Business

معالم التربية الخُلُقية الإسلامية في مواجهة مفاهيم النظم المتغيرة

 

إن تاريخ البشرية يمر بمراحل مختلفة ومتغيرات متعددة عبر الزمن، تؤثر بدورها على جوانب كثيرة من حياته، فتتغير تبعًا لها أنماط سلوكه بجوانبها المختلفة.

ومن حين لآخر تظهر نظم ومفاهيم ثقافية وسياسية وقيمية تسود وتشغل العالم لفترة ثم ما تلبث أن تتخافت أو تنتهي، وتبقى القيم والمفاهيم الأسلامية هي الأصل الذي يترسخ عبر الازمنة، ومن تلك المتغيرات والأنماط والمفاهيم: التنوير، والحداثة، والنهضة، وما بعد الحداثة، والعولمة...الخ.

وفى هذه الدراسة يتم تناول مفوم ساد فترة حتى أنه طغى على الندوات والمؤتمرات والأنشطة العلمية والأكاديمية والثقافية والسياسية والاقتصادية وهو ما يسمى بـ(العولمة) بجوانبها المتعددة. ومن ذلك التحول الأخلاقي الذي أفرزته العولمة. حيث يحاول د. سليمان بن قاسم العيد، الأستاذ بكلية التربية، جامعة الملك سعود، في دراسته (التربية الخُلُقية بين الإسلام والعولمة)، التعرف على مدى تأثير العولمة بجوانبها المختلفة على أخلاق الفرد والمجتمع، وموقف الإسلام من ذلك التأثير، ومن ثم بيان أن الأخلاق الإسلامية هي الأخلاق العالمية الحقة.

 

تعريف العولمة

إن تعريف العولمة أمر شائك، يتنوع بتنوع توجهاته، فالاقتصادي يفهم العولمة بخلاف عالم الاجتماع، وكل منهما يفهم العولمة بخلاف السياسي أو المعلّم أو الصحفي أو غيرهم... لذلك أصبح من الضروري التمييز بين العولمة الاقتصادية، والعولمة السياسية، والعولمة الثقافية، والعولمة التربوية، والعولمة الإعلامية... فلا توجد إذًا عولمة واحدة، بل هناك عولمات عدّة تتفاوت في معانيها وتجلياتها في الواقع.

والعولمة المجرّدة أو بالأحرى الشاملة، كما يعرّفها رونالد روبرتسون، هي: (اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش). أمّا مالكوم واترز فيعرّف العولمة بأنها: (كل المستجدات والتطورات التي تسعى بقصد أو بغير قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد).

وبالنظر لتوجهاتها المختلفة نجد اختلاف التعريف وفق التوجهات، ومن تلك التعريفات على سبيل المثال ما يلي: العولمة فعل تاريخي متواصل، وهو حصيلة المعركة الجارية بين العالميات أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لها رسالة تحدد المثال الإنساني الأعلى.

العولمة تعني إزالة الحدود الاقتصادية والعلمية والمعرفية، ليكون العالم أشبه بسوق موحدة كبيرة، تضم عدة أسواق ذات خصائص ومواصفات تعكس خصوصية أقاليمها.

العولمة هي اتجاه الحركة الحضارية نحو سيادة نظام واحد، تقوده في الغالب قوة واحدة، والمقصود قوة الولايات المتحدة الأمريكية.  

 

تعريف التربية الخُلُقية

المقصود بالتربية الخُلُقية: السعي لتحقيق مجموعة المبادئ الخُلُقية، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الفرد ويكتسبها، ويتعود عليها، منذ تميزه وتعقله، إلى أن يصبح مكلفًا، إلى أن يتدرج شابًا، إلى أن يخوض في خضم الحياة.

 

ضرورة التربية الخُلُقية واهتمام الأمم بها 

لا شك أن التربية الخُلُقية من أولويات التربية لدى الدول على اختلاف أديانها وثقافتها للحفاظ على هويتها، فالأخلاق جزء من هوية الأمة، وتقوم التربية في تلك الأمم وفق الضوابط والأسس التي تحددها أديانها وثقافاتها، فبالأخلاق تبقى الأمم، وبعدها تزول. ولا يمكن أن نتصور أمة من الأمم لا تعتني بالتربية الخُلُقية للنشء فيها، وإلا فإن معنى ذلك انهيار الأمة وزوالها، يقول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت        فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

ويرى ابن خلدون أن انتشار الظلم والعدوان، والتسلط على أموال الناس، سبب في كساد الأسواق، وخراب العمران والأمصار.

 

والرأي نفسه يراه غوستاف لوبون، فيقول: «ونحن إذا بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها هو تغير مزاجها النفسي، تغيرًا نشأ عنه انحطاط أخلاقها، ولست أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها».

وتقدم الأمم وتطورها، مرهون بمدى اهتمامها بالتربية الخُلُقية، كما لا تأمن المجتمعات، ولا تسود الألفة بين أفرادها، ولا ينمو اقتصادها، إلا إذا كانت شعوبها على قدر كاف من التربية الخُلُقية. يرى ألبرت اشفيبشر في كتابه (فلسفة الحضارة) أنه إذا أريد للحضارة الدوام والاستمرار، وإبعادها عن عوامل الهدم، فلابد من بنائها على أساس أخلاقي بالتربية الأخلاقية.

ولو تأملنا في حال دولة من الدول المعاصرة في هذا الزمان، كاليابان مثلًا، لوجدنا أنها وصلت إلى مستوى عالٍ من التقدم والرقي؛ ولذلك سبب رئيس وهو اهتمامها بالتربية الأخلاقية، فالتربية الأخلاقية عندهم تدرس في جميع المراحل إلى مرحلة الجامعة نظريًا وعمليًا، ولما سئل وزير التعليم الياباني عن سر التقدم والتفوق الذي أحرزته اليابان، قال: «السر يرجع إلى تربيتنا الأخلاقية».

والاهتمام بالأخلاق قديم، فقد ظهر بعض الفلاسفة الذين يعنون بجانب الأخلاق في أرجاء مختلفة من العالم، من أمثال كونفشيوس، سقراط، أفلاطون، أبيقراط، وغيرهم.

وبدأ الاهتمام بالتربية الخُلُقية في علم النفس والاجتماع في أوائل القرن العشرين الميلادي، وكان من أبرز رواد هذا الموضوع هـ.هارتشورن H.Hartshorne و م.أ.ماي M.A.May اللذان كتبا عام 1929م بحثًا بعنوان: (دراسات في طبيعة الأخلاق) ثم تبعهما بياجيه Piaget السويسري، حيث كتب أول بحث عن التربية الأخلاقية عام 1932م بعنوان: (الأحكام الأخلاقية عند الطفل) ثم تزايد الاهتمام بالتربية الخُلُقية ونالت عناية أكبر.

وفي أواخر الستينات من القرن العشرين انتشرت الأبحاث في التربية الأخلاقية، حيث قامت مؤسسات متخصصة بهذا الموضوع. ومن ذلك (وحدة فارمنجتون للبحث في التربية الأخلاقية) في بريطانيا، ولقد وظف هذا المركز كلًا من علم النفس وعلم الاجتماع للبحث، وكان أول بحث أصدره بعنوان: (مقدمة في التربية الأخلاقية). وفي عام 1975م صدر مجموعة من الأبحاث ضمها مجلد بعنوان: (التقدم ومشكلات التربية الأخلاقية).

ولقد نبع الاهتمام بدراسة التربية الخُلُقية عند الغرب حينما أدركوا حاجة الفرد الماسة لذلك، وأن عدم نضج الطفل أخلاقيًا، وتمحوره حول ذاته وشهواته، هو جنوح وجرم، وليس خطيئة أصلية، وأن الطفل يولد بقابلية أخلاقية، وهناك نمو أخلاقي كالنمو الجسدي. في حين أنه كان يعتقد قديمًا– وفي إطار الثقافة النصرانية– أن الطفل يولد بضمير معين، مصحوب بغريزة صارمة، هي الخطيئة الأصلية، أي أن الطفل أو الإنسان مفطور على الفساد والانحلال، ولذلك لا فائدة من التربية الأخلاقية.      

 

عناية الإسلام بالتربية الخُلُقية

لقد عُني الإسلام بالتربية الخُلُقية عناية شديدة، ويتمثل ذلك في عدة نقاط كما يلي:

  • الترغيب فيها والثناء على أهلها، فقد وصفوا بكمال الإيمان لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا»، وأنهم من أحب الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقوله: «إن من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقًا».
  • أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: «تقوى الله وحُسْنُ الـخـلق» وكثرة الدرجات لقوله: «إِنَّ المؤمن لـيُدرك بحُسن خـلُقه درجةَ الصائم القائم».
  • الترهيب من سوء الأخلاق وذم أهلها. لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «... وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون».
  • كون نبي هذه الأمة نموذجًا للخلق البشري الكامل، لقوله سبحانه وتعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم».
  • إنه ما من خلق فاضل إلا وقد حث الإسلام عليه، وليس هناك من خلق سيء إلا وقد حذر منه، ولا غرابة في ذلك فالإسلام دين شامل كامل لنواحي الحياة، قال تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ».
  • جاء الإسلام بالتوجيه النبوي الكريم لاختيار الأبوين، وذلك أن يكون رب الأسرة ذا دين وخلق، بقوله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» لما لرب الأسرة من الأثر الكبير في التربية الخُلُقية لأفرادها. وكذلك الأم تكون ذات دين «فاظفر بذات الدين تربت يداك».
  • أن تحقيق مكارم الأخلاق من أهداف بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم- وقوله: «بُعِثت لأُتَمِّـمَ مَكارِمَ الأَخلاق».  

 

 

أهدف التربية الخُلُقية بين الإسلام والعولمة:

إذا نظرنا إلى هدف العولمة من التربية الخُلُقية نجد غاية ذلك إعداد الفرد ليعيش مع غيره ويستمتع بهذه الحياة الدنيا فقط، أما التربية الخُلُقية الإسلامية فتهدف إلى ما هو أبعد من ذلك، فهي تهدف إلى تحقيق حياة كريمة للفرد مع الجماعة في هذه الحياة، وكذلك تحقيق رضوان الله سبحانه وتعالى، والفوز بالنعيم، والنجاة من الجحيم يوم القيامة.

ويمكن القول إن العولمة- إن صح التعبير- تهدف من التربية الخُلُقية إعداد الموطن الصالح، وأما الإسلام فهو يهدف من التربية إلى الخُلُقية إلى إعداد الإنسان الصالح، وفرق كبير بين الهدفين، فالمواطن الصالح صلاحه نسبي على حسب معايير الوطن الذي يعيش فيه، فربما تكون بعض الرذائل عندهم فضائل، أو العكس، فالشاب أو الشابة في المجتمع الغربي على سبيل المثال الذين يتورعون عن الفواحش والعلاقات المحرمة، لا يعدون في مجتمعهم صالحين ذوي أخلاق فاضلة، إنما على العكس من ذلك.

وأما من حيث الأهداف الفرعية فإن المتأمل في أهداف العولمة وما يتعلق منها بالتربية الخُلُقية ليدرك أهدافًا كثيرة منها السلبية والإيجابية، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

أولًا، الأهداف السلبية

  • التوسع غير المحدود في الثقافات والتوجهات، مما يوقع في الحيرة والقلق.
  • الحد من الرقابة الخُلُقية على الناشئة.
  • سيطرة أخلاق الأقوياء على الضعفاء ولو كانت أخلاقًا فاسدة.
  • ذوبان الخصوصية الخُلُقية للأمم والشعوب.
  • فساد الأخلاق لعدم وجود هوية محددة وقواعد منضبطة في عولمة الأخلاق.

 

ثانيًا، الأهداف الإيجابية

  • إتاحة الفرصة لأولئك المحرومين من بعض المصادر القيمة التي تكون زادًا لهم في التربية الخُلُقية الهادفة.
  • إزالة الحواجز التي تحول بين بعض الأفراد وبين دراستهم لبعض النماذج البشرية التي اتسمت بالأخلاق الجميلة، بشكل عام أو جزئي.
  • إتاحة الفرصة للأفراد والجماعات للتقويم الخلقي، من خلال ما ينفتح لهم من ثقافة عالمية، ومعرفة بأحوال الناس، أفرادٍ وجماعات.
  • إتاحة الفرصة لمعرفة أخلاق الشعوب وتقييمها، ومعرفة نتائجها الإيجابية والسلبية.
  • مكافحة بعض الأنظمة الغاشمة التي تكون سببًا في نشوء وانتشار بعض أنواع الأخلاق السيئة.

 

والمتأمل في التربية الخُلُقية في الإسلام وما تهدف إليه من أهداف وغايات، يدرك أنه ما من صورة إيجابية في العولمة، إلا وجاء الإسلام بأكمل منها، وما من صورة سلبية إلا وجاء الإسلام بمحاربتها والتحذير منها. ومن أبرز أهداف التربية الخُلُقية في الإسلام ما يلي:

  • تحقيق رضوان الله سبحانه وتعالى ومحبته، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة».
  • تحقيق القرب من النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة.
  • العيش بسعادة في الآخرة، لقوله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا».
  • تحقيق الراحة والاطمئنان للفرد صاحب الخلق الحسن.
  • تحقيق الحياة الكريمة للبشر بأمن وأمان وسلام، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
  • السعي لتحقيق الكمال الخلقي في الإنسان، ويؤكد ذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
  • حفظ الضروريات الخمس: الدين، النفس، المال، العقل، العرض.

 

توجهات العولمة وتأثيراتها على التربية الخُلُقية

أيًا كان توجه العولمة سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا وفكريًا، فلها تأثيرها الكبير في التربية الخُلُقية، ويمكن إيجاز ذلك على النحو التالي:

أولًا، التوجه السياسي

التوجه السياسي للعولمة هو الذي يسعى بالعالم لأن يكون مسيرًا بقوة أحادية، وكان ذلك نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يشكل القطب الثاني في القوى العالمية، فكان العالم إلى حد ما يعيش متوازنًا بين قطبين. وأما اليوم فهو يتجه إلى سيادة القطب الواحد، وهي القوة التي تكون لها السيطرة في هذا العالم، ومن خلال هذا التوجه فإن هذه القوة المسيطرة تسعى إلى الحكم المباشر لشعوب العالم، أو غير المباشر من خلال الحكومات الموالية التي تفرض عليها تلك القوة المهيمنة ما تشاء من النظم والقوانين، بحجة السعي إلى مصلحة الشعوب، وتحقيق الديمقراطية والحرية. ولعل ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الزمان من احتلالها لبعض الدول العربية والإسلامية، ومطالبتها لدول أخرى بتطبيق نماذج معينة من أساليب الحكم هو من هذا القبيل.

ومن ناحية تأثير التوجه السياسي على التربية الخُلُقية، فيمكن التعبير عنه بالنقاط الآتية:

  • إن سلوك المجتمعات وأخلاقها تتأثر كثيرًا بالقرارات السياسية وضوابط الدولة، فتلك القرارات هي التي تجعل ذلك السلوك مقبولًا أو مرفوضًا بناءً على ما تعتقده أو تدين به، وهي التي تحدد الضوابط والعقوبات على أنواع السلوك الغير مقبول.

 

  • إن التوجه السياسي للعولمة يسعى إلى تحقيق ما يسمى بـ (الحرية) فمعنى ذلك أن هناك الكثير من السلوك المنحرف هو في تلك النظم الدولية يعد أمرًا طبيعيًا لا يعاب عليه، كالعلاقات الجنسية المحرمة، والشذوذ الجنسي الذي سمي مؤخرًا بـ (المثلية) الذي أصبح تنظيمه بشكل رسمي معترف به. وغير ذلك من الانحرافات الخُلُقية التي ترفضها الفطر السليمة فضلًا عن الدين القويم. ومما يشهد لذلك ما قام به حاخامات وأحبار اليهود الإصلاحيون على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، من قيادة لأكبر تظاهرة دينية في البلاد لإقرار زيجات الشواذ، وأجازوا قرارًا بأغلبية ساحقة في التجمع السنوي للمؤتمر المركزي للحاخامات الأمريكيين الذي يمثل 1.5 مليون يهودي. ويقول أحد الأمريكيين من سكان مدينة (نورث أمبيتون) مقرًا لتصرف الشاذات جنسيًا مبررًا ذلك بالحرية: «إنها أقلية طيبة من سكان المدينة ولا أشعر بأي قلق أو انزعاج منهن.. إننا هنا في مجتمع الحرية».

 

  • إن العولمة السياسية تسعى لفرض ما يسمى بـ(الديمقراطية) على شعوب العالم، وذلك له تأثيره على التربية الخُلُقية، فإن الديمقراطية السياسية تعني حكم الشعب للشعب، فإن المناصب السياسية تكون عن طريق الانتخابات، فهي تعتمد على قاعدة أغلبية الأصوات، وذلك كاف للانتخاب وسن القوانين. وليس بالضرورة أن يكون المنتخب الحائز على كثرة الأصوات هو الأصلح للقيام بشؤون الأمة، بل إن ذلك يتوقف على طبيعة الشعب وصلاحه فإن كان الشعب ذا توجه منحرف، فإن نتيجة الأصوات حتمًا ستعكس هذا التوجه، مما يؤدي إلى انتخاب قيادات تنحرف بدورها بسلوك المجتمع وتربيته الأخلاقية. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به الرئيس الأمريكي الأسبق من تأييد لمطالب الشواذ جنسيًا في المظاهرة التي قاموا بها بعد توليه منصب الرئاسة.

 

  • الهيمنة السياسية، فالعولمة السياسية هي في الحقيقة قهر للشعوب المستضعفة وإذلال لها مما قد يكون سببًا في إيجاد أنواع من الانحراف الأخلاقي كردة فعل لذلك القهر والإذلال، كما نشاهد في العصر الحاضر من ظهور جرائم جديدة، كما يسمى اليوم بالإرهاب، من إزهاق الأنفس، وإتلاف الممتلكات والأموال إنما هو إفراز للعولمة السياسية، أو هيمنة القوى العظمى.

 

  • توجيه السياسة لمناهج التربية والتعليم، فإن المناهج التربوية في كل أمة لها أثر بالغ في صياغة أخلاق الأفراد وسلوكهم، ولا بد أن يكون لها أهداف محددة يسعى واضعوها ومعلموها لتحقيقها، ومن هنا نعلم أن السلطات السياسية هي التي تقرر ذلك وتحدد أهدافه وفق توجهاتها، إذًا فإن السلطة السياسية لها تأثير كبير في نوعية أخلاق الأفراد.

 

كما لا ننسى الجانب الإيجابي من العولمة السياسية، المتمثلة في الديمقراطية، وهو التوجه لإزالة النظم السياسية الدكتاتورية المتسلطة على الشعوب، فتلك النظم بدورها، تنتج في تربيتها إفرازات أخلاقية فاسدة، فهذا النوع من النظم تصبح العولمة السياسية بالنسبة لها فرجًا ومخرجًا مما تعانيه من الظلم والتعسف، ومن أمثلة ذلك انهيار سور برلين الذي كان عازلًا بين شعب واحد انقسم رغمًا عن إرادته إلى شعبين... مورست ضد الشعب الألماني المنقسم كل الطرق الجهنمية لاستمرار انقسامه، والحيلولة دون وحدته، فكان انهيار ذلك الجدار هزيمة للدكتاتورية والتعسفية والتسلطية.

والإسلام بسياسته -في الأصل- ذو توجه عالمي، وفي توجهه هذا جاء بالسعادة الحقة للبشرية، فقد جاء بالوجه المشرق للديمقراطية قبل أن تعرفها النظم البشرية، فإن الحكم والسلطة في الإسلام ليست حكرًا على أحد بعينه، فالخلفاء الراشدون بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ- رضي الله عنهم- كان القرار لتعيينهم وإقرارهم هو للأمة بعد مشورة صادقة ونصيحة مخلصة.

وكان الأولى في السلطة في الدولة الإسلامية هو الأصلح: «وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» كما جعل نتيجة التمكين هو أيضًا العمل: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ»، فالسياسة الإسلامية لها أثر كبير في التربية الخُلُقية، ويتضح ذلك– على سبيل المثال- من الجوانب الآتية:

جاء الإسلام بالأخلاق الفاضلة للراعي والرعية، فالإسلام يُعلِّم القائد أخلاق السياسة والقيادة، فيرغبه في العدل مثلًا ويحذره من الظلم والجور، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر». وكذلك فهو يحارب فساد السلطة، ويحث على القيام بالمسؤولية، لقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته...». وقوله: «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة».

ويُعلِّم الشعب أخلاق الانقياد والتبعية التي تعود في مصلحة الأمة، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم-: «على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة».

ويغرس بين الراعي والرعية المحبة، لقوله- صلى الله عليه وسلم-: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم».

 

ثانيًا، التوجه الاقتصادي

التوجه الاقتصادي هو التوجه الغالب على العولمة عند الكثير، وهذا التوجه يعني تحرير الأسواق، ورفع القيود عنها وخصخصة الأصول، وما يتبع ذلك من حرية حركة السلع والخدمات والأفكار وتبادلها الفوري دون حواجز أو حدود بين الدول.

وحقيقة هذا التوجه هو بناء حضارة الشمال ورفاهية مجتمعاتهم الغربية على فائض النهب والاستعمار العالمي، وهم يمثلون اليوم 20% من سكان المعمورة، ويملكون ويستهلكون 86% من الإنتاج العالمي. والشركات المتعددة الجنسيات، ومتعدية القارات، التي تعولم هذا الاقتصاد العالمي، تقترض الدولارات من (وال ستريت)– حي المال والأعمال في أمريكا– بفائدة قدرها 6% ثم تقرض هذه الدولارات لبلاد الجنوب بفائدة تتراوح بين 20% و50%. الأمر الذي جعل استدانة الجنوب من الشمال تبلغ حد تمويل الجنوب للشمال، بدلًا من العكس، فقرض قصير الأجل لمصر، بلغت قيمته أربعة ملايين دولار، أصبحت قيمته الإجمالية– مع الفوائد- عند اكتمال السداد 22 مليونًا.

وفيما يتعلق بتأثير هذا الجانب على التربية الخُلُقية، فيمكن بيان ذلك – على سبيل المثال- من خلال النقاط الآتية: -

  • إن السلع ليست هي التي تتحرك وحدها بين الدول، بل تتحرك معها الثقافة والسلوكية، فتنتقل الأخلاق من بلد إلى بلد.
  • الدعايات التجارية وما تحمله من سلوكيات وأخلاق تركز في الغالب على الشهوات.
  • إن الاقتصاد المحرم شرعًا، يجد له رواجًا في العولمة الاقتصادية، اقتصاد الربا وتجارة الحروب والمخدرات، إنَّه اقتصاد السحت، وإنَّ العلاقة بين الفساد الأخلاقي واقتصاد السحت علاقة واضحة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: «لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»، كما أن السلع المحرمة، كالخمر- مثلًا- الذي تبيحه العولمة الاقتصادية، هو بنفسه ينحرف بالتربية الأخلاقية.
  • أما الاقتصاد الإسلامي ففيه قدر كبير من الحرية الاقتصادية، تلك الحرية التي ليس فيها تعد على حدود أحد ولا ظلم لأحد: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ». إن الاقتصاد الإسلامي لا يعتمد في النمو على نفسه، ولكنه يعتمد على مالك الملك سبحانه وتعالى، في حين أن الاقتصاد العالمي القائم على الربا يحمل حتفه على كتفه: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ». والاقتصاد الإسلامي فيما يتعلق بجانب الأخلاق يربي الأمة على كثير من الأخلاق الفاضلة، على التكامل الاجتماعي، والتآلف والمحبة بين الطبقات المختلفة اقتصاديًا، كذلك على حب المساعدة وقضاء الحاجات، ونحو ذلك من الأخلاق الفاضلة التي لا يمكن أن تحققها عولمة الاقتصاد.

 

ثالثًا، التوجه الاجتماعي 

التوجه الاجتماعي للعولمة يسعى إلى صياغة عالمية لشكل الأسرة، وتحديد نظامها، والعلاقة بين أفرادها، وكذلك علاقتهم بالمجتمع، ويتمثل التأثير الخلقي في هذه الجوانب بما تدعو إليه تلك المؤتمرات العالمية التي وجهت معاولها لهدم الكيان الاجتماعي السليم، الذي تعيشه بعض الأمم وبالأخص الأمة الإسلامية، التي أصبح الكيان الاجتماعي فيها محكومًا بقوانين إلهية وضوابط شرعية، جعلت منه كيانًا سليمًا نزيهًا يحقق الأمن والاستقرار والسعادة للفرد والأسرة والمجتمع.

 إلا أن هذا الكيان الاجتماعي لم يرق للتوجه العالمي، فاتجه إلى محاولة إيجاد كيان اجتماعي جديد، مصوغًا وفق الرغبات والشهوات، قد انهارت فيه القيم الأخلاقية، كالمؤتمر العالمي للسكان والتنمية، القاهرة في سبتمبر 1994م. ومؤتمر المرأة، بكين في سبتمبر 1995م. ومؤتمر الإيواء البشري، استنبول في 1996م. وغيرها من المؤتمرات المشبوهة.

ولقد تمخضت هذه المؤتمرات عن جملة من القرارات والتوصيات التي قوضت أخلاق المجتمعات السليمة، واستبدلت بها جملة من السلوك الأخلاقي الشاذ، الذي ترفضه الفطر السليمة، فضلًا عن الدين، فإن وثيقة بكين- مثلًا- تطالب بحق المرأة في التمتع بحرية جنسية آمنة مع من تشاء وفي أي سن تشاء، وليس بالضرورة في إطار الزواج الشرعي فالمهم هو تقديم المشورة لتكون هذه العلاقات مأمونة العواقب من ناحية الإنجاب والإصابة بمرض الإيدز.

هذا أنموذج لما تسعى إليه العولمة في هدم كيان الأسرة التي هي المحضن الأول للتربية الخُلُقية للفرد، والأم هي المعلمة الأولى له، قبل الأب وسائر المعلمين، فإذ فسدت أخلاقها، وتركت مكان تربيتها، وسعت خارج منزلها تزاحم الرجال في أعمالهم بل وتشاركهم في زوجاتهم، تاركة المجال لزوجها مع عشيقة أخرى، والأولاد في مهاوي الردى ومنبت الرذيلة.

ونتيجة لذلك فقد سقط الغرب في وحل سيء الأخلاق فانتشرت فيهم الفاحشة، وعمت بينهم الجريمة، فعلى سبيل المثال ارتفعت نسبة الطلاق وانتشر أولاد السفاح، ففي المملكة المتحدة عام 1994م وجد 32% من الولادات حصلت خارج بيوت الزوجية، وفي فرنسا 35%، وفي الدانمارك 47%، وفي السويد 50%.

والعولمة الاجتماعية لها تأثير كبير على التربية الخُلُقية من جوانب عدة، منها:

  • هدم كيان الأسرة، وعدم التركيز على الرابط الصحيح بين ركنيها: الأب والأم.
  • عدم وجود التوجيهات الكافية للأب برعاية الأبناء خلقيًا.
  • عدم وجود التوجيهات الكافية للأم في رعاية الأبناء خلقيًا.
  • عدم وجود التوجيهات الكافية للأبناء في علاقتهم بالآباء وبقية أفراد الأسرة.
  • العلاقات الاجتماعية في عصر العولمة تقوم في الأساس على المصالح الدنيوية.

  

أما الإسلام فقد جاء بنظام اجتماعي متكامل، يقوم على أسس متينة من الأخلاق الفاضلة، فالأسرة هي الكيان المصغر للمجتمع، وتتمثل هذه العناية بجملة أمور منها:

  • حث الأبناء على بر الأبناء بالوالدين «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...»
  • وصية الوالدين بالأولاد: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ».
  • وصية الزوج بزوجته «خيركم خيركم لأهله»، والزوجة بزوجها «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها».
  • تقوية الروابط الاجتماعية سواء بين الأقارب أو الجيران أو كافة أفرد المجتمع.
  • الحث على الأخلاق بين أفرد المجتمع بأسره: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره»، وغيره الكثير والكثير من الأخلاق الفاضلة التي تؤلف المجتمع، وتكفل مصلحة الجميع.

 

رابعًا، التوجه الثقافي والفكري

التوجه الثقافي والفكري يعني: زيادة معدل انتقال المعلومات والأفكار، وأنماط السلوك الإنساني والقيم.. وزيادة انفتاح المجتمعات بعضها على البعض الآخر. ويمكن القول: إن العولمة الثقافية هي الانتقال من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية، إلى ثقافة جديدة، هي الثقافة العالمية أو الكونية.

وحقيقة القول إن هذا لا يعني انتقال إنما هو (ثقافة الاختراق التي تتولى عملية تسطيح الوعي، واختراق الهوية الثقافية للأفراد والقوميات والأمم).  

إن الثقافة التي تمتلك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت، مما يؤدي إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق، وخاصة لدى الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد، والحصانة الذاتية، فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة، وأغان ورقص وأزياء، وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة، مما يؤثر تأثيرًا واضحًا على المعتقدات والقيم، وبما يعرض بقوة وبمهارة من قيم مجتمع أجنبي، وتصرفات غير مقبولة في مجتمعاتنا نحن المسلمين...إن الكلمة المؤثرة قديما فقدت كثيرًا من تأثيرها، وحلت محلها الصورة التي لا يقف حاجز اللغة أمام تأثيرها، فالذي لا يفهم اللغات الأجنبية يكتفي بالصورة المعبرة.

وليست القنوات المشار إليها في هذه المقولة بأخطر على التربية الخُلُقية من ثورة الإنترنت التي فتحت المجال أمام كل مرسل ومستقبل لإرسال ما يريد واستقبال ما يشاء، فإن كانت تلك القنوات الإعلامية يمارس فيها شيء من الرقابة أو الانضباط المؤسسي على الأقل، فإن مواقع الإنترنت تفتقر لذلك، تضعف أو تنعدم فيها الرقابة سواء عند المرسل أو المستقبل، مما يشكل خطرًا كبيرًا على التربية الخُلُقية لدى المستهلكين.

ويمكن القول إن عولمة الثقافة والفكر تؤثر في التربية الخُلُقية من جوانب عدة، ومنها:

  • أن هناك كمًا هائلًا من المعارف والمعلومات والسلوكيات يتم إنتاجه بصفة مستمرة كل يوم، بل كل دقيقة ولحظة.
  • القدرة الفائقة على نقل المعلومات وتداولها، قدرة تتجاوز الحدود والبيوت وكل الحواجز الممكنة، الأمر الذي يعني في حقيقة الأمر إضعاف سلطة وسيادة الدولة على حدودها.
  • أن الغرب هو منتج المعلومات بالدرجة الأولى، وهو منتج تقنية المعلومات، فإنه يقدر أن 80% من المعلومات التي تتداولها وسائل الإعلام في العالم الإسلامي هي منتجة من الغرب، لذا نحن نقرأ واقعنا العربي والإسلامي وواقع العالم من حولنا بعين أوروبية غربية في حدود 80%.
  • أن عولمة الثقافة تخدمها ثورة الاتصالات التي تعتمد على الإلكترون، فهو قادر على النفاذ إلى أي مكان، ولا يمكن إخضاع حركته أو إخضاعه لرقابة من أي نوع، وهو ليس عابرًا للقارات والحدود فحسب، وإنما يخترق جدران البيوت، ويصل إلى مجالسهم ومخادعهم. ولهذا قال رئيس المخابرات الأمريكي جون دايت سنة 1996م: «إن الإلكترون أصبح الآن هو السلاح الأمثل لإصابة الهدف بدقة بالغة».

 

أما الإسلام فإنه لا يحجر على فكر الإنسان ولا يمنعه من الثقافة، بل يدعو إلى التأمل والتفكر وزيادة المعرفة بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة. فهو دين تعلم وتعقل وتفكر، وقد أمر الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز بدعاء بالزيادة في العلم: «وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» والكثير من الآيات القرآنية ختمت بالدعوة إلى التفكر والتعقل. وذلك فيه تمييز للمعلومات وتمحيص حسنها من سيئها، في حين أن العولمة الثقافية والفكرية، لا تملك التمييز الصحيح بين الحسن والقبيح.

كما أن الإسلام لا يمانع من الاستفادة من تلك التقنيات، وثورة الاتصالات، بل إنه من المحمود فيه أن يتجه أتباعه إلى إنتاجها، وبرمجتها وفق ما يحقق للعالم الأخلاق الفاضلة الحميدة، والمنفعة في الدنيا والآخرة، بدلًا من أن تكون تلك الثورة، ثورة عارمة لا زمام لها، ولا رادع يردعها، تخلط بين الخير والشر، ولا تفرق بين الحق الباطل. ويمكن القول إن التوجه في الإسلام يؤثر في التربية الخُلُقية من جوانب عدة، منها على سبيل المثال:

  • توفر المصادر الصحيحة في الثقافة الخُلُقية.
  • الحث على اكتساب الثقافة النافعة للإنسان، والبعد عن الضار منها.
  • وجود المعايير السليمة لتمييز الثقافة والأفكار.

 

عالمية الأخلاق الإسلامية

إن العولمة أمر واقع لا يمكن رده أو التغاضي عنه، ولكن يجب أن ندرك أن العولمة لا تحمل منهجًا أخلاقيًا للعالم، كما جاءت تحمل منهجًا سياسيًا واقتصاديًا، والذي بجب أن ندركه أيضًا أن الإسلام ليس جديد عهد بالعالمية أو العولمة، إنه حمل هذا التوجه منذ بدايته وظهوره، فالدين الإسلامي وما جاء به من النظم له خاصية العالمية، فهي نظم عالمية تتميز بعالمية الزمان وعالمية المكان، فعالمية الزمان تعني أنها صالحة إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني أنها صالحة على أي جزء من أجزاء المعمورة. فهي صالحة للناس جميعهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، ولقد جاءت الآيات والأحاديث ببيان هذه الصفة، ومن ذلك:

قوله سبحانه: «ومَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ»، وقوله: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا». وقوله: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»

 ومن السنة ما ورد عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».

وكذلك كون هذا الدين هو آخر الأديان، ولا دين بعده، فلا بد أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة. كما أن المصدر الأصلي لهذا الدين- وهو القرآن- بقي سليمًا لم تمسه يد التحريف والتبديل لدليل قاطع أيضًا على عالمية هذا الدين وأنظمته باختلاف أنواعها.

ولقد مارست الحضارة العربية الإسلامية ضربًا فريدًا من العولـمة، وعولـمة اليوم ضربٌ آخر! صحيح أن العولـمة اليوم قد تغير اتجاهها، فأصبحت متجهة من الغرب إلى الشرق بعد أن كانت عولـمة الأمس متجهة من الجنوب إلى الشمال…وصحيح أنها قد تغيرت سرعتها، فأصبحت اليوم تنتشر بسرعة لا يكاد يلحق بها الخيال…ولكن تغيـير الاتجاه أمر ينطلق من فطرة هذا الكون: «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس»، وتغيـير السرعة لا يغير من طبيعة العملية أو من طبيعة الـحدث، ولكنه- كما يقول الدكتور مراد هوفمان- يجعلها مخيفة أكثر، فالسيارة التي تسير في العادة بسرعة أربعين ميلًا في الساعة، إذا ضاعفت سرعتها ثلاثة أضعاف أو أربعة، أصبحت مخيفة حقًا، وزادت حوادثها وصدماتها، وزلزلت ما تصادفه في طريقها، ولكن ذلك كلَّه لا يغير شيئًا من كونها سيارة كسائر السيارات، تجري لـمستقر لها يعلمه الله.

وما دام الأمر كذلك أن العالمية أو العولمة من طبيعة الإسلام، بكافة جوانبه، ومن بينها الجانب الخلقي، فإنه مؤهل لعولمة أخلاقه لاعتبارات أخرى منها ما يلي:

  • أن جميع الخلق عبيد لله سبحانه وتعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا»، وهذا يعني أن البشر يجب عليهم أن يلتزموا ما أمرهم به الله سبحانه وتعالى، وأن يجتنبوا ما نهاهم عنه من تلك الأخلاق.
  • أنها أخلاق ربانية في وجهتا وفي مصدرها، فأما الأول فإن المسلم يبتغي بخلقه وجه الله سبحانه وتعالى «تبسمك في وجه أخيك صدقة» فكل خلق حسن يصدر من المسلم مبتغيًا بذلك وجه الله يثاب عليه، وأما الجانب الآخر فإنه رباني المصدر، ومعنى ذلك أن مصدر هذه الأخلاق هو كتاب رب العالمين، ومما يدل على كونه منهج أخلاق قول عائشة- رضي الله عنها- عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن خلق النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن».
  • أنها توافق الفطرة البشرية السوية.
  • وجود النموذج البشري العالمي، وهو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي وصفه ربه بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» فليست تلك الأخلاق أخلاقًا نظرية، بل هي واقعية متمثلة في حياة ذلك القدوة.
  • الشمولية في جميع الجوانب، فما من خلق فاضل إلا وحث الإسلام عليه، وما خلق ذميم إلا ونهى الإسلام عنه، ومما يدل على هذا قوله سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ». حتى الأمور اليسيرة في حياة البشر التي لم تلتفت لها العولمة، وتتأفف عند الحديث عنها- كقضاء الحاجة مثلًا- جعل الإسلام لها آدابًا وأخلاقًا، فعن سلمان الفارسي- رضي الله عنه- قال: «إِنِّي أَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ حَتَّى يُعَلِّمَكُمُ الْخِرَاءَةَ، فَقَالَ: أَجَلْ إِنَّهُ نَهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ، أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ، وَقَالَ: لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ».
  • وجود الدوافع والموانع الكاملة، فالدوافع تتمثل فيما يترتب على حسن الخلق من الجزاء في الدنيا والآخرة، والموانع تتمثل فيما يترتب على سوء الخلق من العقاب في الدنيا والآخرة.
  • وجود دستور كامل لهذه الأخلاق ليس فيه نقص ولا خلل ولا تحريف، المحفوظ إلى قيام الساعة، وهو القرآن الكريم، وكذلك السنة المظهرة.
  • أنها أخلاق واقعية وليست مثالية، فقد جاء في التعاليم النصرانية مثلًا شيء من المثالية، كمطالبة الإنسان بالتنازل عن حقه وماله إذا سلب منه، ومن تعاليمهم في ذلك: (من جذبك من طرف ردائك فاترك له الثوب كله)، ومنها (من سرق قميصك فأعطه إزارك). أما في الإسلام فإن الإنسان مطالب بالحفاظ على ماله وهومأجور على هذا، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «من قتل دون ماله فهو شهيد». وسأل رجل النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟» قال: «فلا تعطه مالك» قال أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: «أرأيت إن قتلني؟» قال: «فأنت شهيد» قال: «أرأيت إن قتلته». قال: «هو في النار». والنصرانية تطالب المظلوم بعدم مقاومة الظلم والعدوان، فمن تعاليمهم (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر). وأما في الإسلام فيقتص للمظلوم من الظالم كما في قوله سبحانه: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ» وقوله: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ»، ومع هذا فإنه يحث على العفو كما في قوله سبحانه: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ».
  • أنها أخلاق معتدلة، ليس فيها إجحاف بحق أحد، في حين أنه كانت بعض الأمم تقدس الملوك على حساب الشعب المظلوم، فملوك بلاد الفرس– على سبيل المثال– أقنعوا الناس أن دماء الآلهة تجري في عروقهم، لذلك كان كل ما في البلاد ملكًا لهم، فعاشوا حياة الترف، بينما بقي الشعب المسكين يعاني البؤس والشقاء. وفي مصر القديمة كان التقديس للملوك عندهم قد بلغ مبلغًا كبيرًا، فهم يسجدون للملك، ويعتقدون أنه من سلالة الآلهة، وكل مهمة مجلس الشيوخ تأكيد كل ما يقوله الملك.
  • أنها تقوم على أساس العدالة بين البشر: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فالتربية الخُلُقية الإسلامية إذًا هي التربية التي تمتلك المقومات العالمية والأهداف السامية، وبالتالي هي التي يجب أن تسود العالم، ولكن متى؟ إذا أدرك المسلون ذلك وكانوا دعاة بأخلاقهم، قبل أن يكونوا دعاة بأقوالهم.

 

توصيات

يوصي الباحث في الختام بالتالي:

  • أن تهتم الدول الإسلامية بالتربية الخُلُقية وتدريسها في مدارسها، وذلك صيانة للأمة وحضارتها.
  • أن يسعى التربويون المسلمون لإبراز النظريات الأخلاقية الإسلامية وعولمتها.
  • عدم المبالغة في النظريات الأخلاقية الغربية والاعتماد عليها.
  • السعي لاستنباط نظريات أخلاقية من المصادر الإسلامية الأصيلة وعلى رأسها الكتاب والسنة.
  • القيام بدراسات جادة لمعرفة حجم التأثير الخلقي للعولمة، وإيجاد الوسائل الكفيلة بالحد من التأثير السلبي، والحلول المناسبة للفساد الخلقي.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم