الإمام (الغزالي) -رحمه الله- (450هـ - 505هـ/ 1058م - 1111م) من رواد التراث التربوي الإسلامي الذين دارت حول أفكارهم دراسات وأبحاث عديدة وحلقات نقاش وعمل كثيرة نظرًا لما تتمتع به هذه الآراء من حيوية وتفاعل من ناحية التربية المعاصرة.
ورسالة (أيها الولد) ضمن مجموعة الرسائل التي كتبها الإمام الغزالي والتي تبلغ ستة وعشرين رسالة، وهذه الرسالة اختارها الباحث التربوى الدكتور عبد الله حسان، لأنها تمثل رسالة مزدوجة الهدف للمُتعلم والمُعلم على السواء، كما أنها تحتوي على العديد من الأفكار والآراء التربوية التي يحتاجها نظامنا التربوي المعاصر، وتتضمن أيضًا الحلول لعدد من مشكلاتنا التربوية المعاصرة مثل: الأزمة الأخلاقية، وأزمة البحث العلمي، وأهداف وفلسفة التعليم.
التعريف بالإمام الغزالي
أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الشافعي، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري (450هـ - 505هـ). كان فقيهًا وأصوليًا وفيلسوفًا، وكان صوفيّ الطريقةِ، شافعيّ الفقهِ إذ لم يكن للشافعية في آخر عصره مثلَه، لُقّب الغزالي بألقاب كثيرة في حياته، أشهرها لقب (حجّة الإسلام).
كان له أثرٌ كبيرٌ وبصمةٌ واضحةٌ في عدّة علوم مثل الفلسفة، والفقه الشافعي، وعلم الكلام، والتصوف، والمنطق، وترك عدداَ من الكتب في تلك المجالات.
ولد وعاش في طوس، ثم انتقل إلى نيسابور ليلازم أبا المعالي الجويني (الملقّب بإمام الحرمين)، فأخذ عنه معظم العلوم، ولمّا بلغ عمره 34 سنة، رحل إلى بغداد مدرّسًا في المدرسة النظامية في عهد الدولة العباسية بطلب من الوزير السلجوقي نظام الملك.
في تلك الفترة اشتُهر شهرةً واسعةً، وصار مقصدًا لطلاب العلم الشرعي من جميع البلدان، حتى بلغ أنه كان يجلس في مجلسه أكثر من 400 من أفاضل الناس وعلمائهم يستمعون له ويكتبون عنه العلم.
وبعد 4 سنوات من التدريس قرر اعتزال الناس والتفرغ للعبادة وتربية نفسه، فخرج من بغداد خفيةً في رحلة طويلة بلغت 11 سنة، تنقل خلالها بين دمشق والقدس والخليل ومكة والمدينة المنورة، كتب خلالها كتابه المشهور إحياء علوم الدين كخلاصة لتجربته الروحية، عاد بعدها إلى بلده طوس متخذًا بجوار بيته مدرسةً للفقهاء.
بعد أن عاد الغزالي إلى طوس، لبث فيها بضع سنين، وما لبث أن تُوفي يوم الاثنين 14 جمادى الآخرة 505هـ، الموافق 19 ديسمبر 1111م، في (الطابران) في مدينة طوس.
معنى التربية
يحدد الغزالي أولا معنى التربية، فيرى أنها تلك العملية التي (تشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه)، ويتضح من هذا المعنى إشارة الغزالي إلى مرونة الطبيعة الإنسانية للفرد فهي ليست جامدة لا تتغير بل تكتسب من الصفات ما ليس فيها ويمكن تغيير ما بها من صفات وإضافة أخرى، فالإسلام يقف موقفا وسطا فالطبيعة الإنسانية ليست خيرة وليست شريرة وإنما هي استعدادات وقدرات قابلة للتشكيل والصياغة ومن خلال تفاعلها يتحدد صفتها بالخير أو بالشر، فليست هناك طبيعة إنسانية خيرة أو شريرة فبقدر ما تحقق الطبيعة الإنسانية من نجاح وتوفيق بقدر ما تكون خيرة وبقدر ما تفشل وتخفق بقدر ما تكون شريرة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:3]، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس:9ـ10].
وتؤكد إحدى الدراسات حول النظام التربوي العربي أن «نظم التعليم العربية غير قادرة بوضعها الحالي على تلبية الاحتياجات والمتطلبات الحالية للمجتمعات العربية، وبالتالي فهي غير مستعدة بوجه عام لمواجهة متغيرات وتحديات المستقبل، فتعلم المستقبل في الدول العربية يحتاج إلى تصور جديد، ويتطلب ضرورة التحرك نحو تقديم إطار عام ومستقبلي لمواجهة تحديات القرن القادم، وما سيشهده من ثورات، يصعب أن يقف النظام التعليمي منعزلا عنها».
ويتضح -أيضا- من معنى التربية عند الغزالي في قوله «ليحسن نباته ويكمل ريعه»، أن التربية إنما هدفها النهائي هو إعداد الإنسان الصالح ويجب أن تبنى التربية منهاجها ونظمها وتقوم فلسفتها من أجل تحقيق هذا الهدف، وإعداد هذا الإنسان الصالح في نظامنا التربوي المعاصر لا يزال يعاني من أزمة تتمثل في غياب الفلسفة العامة التي تحكم هذا النظام وغياب ما تتضمنه هذه الفلسفة العامة من قيم وتصورات ومفاهيم تنطلق من مركزية (التوحيد) أو (العقيدة) التي يؤمن بها المجتمع، بالإضافة إلى غياب الخطط والاستراتيجيات والأهداف التي تتفق واحتياجات المجتمع العربي والإسلامي المعاصر من جهة والمتغيرات العالمية المعاصرة والمستقبلية من جهة أخرى.
جوانب التربية
الجانب العقدي من التوجهات الغالبة في رسالة (أيها الولد)، ويهدف الغزالي في هذا الجانب إلى تكوين اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعه، فالإعداد العقدي للطالب/ المعلم أهم ما أكدت عليه هذه الرسالة.
وقد أشارت في تكوين هذا الاعتقاد الصحيح إلى مفاهيم مهمة، مثل العبودية والتوكل فيقول الغزالي: «ثم تسألني عن العبودية، وهي ثلاثة أشياء: أحدها محافظة أمر الشرع، وثانيها الرضاء بالقضاء والقدر وقسمة الله تعالى، وثالثها ترك رضاء نفسك في طلب رضاء الله تعالى. وسألتني عن معنى التوكل: هو أن تستحكم اعتقادك بالله تعالى فيما وعد، يعنى تعتقد أن ما قدر لك سيصل إليك لا محالة، وإن اجتهد كل من في العالم على صرفه، وما لم يكتب لك لن يصل إليك وإن ساعدك جميع العالم».
ومن مظاهر التوكل التي ذكرها الغزالي: أن لا يُذل الإنسان نفسه لكائن من كان بغية الرزق ، فيذكر في هذا ما حاكاه الشبلي بقوله: «إن رأيت كل أحد يسعى ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش بحيث يقع به شبهة وحرام، ويذل نفسه، وينقص قدره، فتأملت في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [هود:6]، فعلمت أن رزقي على الله تعالى، وقد ضمنه فأشتغلت بعبادته وقطعت طمعي عمن سواه»، أما عن التقوى فيشير الغزالي إلى ما حكاه الشبلي -أيضًا- قوله: «إني رأيت بعض الخلق ظن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاغتر بهم، وزعم آخر أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد فافتخروا بها، وحسب بعضهم أن الشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم، واعتقدت طائفة أنه في ائتلاف المال وإسرافه وتبذيره، وتأملت في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات:13] فاخترت التقوى، وأعتقد أن القرآن حق صادق وظنهم وحسبانهم كله باطل زائل».
حقيقة العقيدة
ويؤكد الغزالي على حقيقة العقيدة وأنها لا تتحصل إلا بالمجاهدة الصادقة حتى يطهر الإنسان نفسه وقلبه ويكونان خالصين لله تعالى فيقول في رسالته: «أيها الولد اجعل الهمة في الروح، والهزيمة في النفس، والموت في البدن، لأن منزلك القبر، وأهل المقابر ينتظرونك في كل لحظة متى تصل إليهم، إياك إياك أن تصل إليهم بلا زاد. وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: «هذه الأجساد قفص الطيور، واصطبل الدواب، فتفكر في نفسك من أيهما أنت؟ إن كنت من الطيور العلوية فحين تسمع طنين طبل: ارجعي إلي ربك تطير صاعدًا إلي أن تقعد في أعالي بروج الجنان كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اهتز عرش الرحمن من موت سعد بن معاذ»، والعياذ بالله إن كنت من الدواب كما قال تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: 179] فلا تأمن انتقالك من زاوية الدار إلى هاوية النار».
ويرشد -الغزالي- الطالب والمعلم إلى طريق المجاهدة ومنه الصلاة بالليل والاستغفار في ذلك أيها الولد: «ومن الليل فتهجد به أمر، وبالأسحار هم يستغفرون شكر، والمستغفرون بالأسحار ذكر».
للإطلاع على رسالة "أيهال الولد" كاملة:
.