث في ارتدادها رجعًا يشبه الصوت الأصلى.

ومن أوضح النصوص التى وردت في تراثنا الإسلامي عن طبيعة الصوت والصدى ما ذكره بهمنيار ابن المرزبان في كتابه (تحصيل بهمنيار)، من أن (الصوت أمر يحدث من تموج الجسم السيال الرطب كالهواء والماء بين جسمين متصاكين متقاومين. وأما الصدى فإنه يحدث من تموج يوجبه هذا التموج، فإن هذا التموج إذا قاومه شيء من الأشياء كجبل أو جدار حتى دفعه، لزم أن ينضغط أيضًا بين هذا التموج المتوجه إلى قرع الحائط أو الجبل وبين ما يقرعه هواء آخر يرده ذلك ويصرفه إلى خلف بانضغاطه، ويكون شكله شكل الأول وعلى هيئته.. ويجوز أن يكون لكل صوت صدى ولكن لا يسمع كما أن لكل ضوء عكسًا.. والسبب في أنه لا يسمع الصدى في البيوت أن المسافة إذا كانت قريبة من المصدر وعاكس الصوت سُمِعَا معًا في زمان واحد أو قريب من واحد).

وقد فطن إخوان الصفا إلى تأثير الحركة الصوتية في الهواء الذي (لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسمًا آخر انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي واتسع كما تتســــع القارورة من نفخ الزجَّاج (صانع الزجاج) فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل). ولعل في هذا القول أيضًا ما يؤكد سبق علماء المسلمين إلى تقدير ما أثبته العلم التجريبي حديثًا من أن الموجات الصوتية المنتقلة في الوسط المادي تفقد قدرًا من طاقتها عند اصطدامها بالأجسام تبعًا لنوعيتها وطبيعتها.

أما الحديث عن سرعة الصوت في كتب التراث الإسلامي فيكتسب أهمية خاصة داخل الإطار المنهجي لتقييم المعرفة تاريخيًّا. ومن يستعرض هذا الموضوع في مختلف النصوص التراثية سوف يلاحظ أن البحث في سرعة الصوت يأتي في أغلب الأحيان مقارنًا بسرعة الضوء. فقد ذكر البيروني، على سبيل المثال، أن سرعة النور أعظم كثيرًا من سرعة الصوت. وتحدث ابن سينا عن تأخر سماع صوت الرعد عن رؤية وميض البرق، لكنه علل ذلك بأن البرق يرى في الآن (أي في نفس لحظة حدوثه) بلا زمان، وأما السمع فيحتاج إلى تموج الهواء أو ما يقوم مقامه من أجسام صلبة أو سائلة، وذلك يحدث في زمان. فإذا اتفق أن قرع الإنسان من بعد جسمًا على جسم فإنك ترى القرع قبل أن تسمع الصوت، لأن الإبصار، فيما يرى ابن سينا، ليس له زمان والاستماع يحتاج إلى (آن). وإذا كان ابن سينا قد جانبه الصواب في تعليل الشق الخاص بالإبصار، فإن الحسن بن الهيثم، عبقري الحضارة الإسلامية، استطاع بالتجربة العملية أن يبطل نظرية السرعة الآنية للضوء التى قال بها ابن سينا، وأن يثبت أن للضوء زمانًا وسرعة معينة، كما أن للصوت زمانًا وسرعة معينة. إلا أن زمان حركة الضوء أسرع بحيث لا يحس به أصلًا.

ومما يؤسف له أن أحدًا في ذلك الوقت لم يفد من هذه الأفكار المهمة في تقدير سرعة الصوت كميًّا. ونحن لا نرى سببًا لذلك، غير عدم توافر أجهزة دقيقة لقياس الزمن بالثواني أو أجزاء من الثانية في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ التقنية عمومًا، وتطور أجهزة القياس الدقيق على وجه الخصوص. وتأخرت هذه الخطوة المهمة والبسيطة إلى القرن السابع عشر عندما تمكن (ميرسين) و(جاسندي) من إجراء أول تجربة عملية لتعيين سرعة الصوت في الهواء عن طريق قياس الفترة الزمنية التى تنقضي بين لحظة رؤية النار المنبعثة من فوهة مدفع (أو بندقية) عند إطلاق قذيفة منه على مسافة بعيدة وبين لحظة سماع صوت القذيقة. وظلت فكرة الربط بين ضوء وصوت صادرين من مصدر واحد في نفس اللحظة أساسًا لتجارب عديدة أجريت بعد ذلك إلى أن تمكن (إسكلاجنون) خلال الحرب العالمية الأولى من تقدير سرعة الصوت في الهواء الجاف عند درجة الصفر المئوي بدقة عالية تقترب من القيمــة المعروفة حاليًا (330,1 مترًا في الثانية).

وقد أفاد المسلمون من فهمهم الواعي لأساسيات مبحث (الصوتيات) في مجالات نظرية وتطبيقية متنوعة لا يتسع المجال هنا لشرحها بالتفصيل، ويكفي أن نشير هنا على سبيل المثال إلى دور علماء المسلمين في تطوير تقنية الهندسة الصوتية واستخدامها فيما يعرف الآن باسم (الصوتيات المعمارية)؛ وذلك أنهم عرفوا أن الصوت عندما ينعكس عن سطح مقعر فإنه يتجمع في بؤرة محددة، شأنه في ذلك شأن الضوء الذي ينعكس عن سطح مرآة مقعرة. وإذا أجرى حساب دقيق لهندسة السطوح المقعرة فإنه يصبح بالإمكان تسليط الأمواج الصوتية المنعكسة وتركيزها في اتجاهات معينة بحيث تزيد من وضوح الصوت وشدته. أما إذا لم تراع الحسابات الدقيقة لأماكن وأبعاد السطوح المقعرة بالنسبة لأماكن إصدار الصوت واستقباله، فإنه ينتج عن ذلك تشويش غير مرغوب للصوت لدى السامع بسبب التداخل الذي يحدث بين الصوت الذي يصل من المتكلم إلى السامع مباشرة والصوت المنعكس عن السطح المقعر إلى السامع بعد مرور فترة من الزمن. وقد فطن المهندسون المسلمون إلى أهمية استخدام خاصية تركيز الصوت في أغراض البناء والتشييد، وخاصة في المساجد الجامعة الكبيرة لنقل صوت الخطيب والإمام في أيام الجمعة والأعياد. مثال ذلك مسجد أصفهان القديم ومسجد العادلية في حلب وبعض مساجد بغداد القديمة، حيث كان يصمم سقف المسجد وجدرانه على شكل سطوح مقعرة موزعة في زوايا المسجد وأركانه بطريقة دقيقة تضمن توزيع الصوت على جميع الأرجاء، فيصل صوت الخطيب واضحًا دون تشويش إلى جميع المصلين على الرغم من كبر مساحة المسجد.

وتبقى هذه المآثر الإسلامية خير شاهد على ريادة علماء الحضارة في مجال هندسة الصوتيات التى ظلت اختصاصًا إسلاميًّا لعدة قرون، وذلك قبل أن يبدأ العالم الشهير (والاس ك. سابين) حوالي عام 1900م في دراسة أسباب سوء الصفات الصوتية لقاعة محاضرات في جامعة (هارفارد) وتتبع سلوك الخواص الصوتية للقاعات وحجرات غرف الموسيقى.

 

نتائج وتوصيات البحث

  • أسلمة العلوم تتطلب أسلمة نظم التعليم في العالم الإسلامي، ذلك أن الحالة الراهنة لازدواجية التعليم، أو تعدديته أحيانًا، تفرز إنسانًا لا يستطيع أن يتعامل مع حضارة العصر إلا من خلال أيديولوجيته الخاصة.
  • ضرورة التقارب بين أهل الاختصاص في كل من العلوم الدينية والعلوم الكونية لضمان نشر ثقافة علمية إسلامية متكاملة ذات أثر كبير في نفوس الناس وتفكيرهم وسلوكياتهم.
  • تعريب التعليم في جميع مراحله، مع الاهتمام بإتقان اللغات الأجنبية لتحقيق التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات الأخرى.
  • إعداد مناهج العلوم، أو إعادة صياغتها، بما يتفق مع المرتكزات الإيمانية وأهداف التربية الإسلامية.
  • تنشيط حركة إحياء التراث العلمي الإسلامي للوقوف على ما به من نظريات وآراء ونصوص علمية ذات قيمة معرفية أو منهجية في تاريخ العلم والحضارة، والكشف عن العلوم التي تشكل أساسًا لكثير من المباحث العلمية الدقيقة التي تعامل اليوم كعلوم مستقلة نظرا لاتساع دائرة البحث في موضوعاتهـــا، مثــل علــم الـــزلازل (السيزمولوجيا)، وعلم التحسين الوراثي (اليوجينيا)، وتقنية استخراج المياه الجوفية، وعلم الشفرة، وعلم البحار، وعلم البيطرة، وعلم البيزرة، وغيرها.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم